نظام إسرائيلي في الشرق الأوسط
الغد
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
مقدمة المترجم:
يطرح المقال التالي رؤية للكيان الصهيوني في فلسطين كقوة مركزية في تشكيل نظام إقليمي جديد. وتكشف هذه الأطروحة، التي تعرض نفسها على أنها متوازنة وبراغماتية، عن طموح أعمق: ترسيخ هيمنة الكيان على العالم العربي بأسره. من خلال اتفاقيات التطبيع، والاندماج الاقتصادي، والتحالفات الإستراتيجية، يسعى الكيان إلى أن يصبح القوة الإقليمية التي لا غنى عنها، المدعوم بلا حدود من الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين.
يرتكز المقال في جوهره على إقصاء مستتر للقضية الفلسطينية والنضال العربي الأشمل ضد الاحتلال والهيمنة والتهميش. ويصور دور الكيان على أنه قيادة مستنيرة، تسعى إلى إدماج نفسها في منطقة تعاني من عدم الاستقرار والتشرذم. ويتجاهل هذا التصوير عمدًا واقع الاحتلال المستمر للأراضي الفلسطينية، والتهميش المنهجي لحقوق الفلسطينيين، والمحاولات الأوسع لإعادة تشكيل المنطقة بما يضمن تفوق الكيان ويكرس فكرة الاضطهاد. وبتجاهل هذه المظالم الأساسية، لا يكتفي المقال بتقويض مصداقيته، بل يُبرز ازدواجية المعايير الماثلة في كيفية تعامل المجتمع الدولي مع الصراع بين العرب والكيان.
هذه الرؤية لنظام إقليمي تقوده إسرائيل ليست مجرد انتهاك للعدالة؛ بل تمثل تهديدًا مباشرًا لأمن واستقلال الدول العربية. ويهدف التأكيد على اتفاقيات التطبيع الثنائية، على سبيل المثال، إلى تفكيك التضامن العربي الجماعي، وعزل الدول وتقليل قدرتها على التنسيق في القضايا المشتركة، مثل تحرير فلسطين أو مقاومة الهيمنة الخارجية. من خلال استدراج دول معينة إلى اتفاقيات تركز على مكاسب اقتصادية أو أمنية قصيرة الأجل، يسعى الكيان إلى إضعاف التماسك العربي، وضمان عدم بروز تحد موحد لهيمنته. هذه الإستراتيجية القائمة على التفكيك، وإن لم تكن جديدة، تأخذ شكلاً أكثر خبثًا عندما تُغلّف بلغة "السلام" و"التعاون".
كما أن تركيز المقال على الكيان كمركز اقتصادي وتقني إقليمي يكشف عن الغايات الأبعد لهذه الرؤية المقترحة. من خلال دمج اقتصاده مع اقتصادات الدول المجاورة، يسعى الكيان إلى خلق حالة من التبعية التي تقوّض الاستقلال العربي. وفي حين تُعرض المبادرات في مجالات الطاقة والتكنولوجيا والبنية التحتية على أنها مفيدة للطرفين، فإنها ستؤدي إلى واقع تُصبح فيه الدول العربية تابعة للمصالح الاقتصادية للكيان. ولن تقتصر هذه التبعية على تآكل السيادة، بل ستمنح الكيان نفوذًا يمكنه من فرض شروطه على السياسات الإقليمية والمحلية.
تتعدى الأبعاد الأوسع لهذه الرؤية الاقتصاد والسياسة؛ لتشمل الأبعاد الثقافية والأيديولوجية. فمن خلال تصوير الكيان كقائد طبيعي للمنطقة، تعزز هذه السردية رؤية استعمارية تقلّل من مكانة الدول العربية وتهمّشها في سياق النفوذ العالمي. ويعيد هذا الإطار إنتاج أنماط تاريخية من الإمبريالية الغربية، حيث يُعاد تقديم الهيمنة على أنها توجه "خَيِّر". ويتلخص الإيحاء الضمني للمقال في أن الدول العربية لا يمكنها تحقيق الازدهار من دون قيادة صهيونية، في ازدراء للتاريخ الغني لهذه الدول ومواردها وإمكاناتها، وبما يعزز سردية التبعية والدونية.
