Monday 29th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    23-Feb-2024

عربة امرأة من غزّة

 الدستور-هند أبو الشعر

- توقفوا..!
- توقفوا.. دعوها تمّر..!
- دعوا العربة تمّر..!
- توقفي أيتها الجياد المطهمة الجميلة، أفسحي الطريق أمامها.. اسكتي أجراس الجياد المنعمة، واتركيها تمُّر بعظمة الموت، وهي تقود عربتها العتيقة بتهّور وجنون، اتركيها تصرخ بصوت أّم مكلومة، على الدابة الخائفة من صوت انفجارات طائرات القتلة، اتركيها تناشد الدابة المتعبة أن تسابق ريح الشاطئ، المتخم بأصوات الانفجارات والدمار، لتصل بأجساد أبنائها المسجاة على ألواح الخشب العتيق، المعتق بالدم المقدس، ينُّز من أجسادهم، اسمعي صوتها الهادر مع الموج، يناشدك بأن تركضي على الشوارع المهدمة بقنابل القتلة، لتنقذ الجريح المسجى على اللوح الخشبي، والذي تتمسك به شقيقته، وهي تصرخ:
- يمه..!! يمه..!
كانت يد الصبية تشد على جسد شقيقها الجريح، ويدها الأخرى تشد على جسد شقيقها الشهيد على اللوح الخشبي قربه، تتطاير خصلات شعرها في كل اتجاه، وتصرخ بلا توقف:
- يمه.. يمه..!
عربة المرأة الغزّية تطير، والمرأة تصرخ بالدابة بجنون، تقود عربة تحمل الحياة والموت، تلتفت إلى الوراء، وتضم وجه الصغيرة التي يهتز جسدها في كل اتجاه، وهي تغالب لتتمسك بجسد الشهيد، الذي يحاول أن يطير إلى السماء، ويترك العربة، وجسد الجريح، الذي ينز منه دم مقدس، تغطي الخصلات الطويلة وجهها، وتحجزها عن الرؤية.. تصرخ بقوة ريح المتوسط الغاضب:
- يمه.. يمه..!
تمر العربة بين الأنقاض، والركام، والصراخ، وقوافل الموت، تحاول أن تجد مكانا للعجلات العتيقة، صوت صراخ المرأة يشق عنان السماء، ويزاحم عربة (زيوس) كبير الآلهة، وهو يجر عربة الوقت في كبد السماء، كانت عربة زيوس بجيادها السوداء قد اجتازت نصف الأفق، افسح كبير الآلهة الطريق لعربة المرأة، وتمسك بعنان الجياد، التي أجفلت من صوت المرأة الصارخ من الأرض:
- أسرعي.. اسرعي أيتها الدابة العجوز.. أسرعي لئلا افقدهم كلهم..
كانت المرأة أطول من نخلة في رفح، ولها أصابع تصل آخر الكون، خواتمها من حجارة المتوسط، وشالها الأبيض من زبد الشاطئ.. مدت ذراعها الأسطوري ليصل إلى آخر المدى، ونادت على الدابة التي تجّر العربة:
- لا تخذليني.. اركضي.. انهم كل ما أملك.. اركضي.. سابقي الريح، والشمس، وأمواج الشط.. هيا. هيا.. اركضي.
طائراتهم المجنونة تقصف بلا هوادة، والمرأة الغزية تشد على عضلاتها بقوة الريح، أكثر.. أكثر.. أكثر..
- اركضي ايتها العربة.. اركضي بين الركام.. لا تخذليني.. هيا.. هيا..
كلما التفتت إلى العربة خلفها تصورتها محملة بحزم النعناع، والجرجير، والبقدونس، والبصل الأخضر، وتصورتهم معها ينبتون، ويكبرون، بين حزم النعناع، والبصل الأخضر، ويذهبون معها على العربة العتيقة إلى السوق مع الفجر، ينبتون بلا توقف، ترضعهم وهي تحمل حزم النعناع، وتجلس على الرصيف في السوق، وتصرخ:
