Wednesday 24th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    03-Aug-2020

«رحم الأحزان» والهزل اللبناني الخانق* وسام سعادة

 القدس العربي

يشي هذا الهرج والمرج بالكثير. فالكورس الذي أدّى، بمناسبة عيد الجيش وتحت رعايته، وفي احتفال تناقلته الشاشات، أغنية لماجدة الرومي في عيد الجيش، مستلّة من قصيدة «يا ست الدنيا يا بيروت» لنزار قباني، وصل إلى مقطع «قومي من حزنك قومي، ان الثورة ان الثورة..». ليصعب عليه إكمال باقي الكلام «تولد من رحم الأحزان» ويمسك عنه، مكتفياً بدندنة النغم الشاحب «لا لا لا لا».
وفي وقت نفت فيه قيادة الجيش ان تكون تدخلت للرقابة على قصيدة قباني وأغنية الرومي وأداء الكورس، «وسط تأكيد من المنظمين ان الأمر كان في نطاق توزيع لوحة فنية دون أي مقصد رقابي. ايا يكن من شيء» كانت ذكريات كورس الكواليس، أيام «النظام الأمني اللبناني السوري المشترك» لأعوام ما قبل جلاء جيش الوصاية عن لبنان، تعود بقوة الى أذهان اللبنانيين، ومع مفعول رجعي هزلي أكثر مؤلم أكثر. لربما كانت الوصاية في الماضي أذكى، أو نسينا. لم يكن مباحا وقتها التهديف على الوجود العسكري السوري، لكن الكلام عن حزن وفرح كان مباحا. اليوم، هناك حساسية تجاه كل من الحزن والفرح تحديدا في نفس الوقت. لا مكان لهما في «السلة الغذائية» للسلع المدعومة المحدودة وسط كل هذا الغلاء.
لا الفرح ولا الحزن مرحب بهما في هذه المعادلة. انما مرحب بالهرج والمرج من ضمن صندوق الفرجة. فقبل يومين من عيد الجيش واسكات «رحم الأحزان» بهذا الشكل، كانت توبيخات وئام وهاب لوزير الداخلية محمد فهمي على خلفية رد الأخير عليه، وضحك الناس لساعات طويلة وهم يستعيدون شريط التوبيخ ويتناقلونه ويعلقون عليه. ضحك بلا فرح، وغم بلا حزن، وتوبيخات جاءت من عيار «كان قدامي رستم غزالي يعملك السحسوح».
بعد خمسة عشر عاما على جلاء رستم غزالة، وخمس سنوات على تحلّله (يقال فسخاً)، تعطي عبارة وهاب هذه ليس فقط صورة عن كيفية تسيير الأحوال في زمن غزالة، بل أيضاً عن كيفية استمرار شبح رستم غزالة، باستمرار استحضاراته على هذا النحو، كما لو أنه «الطوطم» الباقي لهذا النظام.
يتزامن ذلك مع تصريحات لرئيس جمعية المصارف اعتبر فيها ان رواتب موظفي الدولة تأتي مما تبقى من أموال المودعين، وانه لم تعد للمصارف أموال في الخارج، بعد أن سددت المصارف ديونها الخارجية، ببيع سندات الخزينة التي في حوزتها (الأمر الذي حول الدين الداخلي بالليرة اللبنانية الى دين خارجي بالدولار بالنتيجة). تصريحات تخبر المودعين في المصارف، وبعد أشهر طويلة من الطمأنة الرسمية المجوفة لهم، بأن أصول ودائعهم أوشكت على النضوب نهائيا، وانه ليس من مخرج الا رهن او بالأحرى بيع المشاعات وممتلكات الدولة. وفي نفس الوقت، هذه المصارف تريد الشيء ونقيضه: الانتداب المالي الدولي على لبنان، واخفاء حجم الخسائر المالية الفعلية عن صندوق النقد.
من جهة، هذا خطاب فيه الكثير من الرياء طالما ان المصارف التي تربحت على الهندسات المالية وادانة الدولة، تتقن لعبة الغميضة، بين ما تنقله من رساميلها ورساميل كبار المودعين فيها إلى الخارج، وبين ما تبقيه في الداخل، والخارج والداخل هنا افتراضيان الى حد كبير، وبين اتخاذها وضعية «المفلس» في الداخل، المطالب في نفسه الوقت ببيع ممتلكات الدولة والمشاعات له، او بالأحرى مصادرته لها. لكن من جهة أخرى، هذا كلام يصيغ اكثر من ذي قبل وضوح ما يمكن تسميته الحزب الجماهيري للمصارف.
 
