الراي - ما أن تَلِجَ في غابات دبين الوادعة حتى تسحرك بخضرتها سارقة الألباب، لتحسب نفسك في مكان ليس من هذا الكون، وكـأنها قطعة من فردوس مغفول، يمنة ويسرة، أمامك ومن خلفك، بل وحتى من فوقك، أشجار وكأنها صبية اعتمرت طرحة حرير خضراء تحجب بها عنان السماء، وبينما تسير تحت الطرحة تتخيلها تنزلق بين الفينة والأخرى لتكشف عن بعض من زرقة السماء، ولتسمح لعنان الشمس أن يلمح بعض مفاتنها باستحياء من تحت أشجار الصنوبر الحلبي والبلوط والسنديان المتواشجة، تتنسم من حولك ومن تحتك رائحة ببساط ترابي مغشّى بالشيح والطيون والبلان والقبار. تتوغل قليلا، وإذا بشجرة القيقب تنبجس بلون أمرخ مُحمركلون كوكب المريخ المنبجس بحمرته المميزة بين كواكب مجموعتنا الشمسية المنظورة من الأرض.
تتوسد حجراً أملساً تحت شجرة قيقب فارهة الجمال. وبالرغم من لسعات البرد التي يشعها الحجر ونسيم كانون الأول، إلا أنك تستدفىء من لون ساقها وأغصانها ذات الحمرة الوهّاجة، تكتنفك حالة طفولية وكأنها «أليس» ترحب بك في أرض العجائب. تنصت برهة، وإذا بصوت حسون هنا وبلبل هناك يصدحان بسمفونية كان لَيَعجز بتهوفن عن عزفها. تلقي نظرة على الشجرة الرشيقة وكأنها صبية شقية تحب أن تلفت الأنظار نحوها، وقد تبرجت بمكياجها ألأحمر الخاص بها.
شقيتنا إسمها العلمي - (Arbutus andrachne)، وهي من الأشجار التي لا تحب التعملق في الحجم كالسنديان والملول، إلا انها تعشق النمو في أكناف هاتين الشجرتين فارعتي الحجم، فهي تستظل بغيرها من الأشجار لأنها تعشق الظل، لتشكل بترافقها تناغما منقطع النظير؛ ففي الغابات الطبيعية من النادر أن تجد صنفا واحدا بل جوقة من الأصناف، وكأنها باقة أعدها منسق أزهار بعناية فائقة. والقيقب من الأشجار دائمة الخضرة، والتي تنتمي إلى الفصيلة العجرمية (Ericaceae). ويعتبر حوض البحر الأبيض المتوسط، وبعض مواقع جنوب غرب آسيا موطنها الأصلي، أما في الأردن فتتميز دبين وعجلون وبعض مرتفعات الجبلية الأخرى بتكاثر القيقب فيها. ويتباين ارتفاع أشجارها في البيئية الأردينة بين مترين وستة أمتار.
يبلغ طول أوراق شجرة القيقب – 5 سم، وهي بيضاوية – إهليلجية الشكل، ذات تركيبة جلدية قاسية، تشبه إلى حد ما ورقة نبات الفيكس أو ما يعرف بالكاوتشوك؛ إلا أنها أرق منها سمكا وحجما. قبل تساقطها تتلون بالحمرة وكأنها شفتى غجرية جريئة. ولعل التباين والتلون في أزهار وثمار شجرتنا هذه في أوقات السنه المختلفة يجعلها تحفة فنية طبيعية، ففي مطلع الربيع تتزين بعناقيد زهرية وردية البياض لتتحول إلى عناقيد خضراء، ثم صفراء اللون، فالأصفر المزرق، لتستقر على اللون الأحمر القرمزي عند إكتمال نضج ثمارها. والسيقان المتقشرة في بداية الربيع تميل إلى الخضرة، ولكنها تَحمَرُّ في نهاية العام. وإذا أمعنتَ النَّظَرَ إلى ثمار القيقب القرمزية اللون، والمتدلية في مجاميع تجدها وكأنها قناديل فرح مضيئة، سطحها خشن نوعا ما، ويُطلِق عليها أبناء دبين اسم «عنب دبة»، فهي حلوة المذاق.
