Friday 29th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    26-Mar-2021

أماني سليمان وصنعة القصة القصة القصيرة

 الدستور-د. إبراهيم خليل

 
 
 
لا ريب في أن كتابة القصة القصيرة صنعة كغيرها من الصنائع، تحتاج إلى الموهبة، والدربة، والخبرة، والممارسة، فكلما ازدادت ممارسة الكاتب الموهوب لكتابة القصة تعاظمت لديه المهارات، وتعمق الاتقان. هذه الخاطرة تداعت في ذهني وأنا أقرأ المجموعة القصصية «شخوص الكاتبة» لأماني سليمان. بعد الذي قرأته لها في جوار الماء (2018)، وفي غيمة يتدلى منها حبل سميك (2020) ولأن هذه المجموعة من بواكيرها (2011) فقد لفتت نظري بما فيها من حكايات مكثفة تجري روايتها بلغة بسيطة، وعفوية، كعفوية الطفل، أو الطفلة، إذ يتذكران الماضي، وشقاوة الصبيان في الحارة، وعلى السطوح، لا سيما في المواسم التي يغطي فيها بياض الثلج الناصع الشوارع، والطرقات التي تتلوى بين البيوت، والدكاكين، تلوي الأفاعي.
 
 القارئ والتكملة
 
ففي القصة الأولى التي افتتحت بها المجموعة، وعنوانها «السَطح» لا يجد القارئ حكاية بالمعنى التقليدي، وإنما هي دفقٌ شعوري تعود به الساردة إلى الأيام التي كانت فيها صغيرة تلهو مع أترابها بالثلج، ولكن هذه الخواطر ما إن يومض بريقها في أفق المتخيَّل حتى تتمخض عن حكاية (خيرية) ابنة الجيران، وحكاية (أبو محمد) الجار الذي توفي منذ زمن، وحكاية (انتصار) التي زوّجت صغيرة لما تبلغ السادسة عشرة، وحكاية (التينة) التي تظلل بيت أم محمد، وثمرها الشهي الذي يزري طعمه بمذاق التين الذي يباع في الأسواق. تلك التينة التي أخنى عليها الدهر بعد الزحف العمراني على معالم الضاحية، وهدْم المنزل، إلا أنها مع ذلك عصيَّة تتأبى على الاجتثاث، فعلى الرغم من أن كثيرا من البيوت أزيلت، ونهضت مكانها مبانٍ عالية متعدِّدة الطوابق، إلا أنهم عجزوا عجزًا فاضحا عن اقتلاع جذور تلك الشجرة، ولم يبق في محيط السطح الذي تقاذف الصغار الثلج منه غير بقايا تلك التينة شاهدة على ماضٍ تولى، وحاضر بائس يتجلى في تلكم الآليات التي جيء بها لتهدم، وتجتث، البيت الذي هو موطن الذكريات الحميمة، والألفة، والجوار، ويقتلعونه من أساسه، ويقتلعون بذلك الكثير من اللحظات التي عاشها الناس، وما زالوا يعيشونها بشغَف.
 
هذه القصة بناءٌ فني يتضمن سلسلة من الحكايات المتداخلة، التي تكتفي فيها الكاتبة بإشارة عابرة لكل حكاية، تاركة للمتلقي أن يضيف بنفسه التكملة. وبهذا النوع من الكتابة تتخلص- أولا - من عبء التفاصيل، وتراعي- ثانيا - مبدأ التعاون بين القاص والمتلقي، فهو الذي يضيف ما لم يُذكر من الحكاية، مُملِّسًا ثقوب النص.
 