في سوريا احتضار ديناميكي، وهنا انهيار ديناميكي و«تحت السيطرة». نظام الانهيار المضبوط هو نظام ضد الحزن، وضد الفرح. هو نظام يختزل حاجات الفرد في امرين: سلة غذائية تبقي أوده، ونوبات هزلية يتشارك فيها هزء وهزل رموز النظام لبعضهم البعض
 
ذلك أن هذه النواة المالية الأوليغارشية المحلية، التي هي في نفس الوقت نواة وصلها بالأوليغارشية العابرة للبلدان، نجحت في تحشيد قسم لا يستهان به من الرأي العام الى جانبها، بالتواشج مع بعض التلفزيونات، لكن قبل كل شيء، بالعزف على فكرة محددة، وهي ان المودعين لا يستعيدون حرّ مالهم بالضغط على المصارف، انما بتبسلهم في سبيلها، وبتركها هي، تقود معركة المودعين ضد الدولة المديونة المتعثرة فاقدة السيادة.
رحم واسع للأحزان اذا هو الذي جرت المحاولة لطمسه باسكات كلمات نزار قباني. هي من جهة، أحزان تدفع بالناس أكثر فأكثر الى الاحباط، ومن جهة أخرى تدفع بهم أكثر فأكثر الى الهزء بكل هذه الحال. البعض يستاء من هذا، من كون الطابع الهزلي للأحداث يأخذ الناس معه إلى التعاطي الهزلي مع أحوالها. والبعض يرى في الأمر سخرية نقدية، وتحريرية. يصعب الفصل هنا. يبقى ان في رحم الأحزان المبتور هذا ما يفصلنا عن «وادي الدموع» الأثير، كما نجده في العهد القديم والترانيم، أو مثلما يستعيده ماركس الشاب حين يتحدث عن «نقد وادي الدموع». فالثورة تولد من نقد وادي الدموع، أكثر ما تولد «مباشرة» من تراكم الأحزان، ووادي الدموع في حالتنا اللبنانية هذه هو الحالة التي يصير فيها الانباء عن الحزن تجديف «بانجازات» هذا العهد او هذه الحكومة، في حين انه لو كتبت مثلا ان هذا العهد ممتلئ بالفرحة، وهذه الحكومة وسعت مدارك وآفاق السعادة، سيحسب الأمر «تنمراً» عليهم! انه وادي الدموع الذي يشكل الهزل الرسمي صورة تشويهية له.
الثورة تولد من نقد وادي الدموع، أكثر مما تولد من رحم الأحزان مباشرة، لأنه ليس هناك انهيار بالمطلق. هناك نظام انهيار مزمن في لبنان مثلما هناك نظام احتضار مزمن في سوريا.
في سوريا احتضار ديناميكي، وهنا انهيار ديناميكي و«تحت السيطرة» الى حد بعيد. نظام الانهيار المضبوط هو نظام ضد الحزن، وضد الفرح. هو نظام يختزل حاجات الفرد في امرين: سلة غذائية تبقي أوده، رغم انهيار كل الحال المعاشية، ونوبات هزلية يتشارك فيها هزء وهزل رموز النظام لبعضهم البعض.
في الماضي، أيام رستم غزالة، كان يجري الكلام عن بلد «ممسوك» وغير متماسك، للغمز من قناة الممسك الوصائي السوري للبنان. اليوم، في زمن عودة رستم غزالة كشبح يغار من «رحم الأحزان»، أو كمجموعة أشباح يتراشق الواحد منها ذكرى نيل الشبح الآخر «سحسوحا» من رستم أمامه، هناك اكثر من ممسك او متجاذب… لكن بالمجمل، الوضع هو انهيار تحت السيطرة، حرب اجتماعية تجري بانتظام شديد ضد الطبقات الشعبية، حرب تجري بشكل تكنوقراطي للغاية. لكن التكنوقراط هنا يبقون بمقام الكورس الممسوك عن الكلام، المطيل في تنغيم لحن الأغنية المبتورة.
لا، ليس الكل خاسرا. هناك رابح وهناك خاسر. الاوليغارشي المفلس هنا لأنه نقل دولاراته الى الخارج، هو الأوليغارشي «القاشوش» هنا ايضا، الآن أو غدا، عندما يعود فيستثمر في الرخص بدولاراته، او بشراء ما طاب له من أملاك الدولة ومن مشاعات البلد.
وحزب الله في كل هذا؟ رغم كل شيء، هو في وضعية متأرجحة. الحرب الاجتماعية تتذرع بالحرب عليه، وهو يتذرع بالحرب عليه نفسها لإبعاد كاهل الحرب الاجتماعية عنه. الحكومة نفسها المحسوبة عليه، والمتشاجرة مع المصارف، لم تنفذ عمليا الا ما يريده كونسورسيوم المصارف، طالما ان هناك بالنسبة له ما هو اخطر من هذا من دون هذه الحكومة. انها الحكومة التي لا تحضر في عبارات الناس الا مقرونة بـ«الشحار» والـ «يا حزني».
لكن الثورة، التي لا مدخل اليها، الا بعبور وادي الدموع ونقده، بدلا من الاتكال على الهمة التراكمية لرحم الأحزان، هذه الثورة التي لم تباشر انتفاضة 17 تشرين 2019 الا بكتابة الفصل الأول منها ثم توقفت عنده، لم يعد ممكناً أن تحاول كتابة فصل آخر قبل أن ينظر الحالمون بها في المرآة هم أيضا، وربما لأول مرة، أي قبل التنبه الى كثرة التماثل بين الأفكار والشعارات التي تعج في رؤوس هؤلاء الرواد، وبين أحابيل هذا النظام، نظام الهزل الخانق لا الفرح، والغم المتمادي لا الحزن. الحق في الحزن وفي الفرح هو المدخل بحد ذاته لتفجير هذا النظام.
 
كاتب لبناني