الراي -
منذ السابع من تشرين الأول، برزت الدبلوماسية الأردنية كفاعل محوري في صياغة المواقف الدولية تجاه العدوان الإسرائيلي في قطاع غزة، حيث استطاعت زيارات جلالة الملك عبدالله الثاني، واتصالاته المكثفة أن تغيّر بشكل ملموس في مواقف العواصم الغربية الكبرى، بحيث لم تبق الرواية الإسرائيلية هي الأكثر تأثيراً في المحافل الدولية، بل ظهرت سردية أردنية –عربية متماسكة تستند إلى الشرعية الدولية وحقوق الشعب الفلسطيني التاريخية، وتضع الاحداث الأخيرة في سياقاتها التاريخية التي تعيد جذور القضية إلى سببها الرئيس وهو الاحتلال.
هذا الدور الأردني تعزز بخطاب الملك المؤثر أمام البرلمان الأوروبي في 17 حزيران 2025، والذي حمل أبعاداً أخلاقية وإنسانية قوية وأعاد تسليط الضوء على مأساة غزة من منظور إنساني عالمي.
وانعكست هذه الجهود على مواقف دول مؤثرة، إذ بدأت ألمانيا في تغيير نهجها تدريجياً، وأعلن المستشار الألماني فريدريش ميرتس، خلال مؤتمر صحفي مع الملك في برلين عن شراكة عميقة مع الأردن في المجالات السياسية والاقتصادية والإنسانية، وأبدى استعداد بلاده للتعاون مع الأردن في إنشاء جسر إغاثي لغزة، في خطوة غير مسبوقة تعكس التحول في السياسة الألمانية، هذه المساعدات التي كان للملك فيها موقف مهم تجلى في التأكيد على عدم جواز تسييسها، في رسالة واضحة لإسرائيل وكل الأطراف المعنية بهذا الملف.
وشهدت بريطانيا، من خلال الحوارات المباشرة التي أجراها الملك مع صناع القرار هناك، تحولاً واضحاً تُوج بإعلان رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، عزمه الاعتراف بالدولة الفلسطينية رسمياً خلال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة المقبلة.
واللافت أنّ الملك هو أكثر زعيم التقى ستارمر، منذ توليه رئاسة الحكومة، ما يعزز التأثير الأردني المباشر على التوجهات البريطانية في قضايا المنطقة، خصوصاً في مسألة الاعتراف بالدولة الفلسطينية.
هذه التحركات لم تقتصر على ألمانيا وبريطانيا، بل شملت فرنسا ودولاً أوروبية أخرى بدأت تتجه نحو موقف أكثر انسجاماً في الملف الفلسطيني، بعد أن كان الموقف الأوروبي منقسماً بشكل جلي.
ومع تزايد المأساة في غزة، انفتحت نافذة لسياسة أوروبية أكثر فاعلية في دعم حل الدولتين، حيث برز الأردن شريكاً رئيسياً لهذه الجهود من خلال مبادراته العملية مثل اقتراح الإنزالات الجوية للمساعدات، التي وإن كانت محدودة التأثير، إلا أنها فتحت الباب أمام تعاون أوروبي أوسع، في اعتراف ضمني بالدور الأردني الريادي في هذا المجال.
وأثبتت زيارات الملك الأخيرة إلى الولايات المتحدة وكندا وألمانيا، ولقاءاته مع كبار القادة وصناع القرار العالميين، أن الدبلوماسية الأردنية تجمع بين المصداقية والدور العملي على الأرض، وقد انعكست نتائج هذه الجهود في أعمال المؤتمر الدولي رفيع المستوى في نيويورك، الذي عقد برعاية «سعودية-فرنسية» لدعم «حل الدولتين»، حيث باتت أصداء الموقف الأردني تتردد على ألسنة ممثلي الدول المشاركة.
وفي الوقت الذي كانت فيه الولايات المتحدة حريصة على تهميش الدور الأوروبي في الملف الفلسطيني، تمكنت أوروبا من بلورة سياسة خارجية أكثر انخراطاً، مستندة في جزء كبير منها إلى الجهد الأردني الذي عزز التنسيق بين بريطانيا وألمانيا وفرنسا.
كل هذه التطورات تؤكد أن الدبلوماسية الأردنية، بدأت تؤتي ثمارها بشكل واضح. فقد تحولت من دور إقليمي داعم إلى لاعب أساسي في التأثير على القرارات الدولية، سواء في مجالات الاعتراف بالدولة الفلسطينية أو في دعم المساعدات الإنسانية أو في الضغط على إسرائيل لوقف إطلاق النار.
ومن الواضح أن استمرار هذا الزخم، مقترناً بالعلاقات القوية التي نسجها الملك مع قادة أوروبا، وفي مقدمتهم رئيس الوزراء البريطاني، إضافة إلى كندا سيؤثر بشكل مباشر على مجمل قضايا المنطقة في المرحلة المقبلة، وخصوصاً في مسألة الاعتراف بالدولة الفلسطينية.
هكذا، يثبت الأردن مرة أخرى أن السياسة الخارجية النشطة والمستندة إلى رؤية واضحة يمكنها أن تحدث فارقاً حقيقياً في المواقف الدولية، حتى في ظل أكثر الأزمات تعقيداً.
ومع تزايد التحديات في الإقليم، يبرز الأردن لاعبا محوريا لا غنى عنه في أي تسوية سياسية مقبلة، خصوصا مع الحديث عن اعتزام أوروبا الإعلان عن مبادرة دولية جديدة لحل القضية الفلسطينية في الفترة المقبلة، فقد أثبتت تحركاته أن الصوت العربي المتزن والواقعي يمكنه التأثير في مراكز القرار العالمية، وأن سردية قائمة على الشرعية الدولية والبعد الإنساني تجد آذاناً صاغية في العواصم الغربية، خصوصا في ظل التحولات الجارية في المواقف الأوروبية.
إنّ استمرار هذا الزخم، مقروناً بتنامي الانسجام الأوروبي في الموقف من فلسطين، قد يفضي إلى موجة اعترافات متتابعة بالدولة الفلسطينية، وإلى ضغوط أكبر على إسرائيل لإدخال المساعدات ووقف إطلاق النار.
في المحصلة، استطاع الأردن أن يحافظ على مكانته كدولة فاعلة ومسؤولة، تمثل ضميراً عربياً حياً في الساحة الدولية، وتؤكد أن الدبلوماسية المدروسة يمكن أن تكون أداة مؤثرة لتغيير الواقع السياسي، حتى في أحلك الظروف.