- نعناع.. جرجير.. بصل أخضر..!
ينامون على ذراعها الذي يصل آخر الكون، يرضعون القوة والانتظار، وينادون معها كلما تعلموا الكلام:
- أخضر يا نعنع.. أخضر..!
ولدوا وتربوا في العربة، كلما كبر صغير ضم شقيقه الصغير إليه بين حزم النعناع والجرجير، وهي تقود العربة ومعها الدابة العجوز، رأتهم بعين الأمس يضمون شقيقتهم الصغيرة، ويخافون عليها من السقوط عن الحاجز الخشبي، ويغنون لها أغاني شط غزة، تفقدتهم يرقدون على الألواح الخشبية المغمسة بالدماء وبقايا حزم النعناع، والصغيرة تشد عليهم بكفيها، وخصلات شعرها تصل آخر الكون مع رياح شاطئ غزة الدامع، تفقدتهم كلهم بلمحة عيْن، قالت للدابة باعتذار شفيف:
- اعرف أنني أجرحك، أعرف أنك معي منذ أول الكون، حملتني منذ طفولتي، وحملت معي كل جراحاتي.. أعرف أنك هرمت، سامحيني لأنني أتمنى لو كنتِ خيولا مطهمة تسابق الريح.. لو أنك تطيرين في الأفق بأجنحة.. لو..
تطلع (كبير الآلهة) بشفقة إلى الأرض، تمنى لو أن بيده أن يترك عنان خيوله الراكضة منذ الأبد في الأفق، ليهبها للمرأة الغزية، لكنه قبض بشدة عليها خشية أن يختل نظام الكون، كانت خيوله الرشيقة تطارد المسافات في الأفق لتصل إلى المغيب، وتغرق الشمس خلف الشاطئ.. تطلع بحزن إلى الصغيرة التي ظلت تشد على جسد الشهيد بيد، وجسد الجريح باليد الأخرى، وصوتها المخنوق يصل الكون:
- يمه.. يمه..!
دفعت الريح العربة بقوة، ارتفع صوت المرأة هادراً:
- اعبري ايتها العربة الأفق.. تجاوزي كل دباباتهم، ومدافعهم، وهدير طائراتهم، اهزمي الأصوات والهدير، واعبري بالشهيد إلى السماء، وشدي على يد الصغيرة التي تضم جسد الجريح، ولتحمل ريح المتوسط صوت امرأة غزة إلى كل جهات الكون، وليصل إلى المجرّات والأقمار الصناعية.. ليهتز في الضمائر التي صحت بعد قرن على الفجيعة..!
كان وجه المرأة يكبر ويكبر وهي تقود عربتها المحملة بالحياة والموت، وصوت الصغيرة يعلو على كل الأصوات، تطلع (كبير الالهة) زيوس من عربته المتجهة نحو المغيب إلى لون الشمس المضرج بالدماء، وعربة المرأة تحمل الأسرة المقدسة.. ألم يكن يسوع الناصري من طين هذه الأرض..؟ ألم تكن أمه البتول تضع شالا من نسيج هذه الأرض الكنعانية..؟ ارتفع الشهيد الطائر إلى السماء، والجريح بدمه المقدس، والصغيرة التي تطايرت خصلات شعرها في كل الاتجاهات، وحجبت عنها الرؤية وهي تتمسك بكلتا يديها بالجثة والجسد الجريح المغطى بالدماء، وصل صوت الصغيرة إلى آخر الكون:
- يمه.. يمه..!!
وصلت عربة زيوس إلى آخر الأفق، حلّ المغيب، كانت عربة المرأة من غزة تقف في مواجهة دبابة محترقة، وعلى اللوح الخشبي بقايا دم، وشال امرأة من غزة يصل آخر الكون.