وهذا الشيء يتكرر في قصة أخرى بعنوان (سيِّدة البهارات) فاختارت المؤلفة فتاة صحفية، يوقظها المنبه قاطعا حلما جميلا كان يراودها في غفوة الصباح اللذيذة. وتسارع بعد هذه الومضة لتقول على لسان الراوي إنَّ الفتاة تشق طريقها نحو عملها المعتاد، فحذفت جل ما يقتضيه التفصيل من ذكر للتهيؤ قبل الانطلاق. فعبارة مثل «كعادته.. الشارع مزدحم.. وسير المركبات بطيء» عبارة تعلمنا بأنّ الفتاة غادرت المنزل بسيارتها الخاصة، متَّجهة نحو الصحيفة. ومن صوت المذيعة المفتعل نستنتج أن لهذه الفتاة المتبرِّمة بالأوضاع العامة موقفا من جلّ ما يقال. فلا تفلح الموسيقى، ولا الأغاني العاطفية، في تبديد التجهُّم، والكآبة، اللذين يخيمان عليها في ذلك الصباح. وتواصل الكاتبة الاتكاء على تقنية الحذف من المشهد السردي، فهي من باب السيارة إلى داخل المكتب، وفنجان القهوة، والنظر في الصحف، وشبكة الانترنت، لتتم الموضوع الذي سيتصدر غلاف العدد الجديدة من الجريدة. ومع أن ذلك يقتضي بعض التفاصيل، إلا أنَّ المفاجأة التي تثير القارئ هي قول الفتاة: يا للصحافة الأسبوعية.. طعام بايت!! وهذه العبارة - تعقيبًا على ما سبق- تنمُّ عن الكثير مما ينبغي للقارئ أنْ يستكمله؛ فالأخبار، والتقاريرُ، يبدو أنها لا تروق لهذه الصحفيّة، لذا وصفتها بما يوصف به الطعام إذا مر عليه زمنٌ ولم يعد مُستساغًا، وهذا يؤذن بتحولات دراماتيكية في القصة، فما الذي يجري في الجريدة؟
 
 تحوّلات
 
تعود بنا العبارة المذكورة إلى نبْرة التبرُّم التي غلبت على الفتاة عند سماع المذيعة من مذياع السيارة. فالأخبار، والموضوعاتُ، برأيها متكررة. وإيهام السامعين، أو القراء، بأن الأخبار جديدة كإيهام الجائعين بأن الطعام البائت الذي يُقدم لهم جديد بإضافة المزيد من البهارات إليه. فالأمران سيّان؛ تذرُّ الزيادة على الأخبار مثلما تذرُّ البهارات على الأطعمة. وتوشك الكاتبة بهذا التحوُّل أن تنطلق من التلميح إلى التصريح، متهمة الصحافة بتزييف الموضوعات، والتقارير، والأخبار، من أجل استثارة فضول القراء، وإيهامهم بأنهم يقرؤون موضوعاتٍ جديدة، وأخبارًا أكثر جدة. فالقصة - من حيث هي بناء- بدأت تقترب من مبدأ المشاكلة، والتوازي، فما يجري في أخبار الصحف يجري في الطعام؛ مزيد من التبْهير: فلفل أسود، قرفة، بهارات مشكلة، كيري، ورق غار، كبش قرنفل، ولهذا تبادر الكاتبة للانتقال بنا من مبنى الصحيفة إلى المطبخ، دون تمهيد، أو تفصيل يتطرق لكيفية الانتقال، مستخدمة مبدأ الحذف غير المُعْلن. فالعُلبُ الخاصة بالبهارات تصفُّ، لتهيئة مأدبة الغداء، فيما شقيقها يذكِّرها بضروة وضع المزيد منها، تمامًا مثلما ذكَّرها رئيس التحرر بزيادة التبْهير على الأخبار لتبدو مثيرةً، وجديدةً، فرئيس التحرير والشقيق لكل منهما حرْصُه على التبهير.
 