قد يجادل أنصار هذه الرؤية بأنها تقدم مسارا عمليا نحو الاستقرار الإقليمي، لكن التاريخ يؤكد أن الاستقرار القائم على الظلم وعدم المساواة هشّ في جوهره. لن يكون تهميش القضية الفلسطينية، وإضعاف الوحدة العربية، وخلق التبعية الاقتصادية وصفات للسلام الدائم، وإنما لمزيد من التوترات والصراعات.
على أي حال، يلخص هذا المقال حقيقة الأهداف والأطماع الصهيونية في المنطقة، ويُسقط أي أطروحات مشبوهة لتبرير وجود الكيان وتطبيعه في المنطقة.
علاء الدين أبو زينة
عاموس يادلين؛ وأفنير غولوف - (فورين أفيرز) 17/12/2024
يُفهم ما يحدث في الشرق الأوسط اليوم أفضل ما يكون على أنه صراع على نظام إقليمي جديد. منذ هجوم "حماس" على إسرائيل في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، ظهرت ثلاث رؤى متنافسة لهذا النظام ثم تعثرت: رؤية "حماس"؛ ورؤية "حزب الله"-إيران؛ والرؤية الأميركية. وقد سعت "حماس" إلى إشعال حرب متعددة الجبهات تهدف إلى تدمير إسرائيل. وهدفت إيران، إلى جانب وكيلها "حزب الله"، إلى حرب استنزاف يكون من شأنها أن تتسبب في انهيار إسرائيل ودفع الولايات المتحدة إلى الخروج من المنطقة. وكانت الولايات المتحدة، التي وقفت بقوة وراء إسرائيل، تأمل في تحقيق استقرار إقليمي مبني على إمكانيات سياسية جديدة للإسرائيليين والفلسطينيين، والتطبيع بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية، وإبرام اتفاقية دفاعية بين واشنطن والرياض.
ومع ذلك، لم تثبت أي من هذه الرؤى أنها قابلة للتحقيق: فقد أساءت "حماس" و"حزب الله" وإيران تقدير قوة جيش الدفاع الإسرائيلي والمجتمع الإسرائيلي والتحالف الأميركي/ الإسرائيلي. وبالغت الولايات المتحدة في تقدير قدرتها على التأثير في نهج إسرائيل في الحرب في غزة، ولم تتعامل بشكل كاف مع التهديد الإقليمي الذي تشكله إيران.
يصنع فشل هذه الرؤى الثلاث فرصة لرؤية رابعة أكثر واقعية: رؤية إسرائيلية. على مدى الأشهر الثلاثة الماضية، بدأت إسرائيل في ممارسة قوتها لإعادة تشكيل الشرق الأوسط. فقد قضت على القدرات العسكرية لـ"حماس"، و-بتحطيم نهجه القائم منذ وقت طويل على الردع– قطعت رأس قيادة "حزب الله" وأجبرت المجموعة اللبنانية على القبول بشروط وقف إطلاق النار التي قاومتها منذ فترة طويلة، تاركة "حماس" معزولة، وإيران من دون وكلائها الأكثر قدرة. كما نفذت إسرائيل ضربات معقدة داخل إيران. ويمكن فهم الإطاحة الانتهازية بنظام الأسد في سورية على أيدي قوات المتمردين، جزئيًا، على أنها محاولة للاستفادة من تقويض إسرائيل للقوة الإقليمية الإيرانية. ونتيجة لذلك، فقدت إيران الممر البري الممتد من حدودها إلى إسرائيل؛ الممر الذي كرست إيران موارد كبيرة لإنشائه على مدى العقود الأربعة الماضية.
