الدستور-د. محمد عبدلله القواسمة
لعل مفردة الليل من أكثر المفردات التي وردت في التراث العربي وفي الشعر خاصة؛ لأن الليل ظاهرة كونية تتصل بحياة الإنسان اتصالًا قويًا، وقد حضرت في الشعر العربي عبر عصوره المختلفة، عند معظم الشعراء بدءًا من امرئ القيس حين أرخى الليل سدوله على همومه ليختبر صبره:
وليل كموج البحر أرخى سدوله
علي بأنواع الهموم ليبتلي
ومرورًا بابن زيدون الذي شكا من طول الليل حين تبتعد عنه حبيبته ولادة بنت الخليفة الأندلسي المستكفي بالله، وشكا من قصره عند وجودها بجانبه:
إن يطل ليلك بعدي فلكم
بت أشكو قصر الليل معك
إلى بدر شاكر السياب الذي يُذكّره الليل بالعراق الذي يشبه أمه، التي يتذكرها وهو طفل، فعندما كان يدركه الليل، وهو يلعب بين أشجار النخيل في بلدته جيكور يهرع إلى حضن أمه لتداعبه حتى ينام:
هي وجه أمي في الظلام
وصوتها ينزلقان مع الرؤى حتى أنام
وهي النخيل أخاف منه إذا ادلهم مع الغروب .
إلى الشاعرة المعاصرة مريم الصيفي التي وظفت الليل في تجربتها الشعرية، كما تجلت في مجموعتها» ويبوح الصمت» (عمّان: دار الإسراء: 2017م)، وهو موضوع هذه القراءة.
من الملاحظ أنّ الليل في مجموعة الشاعرة مريم الصيفي ورد في عناوين القصائد ومتونها؛ فورد في عناوين أربع قصائد، هي:»هو الليل»، و»على صهوة الليل»، و»على صهوة الليل2»، و»يبسم الليل».
في قصيدة» هو الليل» يبدو الليل رمزًا للجهل الذي يتوغل في العقول، فيجر أصحابها إلى العنف وسفك الدماء، ولن يتوقف هذا العنف إلا بتحرير العقول من هذا الجهل:
هو الليل ...يمتد... يمتد
يوغل فينا امتدادًا
ولا صحو حتى تفيق العقول
التي لطختها أكف الدماء(ص175)
وفي القصيدتين، اللتين جاءتا كأنهما قصيدة واحدة في جزأين تبدأهما الشاعرة بتشبيه بليغ كما يسمى في البلاغة العربية القديمة؛ فالليل صهوة حصان تُحمّلها الذات الشاعرة أحلامها وخيالاتها المثقلة بالأشواق والحنين؛لتصل بها إلى الفجر الذي هو رمز لانبعاث الحياة في الكائنات. فنقرأ في الجزء الأول:
على صهوة الليل
أسرجت حلمًا
تراءى على البعد يصعد
فوق الغيوم ويأبى الركون (ص203)
وفي الجزء الثاني:
على صهوة الليل
رحت أجدد للغيم وجدي
وراحت خيالات شعري
تفتش عن سحب تمطر الشوق
تروي عطاش الأماني التي
خلتها تنثر البرق ملء الدروب (ص205)
وفي القصيدة «يبسم الليل» تنتهي رحلة هذه الأحلام والخيالات، عندما يتحول الليل في استعارة جميلة إلى ابتسامة رقيقة،مع ظهور نجمة الصبح؛فحينئذ تدب الحركة في المكان، وتستيقظ الكائنات على أنغام الطبيعة. ولكن ما يعكر صفو المشهد أن تلك الحالة ليست مؤكدة الحدوث،كما يبدو في مقدمة القصيدة، وحتى إن في القافية المقيدة بتسكين التاء المربوطة ما يتلاءم مع ذلك:
ويحدث أن يبسم الليل
من ثغر نجمهْ
وتهمي لحون الغناء
على وتر
نام في حضن نغمهْ(ص229)
أما في متون القصائد فنرى الليل دالًا على الزمن ومحددًا له، وبمروره ينقضي العمر، كما في قصائد :»وتركض أرواحنا»، و»خيال»، و»موت».ففي قصيدة» وتركض أرواحنا» نرى الليالي تثير الحزن لأن انقضاءها ينقص العمر، ويقلق الروح:
تمر الليالي
وتركض في الدهر هذي السنون
ويطوي الزمان الثواني بأعمارنا
فتفيض القلوب بماء العيون ( ص161)
ونجد الفكرة نفسها في قصيدة «خيال»حيث يمضي العمر بتعاقب الليل والنهار،فبتعاقبهما يصاغ هذا العمر؛ليغدو مثل الخيال الذيتصوغه رؤانا:
خيال هو العمر
كيف تشاء رؤانا
يصاغ مداه
ويبقى النهار يعانق ليلا
ويودع فيه رؤاه (ص199)
وفي قصيدة «موت» يشير تعاقب الصبح والمساء إلى النهاية المحتومة للإنسان، وهي إشارة تتكرر مرات كثيرة في حياة الإنسان اليومية:
نموت ألف مرة ومرة
حين يغيب الصبح والمساء
ويعتم الفضاء (ص267)
ويكون حضور الليل وغياب النهار في قصيدة «غاب النهار» باعثًا للحزن والوحشة، ومثيرًا للذكريات التي تنكأ الجراح:
غاب النهار وهذا لليل تثقله غيوم هم وجرح غير ملتئم (ص71)
وفي قصيدة «غصون» يُفرح زوال الليل وحلول الفجر مكانه الكائنات وغيرها، فبزواله تتنفس الأشجار، وتشدو العصافير، وتشرق الأحلام :
تنام الغصون.
