Saturday 27th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    16-Mar-2020

عن الطاعون الذي ضرب أوروبا في العصور الوسطى*حسني عايش

 الغد

حدثت الأوبئة طيلة التاريخ وما تزال، أكبرها وأخطرها المسجّل بما سمي «الموت الأسود» الذي فتك بأوروبا وجوارها في القرن الرابع عشر قادما من الصين حيث بدأ (1344) فحسب المصادر التاريخية الأوروبية والطبية، دخلت سفينة ميناء جنوا الإيطالية (1347 م) لمدينة كفا في شبه جزيرة القرم، حاملة على ظهرها شحنة قاتلة من الطاعون الدبيلي/ اللمفاوي إلى اوروبا، وهو مرض معدٍ وأعراضه كثيرة منها الحمى المرتفعة، أو البرودة الشديدة، أو الخور، وتورم العقد اللمفاوية، ونزيف يميل إلى السواد ما جعل الناس يسمون هذا الطاعون بالموت الأسود(Black Death). الذي يشتد فتكه إذا غزا الرئتين، فعندئذ يتسبب بالموت للمصاب به.
وصل الطاعون أوروبا وبلدان البحر الأبيض عبر التجارة والطرق التجارية البرية والبحرية من الصين وأواسط آسيا حيث كان منتشرا ولكنه ما إن وصل (1347) إلى القرم والقسطنطينية حتى انتشر بسرعة، وضرب جنوا وصقلية ومرسيليا، ثم اسبانيا، والبرتغال، وانجلترا ، والمانيا، واسكندنافيا، وبعض بلدان ما يسمى اليوم بالشرق الأوسط.
واختلف الناس في اسباب المرض أو الوباء، فمنهم من نسبه إلى غضب الله عليهم لسوء أخلاقهم. ومنهم من نسبه إلى اضطرابات في الكواكب. ومنهم من نسبه إلى هزات أرضية، أو إلى أبخرة سيئة. وكثير منهم نسبوه إلى اليهود
(صالبي المسيح) الذين اتُهموا بتسميم الآبار فهاجموهم وقتلوا كثيرا منهم.
ألقى الطاعون بظلاله على الاتجاهات الاجتماعية السائدة آنذاك، فالأرض من حول الناس صارت تعج بالمقابر، والقرى مهجورة، والإحساس عند الناس أن الله تخلى عنهم، فزادت جرائم القتل. وقد حاولت الكنيسة التكفير عن الذنوب، فقام «إخوان الصليب» بالتجوال في الأرياف المنكوبة وهم يجلدون أنفسهم ويربطون أجسامهم بالحبال. وصار الأغنياء الناجون يتبرعون بالفتات إلى المؤسسات الخيرية، وبخاصة إلى المستشفيات، زكاة عن نجاتهم من الطاعون. أما الفن كالرسم فقد صار قائما وصارت رقصة الموت ترسم على جدران الأديرة. والكل يتحدث ان الحياة قصيرة ومأساوية.
لم يكن في تلك الفترة علاج لهذا الوباء، واقتصر الأمر على نصائح وقائية، مثل الدعوة إلى تقليل الأكل للأغذية الصعبة الهضم، أو إلى استخدام الأعشاب العطرية لتنقية الهواء، أو إلى الابتعاد عن الناس، أو إلى التمسك بأوهام وخرافات دينية.
استمر الطاعون نحو عشرين سنة في اوروبا وبلدان الشرق الأوسط. وقد فتك في اثنائها بثلث السكان (مائة مليون) حسب رواية، وبثلاثة أرباع السكان حسب رواية أخرى. ففي مصر – مثلاً – فتك بأربعين في المائة من السكان. وقد احتاجت أوروبا إلى ثلاثة قرون لاستعادة صحتها السكانية.
وبتضاؤل عدد السكان في اوروبا، صار كثير من الأملاك بلا ملاّك، وقرى بلا قرويين، وبانخفاض عدد الأيدي العاملة زادت قوتها في التفاوض مع أصحاب العمل، فطالبوا برفع أجورهم في انجلترا بمقدار خمسة أضعاف عما كان عليه الأمر قبل الوباء. صار الفلاحون يستأجرون الأرض من الإقطاعيين بالفلوس وليس مقابل العمل القسري. وحين حاولت الحكومات تخفيض الأجور أو تحديدها هب الفلاحون متمردين في فرنسا (1358) وفي انجلترا (1781).
ومع تلاشي الطاعون وتأدية (رسالته) كان قد قضى على نسبة كبيرة من رجال الدين ودفع نسبة كبيرة منهم إلى هجر عمله الكنسي. ونتيجة لذلك ضعفت سلطة الكنيسة وسلطة النبلاء. وأرخى الطاعون البنية الاجتماعية التي كانت متزمتة، مخلفا مجتمعات أكثر حرية وانفتاحا في مواجهة التحديات فيما بعد، أي التي جاءت بها النهضة والمطبعة والإصلاح الديني والتوسع الإقتصادي.
والآن فكر في الفرق بين عالم العصور الوسطى الجاهل المتخلف الذي فتك فيه الطاعون وهو عاجز أو مستسلم، وبين العالم العلمي والمتقدم اليوم الذي يتصدى للكورونا فيحصرها في أضيق النطاق، فعدد الموتى به يكاد يكون صفرا مقارنة بعدد السكان.
غير أنه يجب علينا بين طاعون الأمس «وطاعون» اليوم أن نتذكر أن الطبيعة لا ترحم من يخرج على قوانينها، وأنها لا تفرق بين أحد وأحد في السن أو في الجنس أو في اللون. نعم، إنها صبورة ولكنها سرعان ما ترد إذا استُفزت بتجاوز قوانينها كما في التلوث، وفي تدمير البيئة.