تمثل هذه التطورات تحولاً دراماتيكيًا: فمنذ ما يقرب من عام بعد هجوم 7 تشرين الأول (أكتوبر)، كانت رؤية إسرائيل لمستقبل المنطقة غير واضحة. كانت تدافع عن نفسها، وبالتالي تقاتل من أجل الحفاظ على وضع راهن لن يعاد تأسيسه أبدا. وعلى الرغم من أن عملياتها كانت حازمة، إلا أن إسرائيل امتنعت عن تعطيل ديناميات الردع القائمة مع "حزب الله" وإيران. وبالإضافة إلى ذلك، ترددت في فرض نظام جديد بينما كان ينظر إليها على أنها مُسببة للنزاعات على الصعيد الدولي، في وقت أضعفت فيه الانقسامات المجتمع الإسرائيلي محليا.
الآن تعيد إسرائيل تشكيل الشرق الأوسط من خلال العمليات العسكرية، لكنها ستستفيد من تأكيد نفسها سياسيا أيضا. ولديها الفرصة والمسؤولية لتوجيه مسار المنطقة نحو واقع جديد أكثر سلامًا واستدامة. في الوقت الحالي، يفوق قدرة إسرائيل على فرض تغييرات إقليمية عسكريًا استعدادُها لصياغة وتفعيل رؤية استراتيجية متماسكة. ولا تترافق نجاحاتها العملياتية حتى الآن بأفكار استراتيجية واضحة تتماشى معها. ويجب على إسرائيل أن تضغط من أجل إطار سياسي يتناسب مع نجاحاتها في ساحة المعركة. يمكن لتحالف عربي/ إسرائيلي مدعوم من الولايات المتحدة صد التهديدات القادمة من المتطرفين الشيعة والسنة، وتوفير مستقبل سياسي واقعي للفلسطينيين، وحماية المصالح الأمنية الإسرائيلية، وتأمين عودة الرهائن الإسرائيليين الذين ما يزالون في غزة، ومنع حدوث هجوم آخر على الأراضي الإسرائيلية.
يجب على إسرائيل ألا تسعى إلى فرض رؤيتها لنظام إقليمي جديد وحدها. إنها تحتاج إلى موافقة الولايات المتحدة، والمملكة العربية السعودية، والأردن، ومصر، والإمارات العربية المتحدة، وكذلك ألمانيا والمملكة المتحدة، حتى في الوقت الذي تمر فيه السياسة الخارجية للولايات المتحدة بإعادة ترتيب اصطفافاتها هي نفسها في عهد الرئيس المنتخب دونالد ترامب. الوضع حساس. ولكن للمرة الأولى منذ هجوم 7 تشرين الأول (أكتوبر)، تتوفر لإسرائيل الفرصة لاغتنام اللحظة.
أفضل الخطط الموضوعة
عندما أمر يحيى السنوار، زعيم "حماس" الراحل، بغزو إسرائيل في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، فقد فعل ذلك برؤية محسوبة للشرق الأوسط: مباشرة بعد هجوم "حماس"، توقع هجوما منسقا من جميع الجماعات المسلحة المدعومة من إيران في المنطقة، والذي سيكون من شأنه بدوره أن يلهم العرب الإسرائيليين والفلسطينيين في الضفة الغربية لإطلاق انتفاضة جديدة. واعتمدت خطة السنوار على مشاركة "حزب الله" وأعضاء آخرين في "محور المقاومة" المدعوم من إيران –بل وحتى إيران نفسها، مما يؤدي في النهاية إلى إلحاق هزيمة عسكرية كاملة بإسرائيل.
