Friday 19th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    17-Feb-2021

ضرورات إعادة استكشاف التراث

 القدس العربي-سعيد يقطين

تتغير المصطلحات والمفاهيم التي توظف في حياتنا العلمية والعملية، بتغير الإبدالات المعرفية، وتكتسب من ثمة مدلولات جديدة، تستدعي منا خلق شروط وبنيات جديدة، وطرائق مختلفة في الدراسة والاستكشاف. ولعل مفهوم «التراث العربي» من بين أهم المفاهيم التي تتطلب منا إعادة استكشافها، والنظر فيها بما يتلاءم مع العصر الرقمي الذي نعيش فيه.
إن التراث العربي جزء مهم من ذاتنا وذاكرتنا وتاريخنا.. ولا يمكننا بناء مستقبل آخر بدون إعادة فهمه وتحليله، إسوة بما تقوم به الدول المتقدمة علميا وعمليا في علاقتها بتراثها الخاص، أو التراث العام، الذي اختارت الانتساب إليه. وأول مظهر لتغيير النظر إليه وفق ما تمليه ضرورة هذا العصر، يكمن في تجاوز النظرات التي ظلت مهيمنة منذ أن بدأ التعامل معه في العصر الحديث. يتعلق الأمر بالنظرة التقديسية أو التحقيرية لهذا التراث. فالأولى تتعامل معه وكأنه نص مقدس، تجب المحافظة عليه واتخاذه نموذجا قابلا للاستعادة والاسترجاع بهدف الحياة في كنفه. أما الثانية فتقدمه على أنه نص متجاوز، ولا أمل لنا في المستقبل إلا في القطيعة معه، والبحث عن نموذج ثقافي آخر للحياة. إن النظرتين معا اختزال واجتزاء للتراث، يجعلهما ينبنيان على رؤية ذاتية ضيقة. والمطلوب، في حال تغيير النظر إليه، التعامل معه بطريقة موضوعية تسعى إلى فهمه ودراسته، وإعادة استكشاف جوانبه المختلفة، مع مراعاة السياقات المختلفة التي تشكّل وتطور فيها.
ساهمت الطباعة والتحقيق، في العصر الحديث، في تجديد علاقة الفكر العربي الحديث بتراثه، وبما أن عملية طبع التراث العربي وتحقيقه ظلت غير مكتملة، بسبب شساعة جغرافيته وتاريخه، فإن ما توفر لدينا جعلنا نتصور أن الاشتغال بما هو موجود هو كل تراثنا. فانصب الاهتمام على قراءته قراءات مختلفة، تسعى كل منها إلى ادعاء فهمه وتأويله بالشكل الذي تراه مناسبا. وإذا كنا لا نقلل من قيمة تلك القراءات التي كانت بدورها خاضعة لشروط معرفية خاصة، نؤكد أن التوقف على ما أنجز غير كفيل بتطوير علاقتنا بتراثنا، وأن ضرورات إعادة استكشافه، وتدبيره، وقراءته تمليها تحولات عديدة تدفعنا إلى وضعها في الاعتبار لتغيير فهمنا له، ورؤيتنا إليه. إن ما تحقق مع العصر الرقمي يفرض علينا تجديد تصورنا للتراث، وتجاوز كل القراءات التي أنجزت خلال القرن العشرين.
لقد مكنتنا الرِّقامة، باستعمال التكنولوجيا الجديدة للمعلومات والتواصل، من تحقيق ما لم يتم مع الطباعة. إنها أتاحت لنا توسيع مجال نظرتنا إلى التراث، عن طريق توفير المادة من جهة، وجعلها متاحة للجميع من جهة أخرى. إن التوفير والإتاحة عنصران مهمان في تعاملنا مع التراث. لقد كنا نعاني قبل انتشار الرقامة من غيابهما، بل استحالتهما إلا على فئة قليلة جدا من الباحثين والأكاديميين، فالمادة التراثية التي كانت متوفرة اقتصرت على ما هو مطبوع ومتاح في المكتبات العمومية والمعروضة في الأسواق. ويعني هذا أن الكثير من النصوص التي طبعت في أواخر القرن التاسع عشر، وبداية العشرين لم تكن متوفرة، بالإضافة إلى ذلك كان نشر الكتب يخضع لتوجهات سياسية وفكرية، لا تسمح للكثير من النصوص أن تدخل بعض الأسواق، كما إن الإتاحة لم تكن متيسرة إلا لمن يدفع الثمن، ولديه إمكانات الحصول على فضاء يتسع لما يحصل عليه من كتب. وإذا كنا نتحدث هنا عن الكتاب المطبوع، فالأمر ينسحب أيضا على المخطوط، وعلى التراث الشفاهي والصوتي، المحلي والعربي.
سمح لنا الفضاء الرقمي بالتعرف على نصوص جديدة من ملل ونحل مختلفة. كما أتاح للجميع إمكانية الحصول على أي مصدر من مصادر التراث، ومن خلال طبعات متعددة، بمجرد القيام بتحميل ما يشاء. كما أن سعة الأقراص وتطور مساحات التخزين، صارت توفر الآلاف المؤلفة من الكتب في أقراص تحمل في الجيب، فالمواقع الخاصة، والمكتبات الإلكترونية العربية والأجنبية لا حصر لها. وبكلمة يمكننا القول إن المادة المتوفرة الآن، من التراث العربي، في الفضاء الشبكي العربي والعالمي تشكل حاليا الأضعاف المضاعفة، بالمقارنة مع ما كان متوفرا ومتاحا قبل عشر سنوات. لم يتوقف الأمر على المادة التراثية، سواء اتصلت بالثقافة العالمة أو الشعبية من جهة، ومن جهة أخرى، سواء كانت مخطوطة أو مطبوعة، أو صوتية، أو صورية، بل امتد أيضا ليشمل الدراسات والقراءات المختلفة التي أنجزت حول هذا التراث، سواء من لدن المناصرين أو المعارضين، ومن العرب والمسلمين والأجانب، وباللغة العربية، وكل اللغات، وبمختلف المناهج والمقاربات.
يفرض علينا هذا الوضع الجديد الذي تحقق مع الرقامة، وقد اتسعت الوفرة والإتاحة، ضرورات جديدة، في تعاملنا مع تراثنا. ولعل أول ضرورة تكمن في الإيمان بأهمية تغيير نظرتنا إليه، وعدم الاكتفاء باستعادة التصورات التي تحققت بصدده، إن تلك التصورات وليدة حقبة قيد الزوال، لا يمكن لهذه النظرة إلا أن تتجاوز الذاتية والاختزال والاجتزاء. أما الضرورة الثانية فتتصل بمعالجته رقميا بالاستفادة مما توفره الرقميات، ليتلاءم مع الحياة الجديدة.. تحقيق هاتين الضرورتين مدخل أساسي لضرورات أخرى.
 
ناقد مغربي