 مبدأ التوازي
 
تغادر الصحفيَّة – مساءً- كلا من المبنى الخاص بالجريدة، والخاص بالأسرة، إلى إحدى المقاهي في عمان الغربية، حيث عددٌ من صديقاتها يتسامرْن. تجدر الإشارة - ها هنا – إلى أن الكاتبة تدرَّجت في متواليات هذا السرد القصصي من الصباح حتى المساء، من الحلم إلى الحلم، ولم تذكر شيئا مفصلا عمّا وقعَ، وجرى، من حوادث بين الغداء والعشاء على سبيل المثال. فهذا الحذفُ من إطار الحكاية يدفع بالقارئ لاستخدام تقنية الحفْظ، والاسترجاع، وتقنية التوقُّع والتنبؤ، فيملأ الفجوة بما هو متوقع،أي أنَّ القارئ يقاسم الكاتبة بناء النصِّ في صورتهِ التامّة على مذهب ديريدا. في المقهى يتنبَّهن لشُرودها، وعند السؤال تجيب: «لا شيء.. فقط أفكر بالقضية الصحفية التي سأشتغل عليها. وتعلق إحداهن على ذلك قائلة: لن تُعْوزك الخبرة، والمهارَة، فأنتِ سيدة البهارات.. وتعرفين الأنواع المطلوبة لكلّ طبخة». في هذا الحوار القصير، المقتضب، ربَطت قضية الصحفيّة بعنوان القصة، وبموضوع الأطعمة ذات البهارات؟ ويلاحظ - ها هنا - أن المؤلفة أقامتْ نوعًا من التوازي بين الطبخ في المطبخ المنزلي، وطبخ الأخبار، أو طهو التقارير الصحفية في غُرفِ التحرير على نار هادئة. ويتواصل هذان الخطان من بداية القصة حتى نهايتها، مستفيدةً من التعبير المجازي الشائع لدى الناس، ووصفهم التزيُّد في الأخبار بقصد التهويل: تبْهيرًا.
 
وهذا التبهيرُ يتنقّل في القصة من الجريدة إلى المطبخ، فإلى الأحاديث عن الحبّ، وعن الخطيب «واحدة منهنَّ تسرف في توصيف حكايتها مع خطيبها قبل الارتباط، وترسم للأخرياتِ قصّة عشقٍ باهرة ..، والأخريات يشهَقْن، حالماتٍ بحكايات مشابهة». فالتبهير- إذا - يتعدى الأطعمة، ويتعدى التقارير الصحفية، ليشمل قصَص الحب والزواج، فالناسُ، إن كانوا في أعمالهم، أو في حياتهم اليومية في البيوت، أو في علاقاتهم الاجتماعية، أدمنوا تزييف كلِّ شيء، بما في ذلك قصص الحب والعشق. فالكاتبة في « سيدة البهارات « تنتقد سلوكا شائعا في العمل، شائعا في الحياة اليومية، شائعًا في السلوك الذي يتجلى في هدم الماضي بما يمثله من ذكرياتٍ، وحنين، في قِصّة السَطْح.
 