لكن السنوار أساء بشدة تقدير الديناميات الإقليمية. في 8 تشرين الأول (أكتوبر)، على الرغم من إعلان "حزب الله" دعمه لـ"حماس" وشروعه في قصف البلدات الإسرائيلية، كانت الأعمال التي قام بها محدودة. وأطلقت الميليشيات الشيعية من العراق وسورية الصواريخ والطائرات بلا طيار لتعطيل أنظمة الدفاع الجوي الإسرائيلية المتقدمة، لكن هذه الجهود لم تشكل تهديدًا كبيرًا لهذه الأنظمة. وانضم الحوثيون في اليمن إلى الهجوم من خلال استهداف السفن في البحر الأحمر وإطلاق الصواريخ على المدن الإسرائيلية. وسهل الديكتاتور السوري بشار الأسد عمليات نقل الأسلحة الإيرانية إلى لبنان، لكنه منع الميليشيات الإيرانية بشكل ملحوظ من مهاجمة إسرائيل من الأراضي السورية ولم يشرك الجيش السوري في الصراع، على الرغم من تعرضه لضغوط من إيران للقيام بذلك. لم يقم "حزب الله" بغزو الأراضي الإسرائيلية، وركز بدلاً من ذلك على مشاغلة الجيش الإسرائيلي في الشمال لتحويل انتباهه عن غزة. وبالإضافة إلى ذلك، لم تتحقق انتفاضة السنوار الفلسطينية المأمولة، في ما يرجع في جزء منه إلى انتشار الجيش الإسرائيلي السريع والفعال في مناطق الضفة الغربية التي توجد بها "حماس" و"الجهاد الإسلامي في فلسطين". وفي غضون ذلك، استخدمت إسرائيل قوة مكثفة في غزة، والتي أسفرت عن مقتل الآلاف من مقاتلي "حماس" -وفي نهاية المطاف، السنوار نفسه.
شجع قرار إسرائيل الانخراط في حرب طويلة الأمد إيران و"حزب الله" في البداية. فقد رأيا في الصراع فرصة لتأكيد هيمنتهما الإقليمية. وعلى النقيض من "حماس"، التي كان هدفها تدمير إسرائيل تمامًا، سعت إيران، بشكل أكثر تواضعًا، إلى تحسين مكانتها الإقليمية. من خلال خوض حرب استنزاف طويلة متعددة الجبهات ضد إسرائيل، هدفت طهران إلى زيادة الضغط على المجتمع الإسرائيلي وتضخيم تكاليف الحرب. ومع تركيز الولايات المتحدة على منافستها الاستراتيجية مع الصين والحرب في أوكرانيا، توقعت إيران أن تنسحب واشنطن أكثر من المنطقة.
بدا الرد الإسرائيلي الأولي على استراتيجية "حزب الله" الإيراني متسمًا بالحذر. قامت إسرائيل بإخلاء البلدات الشمالية لإنشاء منطقة عازلة أمنيًا بدلاً من غزو لبنان لمواجهة هجمات "حزب الله" الصاروخية بشكل مباشر، مما سمح فعليا للحزب بمواصلة ضرباته. وبالإضافة إلى ذلك، على الرغم من أن الولايات المتحدة دعمت إسرائيل علنًا، إلا أن الحكومات الغربية فشلت إلى حد كبير في فرض تكاليف كبيرة على محور المقاومة المدعوم من إيران. وشجع عدم قدرتهم على منع الحوثيين المتشددين في اليمن من التدخل في حركة المرور البحرية في البحر الأحمر الجماعة على تصعيد هجماتها على إسرائيل. وأدى الضغط الدولي إلى تقييد قدرة إسرائيل على هزيمة "حماس" بشكل حاسم وغذى أمل السنوار في ألا تكون إسرائيل قادرة على مواصلة القتال لفترة طويلة. اجتمعت هذه العوامل لخلق تصور لدى إيران وحلفائها بأن إسرائيل قد تجد نفسها في نهاية المطاف معزولة ومستنزفة اقتصاديا ومرهقة. وتعززت هذه الفكرة عندما شنت إيران، في نيسان (أبريل)، هجوما غير مسبوق بالصواريخ والطائرات من دون طيار مباشرة من أراضيها ضد إسرائيل. وقد احتفل القادة الإيرانيون برد إسرائيل المدروس -والاضطرابات السياسية المستمرة داخل إسرائيل. فقد اتبعت حكومة رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، سياسات أطالت أمد الحرب، وأجهدت الاقتصاد، وكثفت الاستقطاب، ومنحت اليد العليا لأعداء إسرائيل.