بـأحضان أشجارها
وتصحو مع الفجر
كيما تصلي
تداعبها نسمات الصباح
وتشدو العصافير.. (ص257)
ويكون الليل في قصيدة» موج السنابل»مبعثًا للراحة والسكون، حيثتصوره الذات الشاعرة طافحًا بالأحلام، ومصدرًا للسلام الذي يشي به نوم الحمام مطمئنًا في أعشاشه:
على ألحن من هديل الغصون
ينام الحمام
ويغمره الدفء
في هدأة الليل
حيث يروق السكون
وتغفو بأجفانه الناعسات (ص237)
ويبدو الليل في قصيدة» وتهمس روح الوجد» مليئًا بالفرح والبهجة في رحلة بحرية للشاعرة، ثم يتحول إلى باعث للحنين والشوق إلى أحبتها الغائبين:
تسبح ملء الليل شوقًا لغائب
( يا بحر هدي الموج ) والبحر يسجد
تحن لطفل الروح أوغل في المدى
يشق طريقًا بالدعاء يُمهد(ص95)
ويصبح الليل رمزًا للتخلف في قصيدة»هل عاد للعيد»، عندما يكون محورًا للتذمر من الواقع، والتمني بعودة الماضي المجيد، ويتبلور الواقع والرغبة في تخطيه بتلاحق الألفاظ التي تقترب من معنى الليل ونقيضه، مثل: اسودت، ينير، عتمة، النور:
ياليلنا طلت واسودت معالمنا
فهل يطل بهذا العيد ماضينا
ينير دربًا لنا ساءته عتمته
فهل تعود دروب النور تهدينا (ص55-56)
ويبدو الليل متخفيًا مع شروق الشمس في قصيدة» هي الكرامة»؛لتعبر الذات الشاعرة عن تمني زوال الليل،الذي يرمز إلى من احتل الأرض، التي بذلت الدماء من أجل الدفاع عنها:
يا طير غرد على أفنان عزتنا
فكم دفعنا لهذي الأرض من مَهْر
كي تشرق الشمس والأوطان نزرعها
وننقذ الروح من ذل ومن قهر (ص121)
وفي قصيدة «أضعت تكويني» يبدو الليل مخفيًا للهموم، بخلاف الفجر الذي يفجر الآلام، ويُدخل الذات في صراع مع الألم الذي تصطلي فيه الروح الشاعرة بالعذابات الكثيرة:
تصحو مع الفجر آلامي فتوقظ في
صدري الجراح فألويها وتلويني (ص13)
وفي قصيدة» وتغفو العصافير» تغيب مفردة الليل ليحل محلها جملة» تنام عيون النهار»،فيحل الليل لتغفو العصافير في أعشاشها الدافئة؛ لتستريح من التعب في انتظار طلوع الفجر:
تنام عيون النهار
وتغفو العصافير
فوق الغصون بأعشاشها
الدافئات
وتتلو من الحب
آيات شوق
لفجر جديد (ص191)
هكذا حضر الليل في مجموعة الشاعرة مريم الصيفي، كما حضوره في الشعر والتراث العربيين: فهو خازن للهموم، ومحقق الراحة والهدوء، ورمز للقهر والاستعباد والجهل والتخلف، وهو يظهر أحيانا متخفيًا بأضداده، أوبألفاظ قريبة منه في المعنى، وقد تجسد هذا الحضور بقصائد عمودية، وبقصائد من وزن التفعيلة، وفي كلا الشكلين كانت اللغة واضحة، والصور والمعاني متداولة، والموسيقى، وإن لم تخرج عن وزن الخليل بن أحمد وشعر التفعيلة، فإنها بدت قريبة من النثر الواضح، الذي لا يعكر صفو العقل ولا يرهقه.