الحمام القديم في مدينة السلط .. ذاكرة الاسم والمسمى
الراي - وليد سليمان - عرفت الحمّامات في الأردن منذ القِدم, فهذه شلالات البحر الميت والرميمين والينابيع المعدنية في عفرا- الطفيلة وعيون موسى وماعين والحِمّة في الأغوار الشمالية وغيرها ... وهذا خير شاهد على ذلك.
وكان العرب في بلاد الأندلس هم أول من أدخل الحمّامات إليها, وهذه شهادة الأسبان أنفسهم, والذين بدورهم نقلوا الحضارة العربية الإسلامية إلى أوروبا.. كما أن طرقات الأندلس كانت مُبلطة بالبلاط الحجري في حين كانت طرقات أوروبا تغوص بالحفر والمستنقعات في ذات الفترة من الزمان.
والحمّام قديماً كان يعني مكان الاستحمام وليس شيئاً آخر.. وعندما كانت بلاد الشام تحت الحكم العثماني مدة أربعة قرون (1516 – 1917) عُرفت هذه الحمّامات بالتركية وكانت في العهد الروماني تُعرف بالرومانية.. وهكذا.
ولمّا كانت هذه المباني التراثية هي جزء من مكوّنات الأمة وثقافتها, وهي أيضاً إرث لشعوبها, فلا يجوز – بأي حال من الأحوال- أن تكون تابعيتها لعهد أو سلطة حاكمة معينة, حفاظاً على هويتها, وعدم طمسها أو تغيير معالمها, بل يجب الحفاظ عليها من الضياع أو الاعتداء بأي شكل كان, سواءً كانت مبانٍ أو أزياء أو حتى أكلات شعبية.
وفي لقاء» أبواب الرأي» مع الباحث عاشق السلط «درويش الكاشف» حدثنا وبشكل مستفيض عن حمام السلط القديم قائلاً: لقد اكتسبت حمّامات بلاد الشام شهرة نظراً للطراز المعماري الذي كانت تتمتع به وأدوات الاستحمام المستعملة, وكان يطغى عليها الهدوء والسكينة. ومن هذه الحمّامات الحمّام في مدينة السلط, والذي كان معلماً بارزاً من معالم المدينة ومظهراً من مظاهرها التاريخية, ولو كُتب له الاستمرار لكان في عداد المباني التراثية.
وكانت الحمّامات يقصدها في البداية التجار والمسافرون والرّحالة الذين يمرون بالمدن, ثم أصبحت لعامة الناس,و للحمّام إدارة وعمال متخصصون كلٌّ له عمله المخصص له.
الموقع
كان موقع الحمّام القديم في السلط في مكان مجاور تماماً لمباني دير اللاتين. وعلى مقربة ما كان يُعرف بـ (ساحة العين) أو وسط البلد والذي كان يُعد قلب المدينة وملتقى أسواقها, وكان فيه مبنى دار الحكومة (السراي). ومكان الحمّام كان على أحد جانبي الشارع (السوق) والساحة الخلفية لهذا الشارع والذي سُمي باسمه لاحقاً. ومنذ ذلك الوقت أصبح يُعرف هذا الشارع بـ (شارع الحمّام). إذن فالاسم هو الحمّام والمسمى شارع الحمّام.
بناء الحمّام
ولا يُعرف تاريخ بناء الحمّام تحديداً, ولكن على الأرجح أنه بُني في فترة ازدهار مدينة السلط التجاري والمعماري, وذلك في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين (1881 – 1917). وكانت حجارته من النوع الأصفر الذي تتميز به مدينة السلط وجاء البناء على الطراز المعماري الذي يعتمد على أسطح العقود المتقاطعة والتي تستند على جدران سميكة تُعرف بـ (الكِلّيل).
والأبواب والنوافذ ذات الأقواس والأعمدة الحجرية المزخرفة, أما المياه فكانت تُسحب مباشرة من نبع المدينة الرئيسي وهو عين الجامع الكبير, وذلك بأنابيب فخارية أو حجرية مسقوفة.
أما مواد البناء الأخرى المستعملة فكانت الشيد (الكلس) والرمل, وقبل صناعة مادة الإسمنت استعمل الجبص مع خيوط الليف بدلاً عنها في ذلك الوقت.
ويُقال أن أرضيات الحمّام كانت مُبلطة بالرخام الإيطالي. حيث كان يُحضر من إيطاليا عن طريق البحر إلى ميناء حيفا بفلسطين ثم يُنقل بالقطار إلى مدينة درعا ومنها إلى مدينة عمان بالقطار أيضاً بواسطة قطار سكة حديد الحجاز, وأخيراً إلى السلط بواسطة وسائط النقل المتوافرة في ذلك الوقت وهي العربات التي تجرها الدواب أو على ظهور الجِمال.
توفير المياه الساخنة
كانت تستخدم طريقة خاصة لهذه الغاية, وذلك باستعمال المراجل والأوعية النحاسية الكبيرة (القدور أو الحِلل) لتسخين المياه. أما المواد المستعملة في الوقود فكانت بقايا الأخشاب والنشارة والحطب ومخلفات الحيوانات (الجِلَّة) ومخلفات عصر الزيتون (الجفت) وقصاصات القماش وغيرها. ومن المراجل يتوزع الماء الساخن في داخل الغرف المخصصة للاستحمام ويستكمل بتوزيع الماء البارد عن طريق التهوية من الموقد وعبر الأنابيب التي تصرّف المياه بعد الاستحمام.
