Thursday 28th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    05-Sep-2020

«غرفة المسافرين»… توليفةٌ بين أدب الرحلات والسيرة الذاتية

 القدس العربي-منار يزبك

«مَنْ لم يسافرْ، ولوعبْر قصّةٍ في كتابٍ لم يعشْ سوى حياةٍ واحدةٍ قصيرةٍ «،
بهذه العبارة استهلّ الكاتب عزّت القمحاوي مؤَلّفه «غرفة المسافرين» التي كانت إحدى غرف قطار السفر، الذي ركبناه معه.
توجيهات القراءة لنا كانت مقرونةً بتوقيته المُسيطَر عليه من الكاتب نفسه، الذي دار فينا في غرفة المسافرين المكعّبة، التي حملت في زواياها نسج خيوطٍ قديمةٍ وحديثةٍ؛ كانت النسيج السّرديّ الذاتي للكاتب عن سفره، وعن أسفارالآخرين في الماضي والحاضر.
أدخلنا الكاتب مكعّبه السّرديّ ذا الوجوه المتعددة، التي بدورها كانت مُقسّمةً لمربعاتٍ ألوانها مختلفةٌ، وعلى القارئ أن يجعل كلَّ وجهٍ بلونٍ واحدٍ، لأنّه أرادنا الوصول إلى معرفةٍ وهي؛ أنّ هذه الغرفة على تنوّع مسافريها، إلاّ أنّ منطق سفرهم واحدٌ (السفر ولذّة السفر). في الغرفة ذاتها نتذوّق تجوالاً مُفعماً بطعم المغامرة، أدّى إلى لذّةٍ مبهمةٍ في السفر، فالتجوّل هنا، لم يكن في عوالم سرديةٍ تخيّلية، كما هي عوالم الروايات، بل كان تجوّلاً واقعياً مقيساً، ومقروناً بزمانٍ ومكانٍ، فجاء سرداً تاريخياً عن المدن وعوالمها السحرية، وجاءت بؤر التلقّي عبارةً عن تجميعٍ ناتجٍ عن وحدات سردٍ واقعيةٍ، ذات سياقاتٍ واضحةٍ، لِما يتضمّنه أدب الرحلات، إن صحّ إدراج «غرفة المسافرين» تحت هذا المُسمّى، فأدب الرحلات كجنسٍ أدبي، يقوم بتقديم الفائدة للناس عن طريق إرشادهم عند وصولهم للمدن، كدليلٍ لهم في ترحالهم، ومن أهم خصائص أدب الرحلات، الاعتماد على الحوار والوصف الدقيق للأماكن، ولا ننسى عنصر الفكاهة والتوثيق، اقتباساً من القرآن الكريم، أو تضميناً من الشعر، وفي كتب التراث الكثير منه، ولكن غرفة المسافرين جانبت بعضاً من تلك الخصائص، وضمّنت حكايا عن روايات ورحلات سفرٍ لكتّاب غربيين، ووثّقت لهم، ولكنها في الوقت نفسه، وثّقت لأفلامٍ سينمائيةٍ دارت أحداثها في المدن الكبرى وبلداتها الصغيرة، بالإضافة لمُؤلّف «ألف ليلة وليلة» الذي قدّمه الكاتب في رحلة سردٍ يوميّةٍ؛ كلّ رحلةٍ تمثّل غرفة سفرٍ كانت شهرذاد مَنْ تملك مفتاحها، كما امتلك مفتاح السرد في نصّه، حيث استطاع أن يساعد نفسه على إدراج تجربته الذاتية في السفر، والمحدودة بزمانٍ ومكانٍ ضمن ذاكرةٍ أوسع وأشمل؛ ذاكرةٌ إنسانيةٌ تساعد المسافر (الكاتب) على استيعاب حيوات وعوالم تنتمي لثقافاتٍ مختلفةٍ ومجهولةٍ بالنسبة له، فنرى في النص تداخلاً بين ذاكرة فردية (الكاتب) وذاكرة جماعية (العوالم والثقافات) وغالباً ما يفضي هذا التداخل إلى نوعٍ من ديمومة الحياة والنشاط لكلا الذاكرتين، لذلك ارتبطت العوالم الواقعية في النص بعيشها في ذاكرة الكاتب، التي كانت موجودةً دائماً في وجوه مكعّب السرد، تلك الوجوه مثّلت الذاكرة التصويرية له، التي تأبّطت لغة السرد الطيّعةِ، كأداةٍ للتواصل بين الكاتب والقرّاء، مسافرةً وإياها إلى المدن والبلدات للتعريف بكتب السفر، وغاية السفر، والأنماط المتعددة للمسافر.
