الراي - وليم سارويان مؤلف ارمني عاش في امريكا، قصصه تمجد روح التفاؤل في خضم احباطات الحياة، وقد استلهم معظم قصصه من حياته الخاصة، ونقرأمعاً قصة الحصان الابيض وهي كما يلي:
«ذات يوم من تلك الأيام الخوالي السعيدة , عندما كنت في التاسعة من عمري , وكان العالم مليئا بكل ما هو عجيب , والحياة لا تزال حلماً بهيجاً جاءني مراد ابن عمي في الرابعة صباحاً وأيقظني . وكان الناس جميعا _ ما عداي _ يعتبرونه مجنوناً ناداني من خارج نافذة غرفتي : آرام ..آرام..
فقفزت من سريري ونظرت خارج النافذة فلم أصدق ما رأيت . لم يكن الصبح قد طلع بعد , لكن الفصل كان صيفا , وكان الفجر على وشك الطلوع . وكان هناك ما يكفي من الضوء كي أدرك أنني لست أحلم رأيت ابن عمي مراد راكبا حصاناً أبيض جميلاً . فأطللت من النافذة ... ربما كنت أحلم . لكنني رأيته . قال باللغة الأرمنية : نعم . إنه حصان . أنت لست في حلم . تحرك بسرعة إن كنت ترغب في ركوبه . كنت أعلم أن مراد شخص يستمتع بحياته أكثر من أي شخص جاء إلى هذا العالم مصادفة . لكن ما رأيته منه كان أمرا يصعب تصديقه . لقد كانت الجياد
حلمي الأول , وكان أبعد أحلامي , وكان ركوبها أهم رغباتي . فقد كنا فقراء , وهذا ما منعني من تصديق ما رأيت .
. كانت عائلة جاروجلانيان كلها فقيرة . ولم يكن أحد يدري كيف كنا نحصل على ما يكفي من المال حتى نقتات , ولا حتى كبار السن في العائلة . لكن أهم ما في الأمر أننا اشتهرنا بعدم ارتكابنا للسرقة . وقد عرف عنا ذلك منذ ما يقارب عشرة أجيال . حتى عندما كنا أغنى عائلة في الوطن ما كنا نود أن نتصور أنه العالم , كنا فخورين , ونؤمن بالحق والباطل . وما كان لأحد منا أن يسرق .
لذا , فعلى رغم رؤيتي الحصان وسماعي إياه , فإنني لم أكن أستطع تصديق أن للحصان صلة بمراد ابن عمي أو بي أو بأي أحد آخر من أقاربي سواء أكنت مستيقظاً أم نائما . لأني أعرف أن مراد ابن عمي لم يكن يملك من المال ما يكفي لشراء الحصان . فإن كان لا يملك المال لشراء الحصان ولم يكن ليسرقه , فلم هو معه ؟!0
نظرت إلى ابن عمي أولاً , ثم إلى الحصان وقلت : مراد من أين سرقت هذا الحصان ؟ فأجاب : اقفز من النافذة إن كنت تريد ركوبه . كان ذلك صحيحاً إذن . فقد أخذ الحصان من صاحبه . ولا شك في ذلك . وجاء يسألني إن كنت راغباً في ركوبه أم لا . حسن . لقد بدا لي أن سرقة حصان لركوبه ليست كسرقة شيء آخر كالنقود مثلاً . وحسب علمي , وبما لا تكون سرقة على الإطلاق . فأن كنت مهووساً بالجياد , كما هي حال ابن عمي وحالي , فستدرك أنها ليست بسرقة . إنها لا تعد سرقة حتى يعرضه للبيع . وهو بالطبع ما لا يمكن أن نفعله .
قلت : دعني أرتدي بعض الثياب .
قال : حسن لكن بسرعة .