ولعل أصعب شيء في القيقب هو وصف الطعم الأخاذ لثماره، الذي لا يمكن مقارنته بأي شيء آخر على الإطلاق، وقد حاول البعض تشبيه طعمها بمزيج مذاق الكيوي والكرز، إلا أن هذا التشبيه أجحف بحق ثمار القيقب؛ فلو تذوقتها مرة ستجد نفسك مأسورا بها، لتقتنص الفرصه في شهر كانون الأول من كل عام لتلتهم بعضاً منها، ولا تستطيع تناول الكثير منها، فبخبرتك ستتعلم أن الإفراط في تناولها سيصيبك بالإسهال. كما أن جمعها لكي تُنقَل في أواني لا ينجح في أغلب الأحيان لسرعة تلفها، فهي بذلك تُذكِّركَ أن الأنانية والطّمَع في أكل وحمل هذه الثمار لن يُجدي، فتَطلُب الاكتفاء بتذوقها مباشرة عن أفرعها، لتأمل أن تُمنَحَ عاما أخر في حياتك، لتعود إلى دبين لتتناول ثمارَها من جديد.
ولخشب هذه الشجرة إستعمالات خاصة، حيث أن افضل الخواشيق (الملاعق) والمغاريف (الملاعق الكبيرة) كانت تصنع من خشبها. وفي عصور أقدم كان العرب يُغَشونَ ملاعق القيقب بالذهب والفضة فتبدو وكأنها صُنِعَت من هذين المعدنين الثمينين.. وهذا يُشير إليه كتاب «نخبة الدهر» والمكتوب في القرن الثاني عشر الميلادي. أما عُشاق التعاليل ودلال القهوة فيجلبون قِطع جافة من خشب القيقب الذي يطلق أصوات مميزة أثناء اشتعاله، كما أنه يَتَفَلّقُ في النار، وتنطلق النار من بين شقوقه في جمالية بديعة، إلا أن خشب شجرتنا هذه ليس الأمثل للتدفئة.
وقد اكتشف العِلم الحديث فوائد جَمة لشجرتنا هذه، فأوراقها تحتوي على جليكوسيد أربوتين (arbutin glycoside) الفعال في منح البشرة نضارة، فهي تزيل البقع السوداء وتشد البشرة، وطحين الأوراق المجففة يُستخدم بعد نقعه بالماء المغلي لفترة وجيزة لتنظيف البشرة. كما أن الثمار غنية بفيتامين C والمواد المضادة للأكسدة، وهي تحتوي على عناصر الحديد والزينك؛ وحسب البحوث الحديثة يمكن إستخدامها في علاج غدة البروتستات، ومشاكل المسالك البولية، و الرومتيزم، ولكن الحاجة ماسة إلى دراسات صيدلانية رصينة ليتم إستخدام ثمار وأوراق الشجرة كمدخلات في تصنيع المواد العلاجية، من يدري فقد يسجل أحدهم منتجاً طبيا من هذه الشجرة يستطيع من خلاله دعم الاقتصاد الوطني من خلال براءة إختراع.
بعيدا عن الفوائد العلاجية وتصنيع المستحضرات الصيدلانية والخواص الجمالية، نخلص بالقول أن بيئة دبين البكر وقيقبنا تتعرض للتهديد المستمر نتيجة الإحتطاب والحرائق، فهل نطلق مثلا - نادي أصدقاء غابات دبين- لنحمي هذه الغابة الفريدة. أو هل تنطلق مبادرة شبابية لحماية قيقب الأردن تبادر في زراعة القيقب في المناطق الموائمة لنموه.
د. نزار جمال حداد
رئيس الاتحاد النوعي للنحالين الأردنيين
مدير مديرية بحوث النحل - المركز الوطني للبحث والإرشاد الزراعي