Monday 29th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    08-Mar-2024

نموذج من نسق التواطؤ في ثقافتنا العربية

 الدستور-غسان إسماعيل عبد الخالق

من الأساليب الماكرة التي أتّبعها لاختبار من يدّعي الإلمام بالنقد العربي القديم بوجه عام ومؤلّفات الجاحظ بوجه خاص، أن أساله عن (البيان والتبيين) تحديداً، فإن راح يردّد ما هو مكتوب ومتداول بخصوص منهجية الجاحظ وحسن تقسيمه للكتاب، وأعاد على مسامعي مصطلح (الاستطراد) من باب تسويغ ما يعتور (البيان والتبيين) من تشويش، أيقنت أنه لم يقرأ الكتاب ولم يتصفحه، بل هو مثل كثير من أشباهه؛ قرأ مقالاً هنا وعبارة هناك، ثم راح يصوغ بطريقته الخاصة، ما يعتقد أنه يجب أن يقوله عن الجاحظ وعن بيانه.
ولا أبالغ إذا قلت: إن الجاحظ ومؤلّفاته تحديداً، يمكن أن يكونا موضوعاً طريفا لما أدعوه (نسق التواطؤ) في الثقافة العربية؛ لأن كثيراً من المسبّحين في محراب الجاحظ ومؤلّفاته، لا يصدرون فيما يقولون أو يكتبون عن اشتباك حقيقي مع المدوّنة الجاحظية، وإنما هم يقولون أو يكتبون ما هو متوّقع ومطلوب. وبما أن الجاحظ ومؤلّفاته، يمكن أن يكونا موضوعاً نموذجياً للسلطة الثقافية العابرة للزمان والمكان -بكل ما في الكلمة من معنى- فإن من العبث في نظر هؤلاء المسبّحين، المغامرة بانتقاد الجاحظ أو انتقاد بعض مؤلّفاته، اعتقاداً منهم باستحالة أن يكون الجميع على خطأ وأن يكونوا هم على صواب.
ولا نبالغ إذا قلنا أيضا: إن الإصرار على تحجيم (البيان والتبيين) عبر الإمعان في استقرائه من منظور أدبي بحت أو منظور نقدي بحت أو منظور بلاغي بحت، يمثل أبرز أسباب تعويم فهمنا لهذا الكتاب الذي لا يمكن استيعاء وتلمّس قيمته الحقيقية، إلا من منظور تفكيكي سياسي. ولعل أطرف ما يمكن أن نصادفه من مفارقات على هذا الصعيد، أن القراءَات الأدبية والنقدية والبلاغية التقعيدية في هذا الكتاب، تحرص على تذكيرنا بأنه قد أُلّف دفاعاً عن العرب بوجه عام وردّاً على الشعوبيين بوجه خاص، ثم تستغرق في تعداد بعض الملامح المنتقاة، على نحو يوهم القارئ بأن الجاحظ قد سار في (البيان والتبيين) وفق خطة مُحْكَمة، ولو قيّض للقارئ أن يطالعه لأدرك على الفور، أن ما قرأه يمثل خطّة الباحث ولا يمثل خطة الجاحظ. وللتدليل على حجم الحرج والإرباك اللّذين تسبّب بهما (البيان والتبيين)، لأبرز المفكرين والنقّاد العرب المعاصرين، سنكتفي بالتوقف مع خمسة نماذج:
النموذج الأول يتمثل بكتاب (تكوين العقل العربي) الذي يُعدّ باكورة المشروع العقلاني النقدي للجابري، ومعلوم أنه قد أَطلق في هذا الكتاب تصوّره المشهور بخصوص الأنساق المعرفية العربية الإسلامية القديمة: (البيان المشرقي، البرهان المغربي، العِرفان الفارسي). ومع أن الصلة بين (بيان) الجابري و(بيان) الجاحظ، أسطع من أن تخفى على الباحث المدّقق، فقد اكتفى الجابري باقتباس مقولة الجاحظ المشهورة بخصوص عفوية العقل العربي وتصنّع العقل الأعجمي، ولم يغامر بإطلاق أي حكم على (البيان والتبيين)، لأنه يدرك حجم المأزق المنهجي الذي يخيّم على الكتاب.
وأما النموذج الثاني المتمثل بكتاب (تاريخ النقد الأدبي عند العرب) للعلّامة إحسان عباس، فقد فجعنا مرّتين؛ مرة حينما أشعرنا بتواضع جهود الجاحظ النقدية مقارنة بغيرها من الجهود، ومرة لأنه أشعرنا بضآلة (البيان والتبيين)، إلى درجة أنه لم يشر إليه إلا إشارة عابرة دون أن يُحيل إليه، واكتفى بالإحالة أكثر من مرة إلى كتاب (الحيوان)!
ويبلغ الارتباك مبلغاً شديداً في النموذج الثالث الذي يتمثل بكتاب (المصادر الأدبية واللغوية في التراث العربي) للعلّامة عز الدين إسماعيل، الذي لم يقطع بأن الجاحظ خطّط لتأليف (البيان والتبيين) ولم يضع قلمه جانباً إلا بعد أن ختمه فقط، بل مال أيضا إلى الاعتقاد بأن الرد على الشعوبيين لم يكن الدافع الرئيسي لتأليف (البيان والتبيين)!
مع ذلك -وبعد أن بذل جهداً لافتاً لإضفاء قدر من التماسك على منهجية الاستطراد في (البيان والتبيين)- لم يجد مفراً من الاعتراف بأن (اتّباع هذا النهج في التأليف الأدبي قد أوقع الجاحظ في أخطاء أُخذت عليه في كتابه هذا)! ليخلص بعد ذلك إلى القول بأن (كتاب البيان والتبيين يُعدّ موسوعة في الأدب العربي تغذّى بثمرها القدماء والمحدثون)!
ومع أن النموذج الرابع المتمثل بما كتبه العلّامة شوقي ضيف ، ظل أسير السلطة الثقافية للجاحظ، إلا أنه بدا متماسكا وخالياً من التناقض ؛ ففيما تجاهل الحديث عن (البيان والتبيين) في (العصر العباسي الثاني) وهو يعرض لنثر الجاحظ ، إذا به يقول في (الفن ومذاهبه في النثر العربي): (إذا كانت الواقعية عنصرا أساسياً في أعمال الجاحظ، فإن هناك عنصراً آخر عمّ آثاره ، وربما كان أهم من عنصر الواقعية، وهو عنصر الاستطراد ؛ إذ يلاحظ كل من يقرأ الجاحظ حالا من التشعّب في التأليف... ومن ثم كان من يقرأ في كتبه يخيّل إليه أنه لم يكن يعرف التركيز في تأليفه، إذ ما تزال الأفكار تندفع علينا من كل صوب في غير نظام ولا سياق مطّرد، بل فكرة من هنا وفكرة من هناك في صورة واضحة من التشعّب والتشعّث!
ولعل أطرف ما يمكن أن نختم به سياق الحَرَج هذا، التذكير بأن أحمد أمين كان قد قطع قبل جميع من عرضنا لهم من المعاصرين، بأن (البيان والتبيين) لا يعدو كونه مختارات تراوحت بين آية قرآنية أو حديث نبوي، أو شعر أو حكمة، ممزوجة بما للجاحظ من آراء في مسائل عدّة!