Saturday 23rd of November 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    10-Nov-2020

الأغنية البدوية.. قوة ناعمة رسَّختها السينما العربية

 الراي- زياد عساف

 
أن تهوى الاستماع للغناء البدوي فأنت في نظر كثيرين مستمع من الدرجة الثانية أو أدنى، هكذا كانت النظرة السطحية لدى كثيرين بفترة السبعينيات والذين سرعان ما يناقضون أنفسهم وهم ينظرون للساعة كي لا يفوتهم الوقت للاستمتاع بالدراما البدوية الغنائية في أعمال مثل (فارس ونجود) أو (متعب الشقاوي)، ثم مالبث هذا اللون الغنائي أن بدأ يستعيد مكانته عندما عاود مطربون كبار أمثال فيروز على تقديم هذا اللون بعد أن سبقها إلى ذلك أساطير الغناء العربي كأم كلثوم وفريد الأطرش وليلى مراد، فأي شهادة بحق هذا الفن أجمل وأعظم من ذلك.
 
شرف البدوي..
 
أسباب وعوامل كثيرة ساهمت بالترويج للأغنية البدوية وازدهارها، لا بل نالت حظاً وافراً من الانتشار قياساً بالألوان الغنائية الأخرى كالموشحات والقصائد، تميُّز نخبة من الملحنين ومؤلفي الأغاني في هذا اللون ساهم وبشكل ملحوظ باستقطاب المستمعين على امتداد الوطن العربي، ولا يمكن إغفال أهمية وجود مطربين كبار أبدعوا في هذا المجال وبخاصة ممن ينتمون لأصول بدوية وكانوا الأقدر بطبيعة الحال على إتقان اللهجة والأداء بطريقة سليمة ومقنعة، ويبقى من أهم هذه الأسباب التي تستدعي تسليط الضوء عليها مساهمة السينما الفعَّالة في ترسيخ الأغنية البدوية نظراً لكم الأعمال الدرامية الغنائية التي تصور حياة البدو وفنونهم المعبرة عن أحلامهم وانكساراتهم، وللتأكد من دور السينما في هذا المجال يكفي التمعن في عناوين ومضامين الأفلام المصرية منذ بدايات صناعة السينما المصرية في عشرينيات القرن الماضي باعتبار مصر الأولى عربياً في هذا المجال، فلقد كانت الصحراء محفزاً للإبداع السينمائي كما سنرى، ولا غرابة أن يكون الفيلم الأول بعنوان (شرف البدوي) والذي عُرِضَ عام 1918، وهو فيلم قصير وصامت إنتاج الشركة المصرية الإيطالية، أما (قُبلَة في الصحراء) فهو أول فيلم درامي مصري وصامت أيضاً وهو من إخراج الأخوين الفلسطينيين ابراهيم وبدر لاما وإنتاج عام 1927، واستمر الأخوان لاما بتقديم هذه النوعية من الأفلام مثل: معروف البدوي 1935، قيس وليلى 1939، ابن الصحراء 1942 والبدوية الحسناء 1947،و ما يعنينا في ذلك أن معظم هذه الأعمال يتخللها بطبيعة الحال الأغاني البدوية التي كانت ركناً أساسياً في نجاح وترويج الفيلم.
 
حضور..
 
عززت أغاني البادية حضورها بعد ذلك من خلال استمرارية إنتاج هذه النوعية من الأفلام أكانت هذه الأعمال من واقع الحياة البدوية أو تقديم أغنية بدوية ضمن سياق العرض كنوع من إضافة لمسة جمالية للعمل لمعرفة الكاتب والمخرج مسبقاً بميل وشغف المستمع والمشاهد العربي لهذا الفن.
 
وعطفاً على ما سبق فإن من أسباب نجاح واستمرارية اللون الغنائي البدوي أن اللهجة البدوية مفهومة في معظم البلاد العربية من هنا أضحت الأغنية البدوية واحدة من القوى الناعمة التي تعزز من أهمية التواصل الثقافي والإنساني بين الأقطار العربية وهذا هو الدور الرئيس المنوط بالفنون جميعها. وهذه الرؤية ليست من قبيل التعبيرات الإنشائية أو المحسنات اللفظية، فالواقع السينمائي العربي أكد ذلك مراراً ولا زال وعلى سبيل المثال لا الحصر فإن الدراما الغنائية البدوية التي أنتجتها لبنان في السبعينيات كانت مطلوبة في الخليج والمغرب العربي.
 
سينما بدوية..
 
