الدستور-أ. د. سلطان المعاني
يتجلى المقدس في أعماق الوعي الإنساني كحقيقة تتجاوز حدود الإدراك الحسي، حيث ينحت وجوده في تفاصيل الطبيعة والرموز والأساطير التي نسجتها الشعوب عبر العصور. إن العلاقة بين الإنسان والمقدس لم تكن يومًا علاقة سطحية أو عابرة، بل هي وشائج متجذرة في صلب الوجود، تشكلت بفعل الحاجة العميقة لفهم الكون، وتأويل ما استعصى على الإدراك المباشر. منذ فجر التاريخ، أدرك الإنسان أن العالم أكبر من فضاء مادي جامد، فهو نسيج حي يحتشد بالمعاني، تتخلله قوى خفية تمنحه روحًا، وتحيل مظاهره إلى إشارات تستدعي الفهم والتأمل. ففي الحضارات القديمة، لم يكن المقدس مجرد حالة شعورية فردية وحسب، فقد كان نسيجًا متكاملًا من الطقوس والرموز والأساطير، التي تُمأسس العلاقة بين الإنسان والعالم الروحي. فالجبال، والأنهار، والنجوم، والكائنات الحية كانت تجليات لقداسة تحيط بالعالم وتمنحه معنًى، حتى صار لكل حضارة مواضع مقدسة، ارتبطت بمسارات الطقوس والتعبد. كانت المعابد والأهرامات بوابات بين العوالم، وأماكن تلتقي فيها الأرض بالسماء، حيث يختبر الإنسان رهبة الحضور الإلهي، ويشعر بأنه جزء من نظام كوني محكم.
إن الرمز هو اللغة التي يتحدث بها المقدس، فهو الجسر الذي يعبر به الإنسان من عالم المرئي إلى عالم اللامرئي، حيث تستحيل المفاهيم المجردة إلى صور ملموسة، تحوي معاني تتجاوز وجودها المادي. فالأفعى التي مثلت الحكمة والشفاء، والثور الذي جسد القوة والخصوبة، وعين حورس التي حملت دلالات الحماية والبصيرة، كلها رموز أبعد من تمثيلها الحسي، فكانت انعكاسًا لعالم متعالٍ تُستشف منه أسرار الكون. وهكذا، صار المقدس يتجلى في كل تفصيل، من صورة الشمس التي تعود كل يوم معلنةً انتصار النور، إلى دورة الفصول التي تحاكي ولادة الحياة وانبعاثها من جديد.
أما الأسطورة، فهي التجلي السردي للمقدس، حيث تنقل إلينا قصصًا تحمل سر الوجود، وتفسر للإنسان علاقته بالآلهة، والموت، والمصير. من ملحمة جلجامش التي تُسائل الخلود، إلى الأساطير المصرية عن البعث والحساب، كانت الحكايات المقدسة تحمل رموزًا تعبر عن جوهر التجربة الإنسانية. فلم تكن الأسطورة خرافة أو وهم، إنها وعاءٌ معرفيٌ، تتفاعل فيه الأسئلة الكبرى مع تصورات الشعوب حول العدالة، والقدر، ومعنى الحياة.
وقد سعت البشرية على مر العصور إلى إعادة تعريف العلاقة مع المقدس، خاصة في اللحظات الفاصلة من التاريخ، حيث تصاعدت الفلسفات العقلانية، محاولِةً تفكيك الأسطورة، وتفسير الدين تفسيرًا دنيويًا يعتمد على العوامل النفسية والاجتماعية. ففي القرن الثامن عشر، ومع انبثاق عصر التنوير، بدأ المفكرون في إعادة النظر في المقدس بوصفه نتاجًا للحاجة الإنسانية إلى النظام واليقين. ورأى البعض أن الإيمان ينبع من خوف الإنسان من المجهول، ورأى آخرون أن الدين هو أداة لتنظيم المجتمع، وضبط السلوك الجماعي، فيما ذهب آخرون إلى أن المقدس ما هو إلا انعكاس لعلاقات القوة داخل المجتمعات، وأنه وُظّف عبر التاريخ كأداة سياسية واقتصادية.
لكن رغم هذه المحاولات، ظل المقدس حاضرًا، متجذرًا في الوعي الإنساني، يتخذ أشكالًا جديدة، ويُعيد تشكيل نفسه مع تغير الزمن. فحتى في المجتمعات التي سعت إلى تفكيكه، بقيت الطقوس والرموز تمارس حضورها العميق، في الفن، والأدب، وحتى في الأيديولوجيات الحديثة التي وإن استبدلت آلهة الماضي بآلهة جديدة، إلا أنها لم تنجُ من الحاجة إلى المقدس في شكل من الأشكال.
فالمقدس، إذًا، لم يكن مجرد وهم عابر أو ظاهرة قابلة للتفسير العقلي الخالص، فهو فوق ذلك بعد جوهري في التجربة البشرية، جزء من ذلك التوق العميق إلى المعنى، والرغبة في تجاوز الفناء، والبحث عن الحقيقة الكبرى التي تمنح الوجود منطقه الغامض. سواء تجلى في المعابد القديمة، أو في قصائد الشعراء، أو حتى في الهياكل الفكرية للعصور الحديثة، يبقى المقدس ذلك السر الذي يمنح الأشياء بريقها، والمعنى الذي يشد الإنسان إلى ما هو أبعد من ذاته، إلى ذلك الأفق الذي يتوارى خلف حدود الإدراك، ويظل، رغم كل شيء، عصيًا على التفكيك، متجددًا كما كان منذ البدء.
