Friday 26th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    05-Feb-2021

الإنسان ذو البعد الرقمي

 الدستور-رانة نزّال

لقد اختفى الدور التاريخي للطبقة البرجوازية ولطبقة البروليتاريا حسبما أكّد هربرت ماركوز الفيلسوف والمفكّر الاجتماعي في كتابه «الإنسان ذو البعد الواحد» في حين سيطرت وتسيطر العقلانية العلمية التقنية، وقد أحكمت هذه القوى سيطرتها على ذوات الناس وحوّلتها إلى أشياء عبر الاستهلاك والسلعية التي صارت دالة ومؤشراً بل وأداة تعريف للذات، فعوض قُل�' لي من تصاحب أقل لك من أنت؟ صارت قل لي ماذا تملك أقل لك من أنت؟ وصحيح أن النزعة التشاؤمية التي طبعت نتاج هربرت ماركوز قد أثّرت بقوة في الحركات الاجتماعيّة المعارضة في ستينيات القرن الماضي إلّا أن طوباوية وردية حاولها هربرت في كتابه «الحب والحضارة» الذي ينتصر فيه لقيم الرفاه ويفسر السعادة التي يمنحها الحب للبشر على أنّها الانعتاق مع كل عقلانيته الصارمة، ونقده الحاد للمثالية والذاتية والبرجوازية إلّا أنّه في محاولته التحرّر عقب هزائم الثورات الطلابيّة التي شكّل إنسانه ببعده الواحد وقوداً أشعل جذوتها من حيث يقينه بأنّ الأقليات ستقود حراكاً يغيّر ثوابت الثورة الصناعية إلّا أن فشل هذه الحركات قد قاد إلى حراك عكسيّ رغم محاولة ماركوز الانتصار للإبداع والفن مقابل التشيؤ والاغتراب إلّا أن العالم بشبابه وأطيافه وطبقاته راح يصُبُّ جام غضبه وخيباته في الحركات اليمينية والفاشية المتطرفة، وأفرز عنصريات وأقليات نجم عنها عالماً أشد قتامة، وانكفأ الفرد ببعده الواحد وتحوّل إلى بُعد رقمي يزداد استيحاشاً وغربة واغتراباً، وقد فشل هذه المرّة مركوز في التنبؤ بما سيحلّ بالعالم بعد أن نجح في تقديم تصوّر لتفكّك الاشتراكية، إذ�' في كتابه «الماركسية السوفياتية»، يعرض مُحللاً لهذا التفكّك إلّا أنّه في «نحو التحرّر» لم يبرح يخاطب عالماً مأمولاً لا تجمعنا به أيّة صِلة، وها نحن في عبثية ساخرة وساخطة نشتري فنوناً لا معنى لها ولا نكهة ولا رائحة ولا لون وإلّا ما الذي يفسّر شراء لوحة «الموزة المعلّقة» الملصقة على الجدار بورق لاصق للفنان الإيطالي ماريزو كاتالين والتي بيعت في معرض آرت بازل ميامي بيتش بـ 120 ألف دولار، ليمد الفنان الكوميدي دايفيد داتونا يده وينزع الموزة؛ ليلتهمها أمام الجمهور. فما كان من القائمين على المعرض إلا أن استبدلوها بموزة أخرى. إنّه التشييء الرقمي الذي أفقد كُلّ شيء نكهته وطعمه ولونه ورائحته.
لقد غيّبت الثورة التّقنية الأبعاد في إنساننا، وصرنا أشبه ما نكون بأدوات وأشياء تدعي أنّها حاضرة ومؤثرة وفاعلة وتشتري ذلك بأن تدفع ثمن حضورها وتأثيرها وفاعليتها، في حين أكثر من ثلثيّ العالم يبيت على الطّوى وتحت جنح الصّقيع والصواعق والمطر، ويجرجر أحلامه في الوحل في حين العالم في الطرف الآخر منه يعلّق أحلامه على حبال السّحاب، السّحاب الرقمي التقني ويلتقط أصوات وصور أحبابه ويقبّلهم عن بعد مقنعاً نفسه بأنّه يعيش الرفاه غير المسبوق، والحياة الرغيدة.