ويُذكر أن أصحاب المطاعم الشعبية كانوا يُحضرون جرار الفول (المدمس) النحاسية (العسليات) ويضعونها بالقرب من الموقد في المساء وحتى الصباح وبهذه الطريقة كان يُسلق الفول.
الحمّام من الداخل
يُقسّم الحمّام من الداخل إلى ثلاثة أقسام وهي:
القسم الأول: عبارة عن ساحة لها سقف على شكل (قُبّة) ذات فتحات صغيرة (نوافذ زجاجية ملونة) تسمح بدخول أشعة الشمس. والأرضية مُبلطة بالرخام وتُستعمل للاستلقاء. وتحتوي على مصطبات مكسوّة بالرخام أيضاً.
القسم الثاني: غرف (حجرات) الاستحمام التي تحتوي على المياه الساخنة واللّيف والصابون والمستلزمات الأخرى من مناشف ووِزْرات وطاسات نحاسية والقباقيب.
القسم الثالث: الغرف (الحجرات) الباردة والتي يسترخي فيها المستحمون بعد الاستحمام أو الجلوس لتناول المشروبات الباردة أو الساخنة وتبادل الأحاديث والذكريات وأحياناً الغناء والتسامر وقضاء وقت للراحة بعيداً عن ضغوطات العمل.
وكانت الحمامات تُستغل أيضاً لمناسبات الأفراح, حيث كان العريس يحضر يوم الزفاف هو وأقاربه وأصدقاؤه للاستحمام وسط الغناء, وبالتالي الخروج من الحمّام بالزفّة والغناء أيضاً. وكذلك الأمر بالنسبة للعروس, ولكن في وقت آخر. وكان يُعدّ الحمّام بالنسبة للنساء كمركز للعناية بالبشرة في هذه الأيام, بالإضافة إلى مكان للّقاء والتعارف.
وثيقة تاريخية
و ورد في أحد المصادر التاريخية عن الحمّام القديم ما يلي:
«أنّ هذا الحمام بناه المرحوم عبد الرحمن العقروق, وقام المرحوم عبد الله جاموس بدق الحجارة, في شارع الحمّام, وفي ملك أبناء فياض وحمد الله ومسعود النابلسي. وكان يُجلب الماء للحمّام من الماء المُتدفق عبر القناة الواصلة للحمّام, وكانت المياه تسخن بحرق نشارة الخشب وروث الدواب وقصاصات الأقمشة وما إلى ذلك, ويُقال أنّ هذا الحمّام قد تصدّع نتيجة الزلزال في 11 تموز 1927, الأمر الذي دفع بالقائمين على الأمر إلى هدم هذا الحمّام. وقد كان «الضامنون» لهذا الحمام (أبو نعيم حشيش). وقد خُصّص بعض الوقت في أول النهار للنساء, وبعد الظهر للرجال. وكانت الأجرة حوالي قرش أو قرشين. أمّا الحمّام الثاني العمومي فكان حمّام (الزلام) وكان يقع أسفل الجسر (جسر العين) وكانت تجري فيه المياه الباردة ليلاً ونهاراً, صيفاً وشتاءًً, ويدخله للاستحمام الرجال والشباب والأطفال. وقد يجد الإنسان فيه مكاناً لتعليق بعض ملابسه».
وفي سياق آخر يذكر الباحثون ان كنيسة البروتستانت ( الكنيسة الانجليزية ) قد بُنيت في السلط عام 1817 م على أنقاض حمام قديم , حيث وجد العاملون في بنائها حماماً كامل البناء على عمق 10 أقدام أثناء قيامهم بحفر أساسات مبنى الكنيسة .
هدم الحمّام
ولمّا كان بناء الحمّام قد تأثر بالزلزال القوي الذي ضرب المنطقة في عام 1927, فهدم الكثير من المباني نتيجة لذلك ومنها حمّام مدينة السلط, فتصدع البنيان وتوقف عن العمل منذ ذلك التاريخ .. وهذا ما أكده أحد أفراد عائلة النابلسي, الأمر الذي دعا القائمين على الحمّام إلى هدمه وبالتالي بناء وإقامة عدد من الدكاكين على جزء من مساحة الأرض القائم عليها والتي تمتد حالياً من محل عادل الأدهم حتى المدخل الأوسط للشارع (سوق الحمّام) وأصبحت هذه المحال مكملة للدكاكين التي تعود ملكيتها إلى دير اللاتين في الشارع نفسه. أما مساحة الأرض المتبقية والتي تقع خلف الدكاكين, فقد استملكتها بلدية السلط في وقت سابق وأزالت أنقاض البناء, وقبل مدة أقامت عليها مجموعة من الدكاكين الصغيرة ووحدة صحية عامة.
وبعد هدم الحمّام انتشرت في المدينة مهنة السقائين الذين كانوا ينقلون المياه من عيون المدينة إلى البيوت بواسطة (القِرَب الجلدية) على ظهورهم أو بواسطة الصفائح المعدنية على الدواب. الأمر الذي شجّع الأهالي على إنشاء الحمّامات الخاصة في بيوتهم.