ارتديت ثيابي على الفور , وقفزت من النافذة وامتطيت الحصان خلف مراد ابن عمي . كنا في تلك السنة نسكن أطراف المدينة . وكان الريف يقع خلف بيتنا . وفي أقل من ثلاث دقائق أصبحنا خارج المدينة , وبدأ الحصان عندئذ في العدو . كان الهواء منعشاً لطيفاً وكان الإحساس بعدو الحصان رائعاً . وطفق مراد ابن عمي _ الذي يعد أحد أشد أفراد عائلتنا جنوناً _ يغني أقصد أنه بدأ يزأر. .ففي كل عائلة من هذا العالم فرد مجنون من بين أفرادها . وكان مراد ابن عمي مجنون عائلتنا . وقبل مراد كان خالنا خوسروف , وهو رجل ضخم جداً , ذو شعر شديد السواد . وكان يقاطع كل من يتكلم مزمجراً قائلاً : « هذا غير مهم ..هذا غير مهم» كان يفعل ذلك مع كل من يتكلم مهما كان موضوع حديثه وقد حدث ذات مرة أن جاء ابنه «أراف» يجري إليه ليخبره باحتراق منزلهم . فصاح فيه خوسروف : « هذا غير مهم «.
وكان مراد ابن عمي أكثر الناس شبها بهذا الرجل , رغم أن والد مراد هو زوراب , الذي كان عاقلاً . هكذا كانت حال عائلتنا . يمكن أن يكون الرجل أبا لابنه جسداً , لكن ذلك لا يعني أنه أب لروحه أيضاً . كنا على ظهر الحصان , ومراد ابن عمي يغني . وكنا لا نزال في الريف القديم الذي ننتمي إليه , بالنسبة إلى كل من كان يعرفنا , خصوصاً بعض جيراننا , وتركنا الحصان يجري كما يشاء , ثم طلب مني ابن عمي أن أنزل , حيث أراد أن يكون بمفرده . فقلت له : هل ستسمح لي أن أركب بمفردي أيضاً .
رد قائلاً : هذا يعود إلى الحصان . انزل .
قلت : سيسمح لي الحصان بذلك .
قال : سنرى . لكن لا تنس أني خبير بالجياد.
قلت : حسن إنني أعرف الجياد مثلما تعرفها .
قال : أقول هذا لأجل سلامتك . فلنأمل ذلك . هيا . انزل.
قلت : سأفعل . لكن تذكر أن عليك أن تدعني أحاول الركوب بمفردي.
نزلت . وصرخ مراد ابن عمي انطلق : انتصب الحصان على قائمتيه الخلفيتين وبدأ يعدو بسرعة لم أشهدها من قبل . جال ابن عمي بالحصان عبر حقل من الحنطة الجافة , ومضى الى جدول فعبره , وعاد بعد خمس دقائق وقد بلل الماء كامل جسمه .
بدأت الشمس تشرق .فقلت : لقد حان دوري الآن للركوب .
نزل مراد ابن عمي عن ظهر الحصان , وقال : اركب .قفزت . ولم يتحرك الحصان , وعرفت للحظة أشد خوف يمكن تصوره .
ولم يتحرك الحصان من مكانه فقال مراد ابن عمي : ماذا تنتظر ؟ علينا إعادته قبل أن يستيقظ الناس ويخرجوا . ثم إن الحصان ارتكز مرة أخرى على قائمتيه الخلفيتين وشرع يعدو . فلم أدر ماذا أصنع . وعوض أن يتجه نحو الجدول , فأنه عبر الحقل ,نزل إلى طريق ضيعة الكرم التي يملكها ديكران هلابيان . حيث بدأ ينط فوق الكرمات , وقد قفز فوق سبع كرمات قبل أن أسقط . ثم استمر في العدو . أقبل مراد ابن عمي مسرعاً وصاح قائلاً : علينا أن نمسك الحصان . اسلك هذا الطريق وسأسلك هذا . فإذا أمسكت به فكن لطيفا معه. سأكون قريباً منك مضيت في طريقي , في
حين شق مراد ابن عمي الحقل متجها إلى الجدول . واستغرق الأمر نصف ساعة ليجد الحصان ويأتي به . قال حسن . اقفز على ظهره . لقد أفاق الجميع الآن .