في غضون ذلك، واصلت الولايات المتحدة سعيها إلى تحقيق إستراتيجية الشرق الأوسط المبنية على "اتفاقيات إبراهيم"، التي طبعت العلاقات بين إسرائيل والبحرين والمغرب والإمارات العربية المتحدة. وبعد 7 تشرين الأول (أكتوبر)، ضغطت واشنطن على المملكة العربية السعودية لوضع اللمسات الأخيرة على اتفاقية دفاعية مرتبطة بالتطبيع مع إسرائيل وأعادت تأكيد إيمانها بحل الدولتين للصراع الإسرائيلي/ الفلسطيني. وسعت إدارة بايدن إلى الاستفادة من الحرب لتشكيل تحالف أقوى موال للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، ودعم نفوذ واشنطن وإنشاء مركز اقتصادي إقليمي أكثر تكاملاً يربط أوروبا والمحيطين الهندي والهادئ في إطار منافستها مع الصين.
لكن الخطة الأميركية فشلت في معالجة التهديد القادم من إيران تمتلك ما يكفي من الجرأة، أو تهدئة مخاوف شركاء الولايات المتحدة الصغار. ورفضت المملكة العربية السعودية تطبيع العلاقات مع إسرائيل مع استمرار الحرب في غزة، خاصة وأن إسرائيل رفضت الالتزام بحل الدولتين -وهي خطوة سيفسرها أعداء إسرائيل في المنطقة على أنها انتصار لـ"حماس". ومن جانبه، اختار نتنياهو تأجيل إنهاء المرحلة الكثيفة من الحرب، وانتظر بدلاً من ذلك نتيجة الانتخابات الرئاسية الأميركية، على أمل فوز الجمهوريين.
كان يعتقد أن انتخاب ترامب سيقلل من الرقابة الأميركية على حملته ضد "حماس". ومع خسارة الديمقراطيين الانتخابات الرئاسية في تشرين الثاني (نوفمبر)، أصبحت استراتيجية الولايات المتحدة في الشرق الأوسط موضع شك. فعلى الرغم من كل قوة واشنطن ونفوذها، إلا أن الرؤية الأميركية لنظام إقليمي جديد، مهما تكن قد بدت معقولة، أثبتت في نفس الوقت أنها غير قابلة للتنفيذ، تمامًا مثلها مثل رؤى "حماس" و"حزب الله" وإيران.
عرش فارغ؟
في أيلول (سبتمبر)، شرعت وجهة الرياح السائدة في الشرق الأوسط في التحول. بعد 11 شهرا لم تحدد فيها الحكومة الإسرائيلية أي أهداف في المسرح الشمالي، أضاف مجلس الوزراء الإسرائيلي العودة الآمنة لسكان شمال إسرائيل إلى منازلهم كهدف رسمي للحرب. كانت الحرب قد بدأت بالفعل في التحول شمالا بسبب هجوم "حزب الله" بالصواريخ في أواخر تموز (يوليو) على ملعب لكرة القدم في مرتفعات الجولان، والذي أسفر عن مقتل 12 طفلا وإصابة أكثر من 40 آخرين. وردًا على ذلك، اغتالت إسرائيل فؤاد شكر، نائب زعيم "حزب الله" حسن نصر الله، واستهدفت الهيكل القيادي لـ"حزب الله" بعملية مهينة؛ حيث اشتعلت المتفجرات المزروعة في أجهزة الاستدعاء التي يستخدمها عناصر التنظيم في وقت واحد، مما أسفر عن مقتل وتشويه عشرات المقاتلين. ثم شنت إسرائيل سلسلة من الغارات الجوية التي دمرت ما يقرب من 3.000 صاروخ كروز، وقتلت أعضاء قيادة "حزب الله"، بمن فيهم نصر الله نفسه. وأعادت هذه الأعمال بعض هيبة الجيش الإسرائيلي المفقودة.