إذا كان المقدس هو الحضور المتعالي الذي يتجاوز الحواس والعقل، فإن علاقة الإنسان به ظلت علاقة تواشج بين الرهبة والانجذاب، بين الخوف والبحث عن الطمأنينة. إنه ذلك الشعور العميق الذي يدفع البشر إلى إضفاء القداسة على الأشياء، إلى تحويل الجماد إلى حي، وإكساب الطبيعة روحًا تتجاوز ماديتها المحسوسة. فالمقدس لم يكن دائمًا في المعابد فقط، بل كان يسكن الماء والهواء، يتجسد في طقوس العبور والموت والبعث، يعيش في الحكايات والأساطير، يتلون بأشكال لا تحصى، لكنه يظل في جوهره إحساسًا أصيلًا بوجود شيء أعظم من الذات، شيء لا تدركه الأبصار لكنه يملأ الوجدان.
حين رفع الإنسان عينيه نحو السماء في عصور ما قبل التاريخ، رأى الشمس تشرق وتغيب، رآها تعود كل يوم دون أن تخذله، فتجسد له في ثباتها معنى الخلود، وفي نورها سر الحياة، وفي غيابها لغز الموت والغياب. وهكذا نشأت الآلهة الشمسية، من رع في مصر، إلى شمش في بلاد الرافدين، إلى أبولو في الميثولوجيا الإغريقية. في هذا السياق، لم يكن المقدس فكرة طارئة، فقد كان بوصلة وجودية، به يفسر الإنسان نفسه، ويفهم طبيعة العالم الذي يحيط به.
وإذا كان الإنسان القديم قد قدس عناصر الطبيعة كالنار والماء والتراب، فإن المجتمعات المتقدمة لم تتخلّ عن حاجتها للمقدس، بل أعادت إنتاجه بطرق أخرى، أكثر تعقيدًا وأقل وضوحًا. فحتى في لحظات «نزع القداسة» عن العالم، ظل المقدس يتسلل في أشكال أخرى؛ في القوانين التي تحولت إلى مدونات غير قابلة للمساس، وفي الأيديولوجيات التي اتخذت مكان العقائد، وفي الفن الذي ظل يحمل رموزًا تتجاوز المعنى المباشر. وفي هذا، فإن المقدس عندهم لم يكن علاقة دينية، وإنما هيكل عميق من المعاني التي تمنح الأشياء حضورًا يتجاوز ماديتها.
شكلت فكرة المقدس حضوراً دائماً في الذاكرة الإنسانية، لأنها تمثل لحظة التقاء الإنسان بما لا يستطيع أن يحيط به تمامًا، لكنها تمنحه المعنى في المقابل. فالأساطير كانت تجارب كونية تحاول أن تمنح الكون نظامًا مفهومًا، وتضع الإنسان في مكانه داخل مسرح الوجود. ولذا، نجد أن كل الشعوب القديمة امتلكت أساطير الخلق، قصصًا تحكي كيف وُجد العالم، كيف نشأت الكائنات، كيف خُلق الإنسان، وكيف ستكون نهايته. كانت هذه الأساطير تأويلًا رمزيًا لعلاقة الإنسان بمصيره، ببحثه الدائم عن سبب لوجوده، عن تبرير للموت الذي يطارده منذ لحظة وعيه الأولى.
ولكن، هل يمكن للإنسان أن يعيش بلا مقدس؟ هل يمكن أن يحيا في عالم مادي بحت، خالٍ من أي شكل من أشكال التجاوز والسمو؟ إذا كان القرن الثامن عشر قد شهد تفكيكًا فكريًا للمقدس، فإن القرن العشرين شهد عودته بطرق غير متوقعة. فمع تصاعد الحداثة، بدا أن الإنسان قد بدأ يتجه نحو عالم بلا أسرار، عالم تهيمن عليه الأرقام والمعادلات والمنطق الخالص، إلا أن الحاجة إلى المقدس لم تختفِ، بل عادت بأشكال جديدة، في الرمزية الحديثة، في البحث عن روحانية متحررة من الأطر الدينية التقليدية، في تقديس الفنون والعلوم وحتى الأفكار السياسية التي تحولت في بعض الأحيان إلى مذاهب مقدسة.
مرة أخرى فالمقدس، إذًا، لا يمكن أن يُمحى، لأنه متجذر في البنية النفسية للإنسان، حاضر في كل ما حوله، في طقوسه البسيطة كما في فلسفاته العميقة، في خوفه كما في أمله، في لحظات صمته حين يواجه اتساع الكون، كما في صرخته حين يبحث عن العدالة. إنه ذلك الذي يجعل الحياة أكثر من مجرد أيام تمر، ذلك الذي يمنح للأشياء أبعادًا أخرى، ويمنح الإنسان نافذة يرى منها ما وراء العالم المادي، نافذة لم تُغلق يومًا، ولن تُغلق، طالما ظل في الإنسان ذلك السؤال الأزلي: لماذا نحن هنا؟