قلت : ماذا نحن صانعان ؟
قال : «حسن . إما أن نعيده وإما نتركه حيث لا يراه أحد حتى صباح الغد «. كنت أعرف أنه سيتركه حيث لن يستطيع أحد العثور عليه وأنه لن يعيده . ولن يفعل ذلك لمدة طويلة على كل حال .
قلت : أين سنضعه ؟
قال : أعرف مكانا يصلح لذلك .
قلت : متى سرقت هذا الحصان ؟
لقد خطر لي فجأة أنه قام بركوب هذا الحصان في الصباح الباكر منذ فترة , ثم أتاني في هذا الصباح لمعرفته بمدى رغبتي بركوب الخيل .
قال : عن أي سرقة تتحدث ؟
قلت : على أي حال , قل لي منذ متى بدأت ركوبه كل صباح ؟
قال : ليس قبل هذا الصباح .
قلت : هل تقول الحقيقة ؟
قال : طبعاً لا لكن إذا ما اكتشف أحد أمرنا , فإن هذا هو ما عليك قوله . لا أريد أن نكذب . كل ما تعرفه أننا بدأنا ركوب الحصان هذا الصباح .
قلت : حسن.
ساق مراد الحصان برفق الى مخزن ضيعة كرم قديمة كان يملكها في يوم ما مزارع يدعى فيتفا جيان , ثم عدنا سائرين إلى المنزل . وقال : لم يكن من السهل جعل الحصان يعدو بجنون , لكني _ كما أخبرتك _ خبير بالجياد . وبإمكاني جعله يفعل راضيا كل ما أرغب في أن يفعله . إن الجياد تفهمني .
قلت : كيف يتسنى لك فعل ذلك ؟
قال : إني أفهم بالجياد .
قلت : نعم لكن ما طبيعة هذا الفهم ؟
قال : فهم بسيط وحقيقي .
قلت : حسن . أريد أن اعرف كيف أبلغ مثل ذلك الفهم مع الجياد .
قال : إنك لا تزال طفلاً صغيراً . عندما تبلغ الثالثة عشرة ستدرك كيف يتسنى لك ذلك . عدت إلى المنزل وتناولت إفطارا وفيرا .
في عصر اليوم جاء خالي خوسروف إلى منزلنا , وجلس هناك يدخن متذكراً الريف القديم . ثم وصل زائر آخر هو مزارع يدعي جون بيرو . فجلس وبدأ يدخن برهة ثم قال بحزن : إن حصاني الأبيض الذي سرق الشهر الماضي لا يزال مفقوداً . لا أستطيع فهم ذلك .
غضب خالي خوسروف كثيراً وصاح مزمجرا : «هذا غير مهم «. وماذا يعني فقدان حصان ؟ ألم نفقد نحن جميعاً الوطن ؟ ما كل هذا البكاء من أجل حصان ؟ قال جون بيرو : قد يكون ما قلته صحيحاً بالنسبة الى رجل مثلك من سكان المدينة . لكن كيف لريفي مثلي أن يتنقل دون حصان ؟
زمجر خالي جوسروف قائلاً : هذا غير مهم .
قال جون بيرو : لقد سرت عشرة أمثال حتى أصل إلى هنا .
صاح خالي خوسروف قائلاً : لديك رجلان .
قال المزارع : إن رجلي اليسرى تؤلمني .
زمجر خالي خوسروف قائلاً : «هذا غير مهم «.
قال المزارع : كلفني هذا الحصان ستين دولارا .
قال خالي خوسروف : وما أهمية المال ؟
ونهض وغادر المنزل .
وأوضحت أمي الأمر قائلة : إن له قلبا طيبا . لكن الأمر يعود إلى اشتياقه إلى الوطن .