ردًا على ذلك، شنت إيران هجومًا مباشرًا على إسرائيل في 1 تشرين الأول (أكتوبر)، حيث أطلقت 181 صاروخًا بالستيًا. لكن هذا الوابل من الذخائر لم يتسبب في أكثر من أضرار محدودة لثلاثة مواقع إسرائيلية: مجمع الموساد في غليوت؛ وقاعدتين للقوات الجوية الإسرائيلية في الجنوب. وهذه المرة، نظمت إسرائيل ردًا أكبر من ذلك الذي نفذته في نيسان (أبريل)، فأرسلت 150 طائرة لضرب 20 هدفًا مهمًا في إيران. وقد أظهرت الضربات عدم التناسق في القدرات العسكرية للبلدين: فقد أطلقت إيران الكثير من الصواريخ بنتائج محدودة، في حين أصاب الجيش الإسرائيلي بدقة أهدافًا عالية القيمة، بما فيها أنظمة S-300 الإيرانية المضادة للطائرات والصواريخ، ومنشأة أبحاث الأسلحة النووية في بارشين. وأظهرت الحملة ضعف مواقع الطاقة والمواقع النووية الأكثر قيمة في إيران في حال اختار النظام الإيراني المزيد من التصعيد. ومنذ ذلك الحين، وعلى الرغم من التهديدات المتكررة، لم تشن إيران هجوما مباشرًا آخر على إسرائيل.
في 24 تشرين الثاني (نوفمبر)، وقّعت إسرائيل ولبنان، بموافقة إيران و"حزب الله"، اتفاقًا لوقف إطلاق النار، والذي صمد إلى حد كبير. وفي اليوم نفسه، بدأ المتمردون السوريون المدعومون من تركيا عملية عسكرية ضد نظام الأسد. وفي أقل من أسبوعين، وصل الثوار إلى دمشق وأعلنوا حكومة جديدة، مع الحد الأدنى من المقاومة من القوات السورية أو الروسية أو الإيرانية أو من "حزب الله". وهكذا، بدلاً من تعزيز هيمنة إيران، وجهت الحرب ضربة قوية لمكانتها الإقليمية.
خلق وقف إطلاق النار في لبنان والوضع المتكشف في سورية فراغًا قياديًا في الشرق الأوسط. وتوفر الإنجازات العسكرية الإسرائيلية فرصة لتحالف جديد قادر على إعادة تشكيل مستقبل المنطقة وتقديم واقع بديل للسلام، والاستقرار، والازدهار.
تحالف الراغبين
يجب على إسرائيل البناء على انتصاراتها العملياتية من خلال توضيح ومتابعة رؤية استراتيجية متماسكة لتشكيل تحالف إقليمي معتدل بين إسرائيل والدول العربية السنية، بقيادة المملكة العربية السعودية. ويجب أن يتصدى هذا التحالف للتهديدات الأمنية الرئيسية، وفي مقدمتها إيران، وأن يشكل جبهة موحدة ضد محاولات تركيا وقطر تعزيز نفوذ "الإخوان المسلمين" في العالم العربي، وهي مهمة أصبحت أكثر إلحاحًا بعد انهيار نظام الأسد. وأخيرًا، يجب أن يوفر التحالف للفلسطينيين مستقبلاً سياسيًا مع ضمان حماية إسرائيل من أي هجمات إرهابية مستقبلية.
تقف إسرائيل الآن في وضع قوي يمكنها من إحراز تقدم حقيقي نحو تحقيق هذه النتيجة. لكنها لا تستطيع أن تفعل ذلك بمفردها. إنها في حاجة إلى الولايات المتحدة لقيادة الجهد المعقد، وإلى الشراكة العربية لتوفير الشرعية في الشرق الأوسط وتحويل رؤيتها إلى قوة إقليمية فعالة. وكخطوة أولى: يجب على إسرائيل عقد قمة تضم كلاً من الولايات المتحدة، والمملكة العربية السعودية، والبحرين، ومصر، والأردن، والإمارات العربية المتحدة، وأي جهات فاعلة تطمح إلى المساعدة في إعادة تشكيل الشرق الأوسط، بما في ذلك ممثلين فلسطينيين، في عاصمة شرق أوسطية رائدة مثل الرياض. وسوف تشمل أهداف هذه القمة إنشاء تحالف أميركي- عربي- إسرائيلي على أساس رؤية إقليمية مشتركة؛ ودفع عملية التطبيع بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية (ومن الناحية المثالية، دول أخرى مثل عُمان وإندونيسيا)؛ وإنشاء إطار أمني إقليمي جديد؛ ووضع خريطة طريق لغزة خالية من "حماس" من خلال حملة لاجتثاث التطرف. ويجب أن تهدف الخطة أيضًا إلى زيادة بصمة دول الخليج في سورية للحد من نفوذ إيران و"الإخوان المسلمين" في البلد.