إنّ المتن الفني الذي قام عليه النص كان ماضي الديمومة، الذي تمثّل باستمرار السرد عن حَدثٍ حدَثَ في الماضي، وبتواتر تكرار الحدَث، أي استمرار السفر من مكانٍ إلى آخر، فقد ذكرالكاتب: «كنت… حيث أبدو» وماضي الديمومة هو زمن محكي الأحلام، التي رافقت الكاتب عن السفر منذ الطفولة، وزمن حكايات المسافرين، حيث يذكر الكاتب: «حدث ذات مرّة…» فالأمر يتعلّق بحدَثٍ بسيطٍ في النص هو السفر، وحقيقةً الجزء الأساسي في النص مبنيٌّ على الاستعمال المكثّف للزمن الحاضر، الذي أحاط بغرفة المسافرين، والذي باح فيه الكاتب بأسرار رحلاته، ثمّ انتقل بنا إلى ماضيه الحاضر؛ ليحكي عن ليالٍ قضاها في فنادق المدن التي سافر إليها، والتي كانت زيارتها جزءاً من حلمه البعيد، ثمّ عن أسفار الآخرين، لذلك آثر الكاتب أن يوجّه القارئ إلى ثلاثيةٍ، أسست لتلك الغرفة مع ماضي الديمومة؛ تمثّلت أولاً: بالإنسان المسافر الرحالة الذي يحمل حقيبة سفره، وفيها كلّ ما يلزم المسافر، وثانياً: بـ(أنا) المحكي، أو بالأدق أنا السارد التي لفّت الرواية، وليس بالضرورة أن تكون هي الكاتب بكلّيته، وإنما جزءٌ منه، وثالثاً: هو الكاتب نفسه مع قارئه، الذي أُلّفَ النصّ لأجله، فالكاتب هو نفسه الذي يبدأ بحكاية كلّ رحلةٍ، وينتهي بخلاصة تجربته، وكأنّه يستدرجنا لنشاركه رحلته، ونكون بجانبه، وهنا تكمن استراتيجية السرد عنده؛ بأن أحاله إلى مجموعةٍ من التعليمات للسفر، قدّمها لنا على مراحل رحلاته، التي غالباً ما كانت تنتهي بكلامٍ أقرب إلى الفلسفة والحكمة؛ يمثّل الثلاثية التي أسسها الكاتب لغرفة المسافرين، ونحن بدورنا مطلوبٌ منّا الالتزام بها كقرّاءٍ، فهو لم يعتمد على تكنيك السرد، ولم يكن نصّه مثقلاً بمفاهيمَ وأيديولوجيات، بل كان وصفاً بصرياً وتصويريًّ.
قال عن فينيسيا: «البناء الإلهيّ غارقٌ في وحدته المتعالية، والدنيويّ صاخبٌ ببَشرٍ يأكلون ويشربون ويتكلّمون بأيديهم وبأفواههم وعيونهم». وحدّثنا عن روما: «ولسوف تسأل نفسك عندما تسير في شوارع روما، لماذا تتمكّن مدنٌ كهذه من الحفاظ على ثوابتها، ثوابتها المعمارية، بينما تتقبّل كلّ جديدٍ في الفكر، وفي المقابل نحافظ نحن على ما ندعوه ثوابت فكريةً، بينما نهدم كلّ ميراثنا المعماري بقلوبٍ قاسيةٍ».
بعد ما قلناه سالفا، لا يمكننا أن نصنّف «غرفة المسافرين» بأدب الرحلات ولا السيرة الذاتية، بل هي توليفةٌ جديدةٌ منهما، ومن الإنسان المسافر، وأنا السارد، والكاتب نفسه مع قارئه، قُدمت بتراسلِ حواسٍ في ما بينهم؛ ساحر مثل الحلم الواضح وليس الضبابي؛ لأننا رأينا مشاهد الحلم بصورةٍ حقيقيةٍ؛ كانت عدسة الكاميرا التي صوّرت تلك المشاهد جديدةً، أضافت بعداً فنيّاً لهذا النوع الأدبي، وقدّمت للقارئ نصّاً غنيّاً بالتوثيق والتوصيف البصري؛ من خلال المَحْكِي الذي رواه الكاتب عن أسفاره، وأسفار الآخرين.
 
٭ كاتبة سورية