 سَمِّهِ المِفْتاح
 
وفي المجموعة شخوص الكاتبة (2011) قصصٌ عدّة كتبت في هَدْيٍ من هذه الصنعة الفنية التي لا تفتقر للإتقان. وفي تطور لافت تستوقفنا قصة «الشغف» و»وجه في المرآة» وشجرة النبيذ» وكلها قصص في مجموعتها سَمّهِ المفتاح إنْ شئت (2016). على أن القصة الموسومة بالعنوان «توت. وعجين. ونار» من القصص التي تشد القارئ شدًا بما فيها من أجواء شعبية جرى تصويرها بدقّة تحسد عليها الكاتبة جدًا. فهي تتألفُ من فقراتٍ كل فقرة منها تمثل مشهدًا. فالأولى للفران وهو يتناول الشاي، والثانية تخلو من الإشارة لمسيره نحو الفرن الذي يبعد أمتارًا قليلة عن السكن. وفي فقرة تليها تتوافد النساء من الحارة يحملن العجين على رؤوسهن ليعدن به خبزا شهيا تتزين به موائد الإفطار. وفي الفقرة التالية مشهد آخر داخلي لكيفية تحول رقائق العجين إلى أرغفة مُحمَّرَة تتحلب لها الأفواه.. فمشهد ينتقل فيه الراوي من السرد لحوار عن صينية اللحمة بالفرن، فعودةٌ لمشهد آخر يتقدم فيه أحد الصبيان من الفران بالمواد التي تصنع منها مناقيش الزعتر. وعلى هذا النحو تواصل الكاتبة رسم هذه المشاهد في تسلسل لا يشعر القارئ بالتقطيع، بل يجد فيها مشهدًا واحدًا متصلا دون أن يفوتها الاهتمام بموقف رجال الحارة من هذا المكافح. فالذين أعجبوا به، وبحكمته، وبأخلاقه، جَعلوا من العُمْدة لقبا مناسبًا لهذا الرجل الذي لا يعرفون له نسَبًا، ولا حسبًا، اللهم إلا قوله: لا تكترثوا بي كثيرًا. وبقليل من الرشاقة السردية تصلُ بنا الحكاية للكرسي الفارغ أمام البيت، للسور، ولشجرة التوت التي تظلل الباحة، والنار التي تخبو بلا شاي، وبلا صوت، وبلا روائح زيت، أو زعتر. بهذه الكلمات تنعي لنا الساردة الفران المحبوب في الحيّ. غاب غيبته الأخيرة، وثمَّة وجهٌ محايدٌ لامرأة تغزو ملامحَها التجاعيدُ. تتوكأ على عصا، وهي متجهة إلى بيت النار.
 
 وحدة النسق
 
يقوم بناءُ هذه القصة- مثلما ذكرنا- على شريط من المشاهد التي يتلو بعضها بعْضًا في نسق زمني يتخلله شبه انقطاع يعود بنا إلى الماضي في هيئة ذكرى. وآخر يتوقف عن سرد الوقائع ليبين لنا هيئة هذا الخباز، وهو يواصل عمله في ما يشبه الوصف، والثرثرة التي تنْشغل بها نساء الحارة داخل الفرْن، أو أمام الباب، بانتظار عودتهن بالخبز، تتخلل ذلك الفيض من الإشارات ما يتهامس به رجال الحارة – النخبة – في ما يشبه المنظر الخلفي، عن هذا الفران الجدير- في رأيهم - بلقب العمدة.
 
مجمل القول أن في القصة نموذجا إنسانيا يهيمن حضورهُ على لغة الكاتبة، مثلما يهيمن على نسق الحكاية. فهي حكاية مسطَّحة لا تحتاج لتراكم زمني، فيكفي أن تذكر، ببساطة، ما الذي يريده الخباز، وكيف يمسح عرقه، وكيف يتغلَّب على حرارة الجو، واللهب المنبعث من بيت النار. وكيف يوفق بين عمله الدائب، وحواره مع هذه المرأة أو تلك، دون أن يضطره الحوار للتوقُّف. فهو، بكلمة موجزة، بطل من هذا الزمان، غير أن أحدًا لا يعترف له بهذه البطولة. وهذا ما يقَرّبُ القصة من واقع نعيشه في أيامنا هذه. فبعد أن انفرد المفسدون، والطغاة، بمقدرات الشعوب، لم يعد ثمة ما يدعو للتعزية، والمواساة، إلا أنْ نتحدث عن هذه النماذج المكافحة كفاحَ هذا الفران، الذي يقضي يومه أمامَ ألسنة النيران. ومن حسن الحظ أنَّ الكاتبة أماني سليمان داود لا تضيق ذرعًا برسم الصور بالكلمات في دقَّة لا تعوزها الخطوط، ولا الظلال، لذا تضيفُ بهاتين المجموعتين (شخوص الكاتبة) و(سمه المفتاح إن شئت) نماذج تؤكد لأولئك الذين يبحثون للقصة القصيرة عن تسمياتٍ جديدةٍ، وتقنياتٍ مُفْتعلة، أنَّهُم واهمون.