يجب أن تشمل الرؤية الإقليمية أيضًا عنصرًا فلسطينيًا، بعد التوصل إلى اتفاق على وقف إطلاق النار في غزة يسهل عودة جميع الرهائن الإسرائيليين. ويجب أن ترسم القمة مستقبلاً سياسيًا للفلسطينيين مختلفًا عن المقاربات السابقة التي اتبعتها الدول العربية والولايات المتحدة، والتي ركزت على حل الدولتين. بدلاً من ذلك، يجب على التحالف أن يؤكد على انتقال مرن وطويل الأمد يُظهر فيه الفلسطينيون حكمًا فعالاً ويعملون بنشاط للقضاء على نفوذ الفصائل الأكثر تطرفًا في المجتمع الفلسطيني.
بالإضافة إلى ذلك، يجب على القادة العرب أن يتفقوا على أن قيام الحلف بإعادة إعمار غزة لن يمضي قدمًا إلا بعد نزع السلاح بالكامل من تلك المنطقة، وعندها يجب على إسرائيل الالتزام بسحب الجيش الإسرائيلي. وقبل ذلك، يجب على الجيش الإسرائيلي أن يحتفظ بالقدرة على إنشاء منطقة أمنية عازلة داخل قطاع غزة على طول الحدود مع إسرائيل لمنع أي حشد عسكري محتمل لـ"حماس".
يجب أن تشرف الولايات المتحدة على انتقال مراقب جيدًا إلى حكم فعال في غزة تتولاه لجنة فلسطينية بقيادة عربية تعترف بإسرائيل كدولة يهودية، وتقضي على الإرهاب، وتوقف المدفوعات للإرهابيين، وتشجع على اجتثاث التطرف داخل المجتمع الفلسطينين وكذلك في المحافل الدولية. كما يجب عليها العمل مع مصر لوضع استراتيجية لتأمين الحدود المصرية مع غزة لمنع إعادة تسليح "حماس".
سوف تتماشى هذه الشروط الإسرائيلية مع المصالح الأميركية والعربية، لا سيما مصالح دول الخليج التي تسعى إلى إنهاء الحرب في غزة وتدرك أن إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة هي أمر غير واقعي في الوقت الحالي، ولكنها تدرك أهمية تزويد الفلسطينيين بأفق سياسي لتعزيز الأهداف الإقليمية، مثل مواجهة إيران ومحاربة "الإخوان المسلمين". وتعزيز التعاون الاقتصادي والتكنولوجي مع إسرائيل.
يجب أن تهدف القمة إلى تسريع تطوير عمارة هيكل دفاعي إقليمي دائم. وستتعامل فرق العمل المخصصة، بقيادة القيادة المركزية الأميركية، والجيش الإسرائيلي، وجيوش البحرين ومصر والأردن والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، مع الدفاع الجوي والصاروخي، وتأمين الملاحة البحرية، ومكافحة الإرهاب من المتطرفين الشيعة والسنة، وتعزيز تبادل المعلومات الاستخباراتية. ويجب على إسرائيل والولايات المتحدة العمل بجد بشكل خاص لمواءمة استراتيجياتهما لمنع إيران من الحصول على أسلحة نووية. من المهم نحو متزايد أن يتم إنشاء ردع ذي مصداقية، لأن إضعاف شبكة الوكالة الإيرانية يجعل من التحول النووي خيارًا أكثر جاذبية لطهران.
على نفس الموجة
من مصلحة كل من إسرائيل وشركائها الإقليميين أن تظل إدارة ترامب القادمة ملتزمة بالشرق الأوسط ومستعدة لاستخدام القوة لضمان أمن حلفائها وردع الخصوم المشتركين. وقد يواجه هذا الالتزام بالدفاع عن المنطقة معارضة من الفصائل داخل الإدارة التي دعت إلى الحد من التدخل الدولي للولايات المتحدة. وقد أشار ترامب إلى أن الولايات المتحدة لن تتدخل في سورية، وأشار إلى رغبته في استكمال انسحاب القوات الأميركية من سورية في وقت ضعفت فيه مواقف روسيا وإيران.
يبدو أن هجوم "حماس" الصادم والمفاجئ في 7 تشرين الأول (أكتوبر) أثبت أن إسرائيل كانت لديها سيطرة على مسار منطقتها أقل بكثير مما كانت تتخيل. وعلى مدار عام تقريبًا، أشارت الحرب الإسرائيلية التي تلت ذلك في غزة إلى الشيء نفسه. على مدى الأشهر الثلاثة الماضية، أعادت إسرائيل تأكيد قدرتها على تشكيل السياسة والأمن في الشرق الأوسط. ولكن، من دون قيادة شجاعة، يمكن أن تفلت فرصة إسرائيل. سوف تؤدي تطلعات الأعضاء المتطرفين في ائتلاف نتنياهو لضم أجزاء من غزة والضفة الغربية، أو فرض حكم عسكري في غزة، أو اتباع أجندة محلية استقطابية، إلى إضعاف المؤسسات الديمقراطية، وستعرقل بشدة هذا التقدم.
سوف تحصل حكومة إسرائيلية تطرح الرؤية المقترحة على دعم غالبية مواطنيها ويغلب أن تعزز مكانة إسرائيل الإقليمية. وعلى العكس من ذلك، لن تؤدي حكومة لا تكبح جماح خطابها وأفعالها المتطرفة سوى إلى تمهيد الطريق لصراع إقليمي موسع من دون نهاية واقعية –وتخدم بذلك مصالح النظام الإيراني.
لقد أدرك السنوار وقادة إيران قدرة الحرب على إعادة تنظيم الشرق الأوسط. ويجب على إسرائيل أن لا تقبل بأقل من ذلك. ولكن يجب عليها أن تستخدم قوتها بسرعة وحكمة. وحدها رؤية للمنطقة تعالج التهديدات التي تشكلها إيران، وتعزز التكامل الإقليمي، وتؤسس لأفق سياسي للفلسطينيين، مدعومة بخطة منسقة مدعومة من الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، يمكن أن تستفيد من النجاح العسكري الإسرائيلي ضد إيران لتحقيق شرق أوسط أكثر استقرارًا وسلامًا وازدهارًا والاستفادة من الفرص التي ستنشأ في أعقاب الحرب.
*عاموس يادلين Amos Yadlin: مؤسس ورئيس "مايند إسرائيل" MIND Israel، وهو فريق استشاري غير ربحي وعملي يقدم المشورة للعملاء الحكوميين وغير الربحيين والشركات بشأن قضايا الأمن القومي الإسرائيلي، مع التركيز على تصميم السياسات والتخطيط والتنفيذ. يعتمد الفريق على خبرة تمتد لعقود في المسائل الاستراتيجية للأمن القومي الإسرائيلي ويوظف قيادة فكرية فريدة وشبكة واسعة من الخبراء، مهمتها تقديم تحليلات وتوصيات سياسية مصممة خصيصًا وفي الوقت المناسب وشاملة تشير إلى موضوعات أكبر وحلول تغير الواقع للأمن القومي الإسرائيلي والمنطقة. يالدين لواء متقاعد في سلاح الجو الإسرائيلي، شغل منصب رئيس مخابرات الدفاع الإسرائيلية من العام 2006 إلى العام 2010.
مركبة عسكرية إسرائيلية في الجزء المحتل حديثا من هضبة الجولان السورية - (المصدر)
*أفنير غولوف Avner Golov: نائب رئيس "مايند إسرائيل" MIND Israel. كان من العام 2018 إلى العام 2023 مديرًا أول في "مجلس الأمن القومي الإسرائيلي".
*نشر هذا المقال تحت عنوان: An Israeli Order in the Middle East