تجربة الفنان والمطرب المصري رائد الأغنية البدوية محمد الكحلاوي تأكيد آخر لما نرمي إليه بهذا الخصوص، فلقد كانت بداية عشقه لفن البدو غناءً وتمثيلاً عندما التحق بفرقة عكاشة المتوجهة للشام وكان عمره لا يتجاوز اثنتي عشرة سنة، وبقي في بلاد الشام ثماني سنوات رافضاً العودة لموطنه، تعلم خلالها اللهجة البدوية على أصولها وتعمق في الغناء البدوي وإيقاعاته الموسيقية. وأشبه بحالة من المس أصابت الكحلاوي جعلته عاشقاً متطرفاً لهذا الفن فبعد عودته لمصر وهو في عمر العشرين حشد ما جمعه من مال لتأسيس شركة إنتاج سينمائي باسم (شركة إنتاج أفلام القبيلة)، والاسم (القبيلة) هنا يعكس نواياه مع سبق الإصرار لإنتاج ما بات يُطلق عليه فيما بعد (السينما البدوية) والذي هو المؤسس الحقيقي لها ومن خلالها أبدع في تقديم أغانيه البدوية في جزء كبير من هذه الأعمال ومنها: (أحكام العرب) 1947 و(أسير العيون) 1949.
 
بنت البادية..
 
ومن بعض أغانيه السينمائية ذات الطابع البدوي غنى الكحلاوي مع حورية محمد بفيلم (يوم في العالي) 1946 دويتو (حباني وانا حبيبها..عاجباني وانا عاجبها)، ومع شافية أحمد في دويتو (قرب يا عويس وتعال جاي)، وغنى ولحن بفيلم (بنت البادية) 1958: الله اكبر عليك يا ظالم، ورجال البيد نيرانا تقيد، وبهذا الفيلم يؤكد رائد الأغنية البدوية على القوة الناعمة لأغاني البادية في تعزيز التعاون الفني المشترك وحالة الإنسجام في الأداء بين الفنانين العرب باختلاف البلاد التي ينتسبون إليها، إذ شاركت المطربة اللبنانية لوردكاش بهذا الفيلم بالأغنية البدوية (يا زين هالمارتين)، و هذا ما ينطبق على مشاركة المطرب السوري رفيق شكري بالعمل نفسه بأغنية (يامسافر وحملك مال.. وين عمك ووين الخال)،وكلا الأغنيتين من ألحان الكحلاوي، يعتبر الشاعر الغنائي التونسي بيرم من أهم من كتبوا الأغنية البدوية ومن ينسى تعاونه مع أم كلثوم بأشهر الأغاني البدوية بفيلم (سلّامة): غنيلي شوي شوي وقوللي ولا تخبيش يا زين وعن العشاق سألوني وسلام الله على الأغنام، ولم يغفل الكحلاوي أهمية التونسي بيرم وتعاونا معاً في أعمال سينمائية غنائية ومنها بفيلم (رابحة)1945، وفي نفس السياق تعاون مع الشاعر الغنائي والملحن السوري عبد الغني الشيخ في بعض الأعمال ومنها (أحكام العرب) 1947 ويعتبر الشيخ من أهم كتبوا ولحنوا أغاني البوادي، وغنى من كلماته وألحانه العديد من مشاهير الغناء العربي.
 
دماء في الصحراء..
 
من التجارب العربية المشتركة في صناعة الأغاني البدوية عبر الإنتاج السينمائي جاءت تجربة المطربة التونسية حسيبة رشدي التي أقامت في مصر بضع سنوات وتصدرت بطولة أربعة أفلام ذات الطابع البدوي من إنتاج السينما المصرية ساعدها على ذلك إتقانها للهجة البدوية وقدمت العديد من الأغاني البدوية في هذه الأعمال، وكان الفيلم الأول بعنوان: (حب) إنتاج 1948 وللأسف لا توجد نسخة منه لمعرفة أغانيها التي تضمنها هذا العمل، ثم يليه فيلم (طريق الشوك) 1950 مع الفنان حسين صدقي وغنت بهذا الفيلم: إيش بتريد من قلبي يا خاين وليالي المنى وعاشقاك والله، وبفيلم (دماء في الصحراء) 1950 مع عماد حمدي غنت: لا أبوي ولا أهابي، ودويتو (ضرب السياط) مع المطرب سيد اسماعيل، (إنتقام الحبيب) 1951 كان الفيلم المصري الرابع والأخير بالنسبة لها واقتسمت البطولة مع الفنان فريد شوقي، وقدمت به أغاني من اللون البدوي أيضاً مثل: (التوبة في قلبي)،و كررت التجربة مع سيد اسماعيل بهذا العمل في دويتو (دق الطبول حجال).
 
كوكا..
 
إجادة فنان ما لأداء الأدوار البدوية شجع على تعزيز فكرة السينما البدوية وتحفيز المنتجين لإنجاز مجموعة أعمال من هذا اللون والتي لا تكتمل إلا باحتواء كل فيلم على مجموعة من أغاني البادية، هذا ما ينطبق على الفنانة المصرية كوكا التي تخصصت في أدوار المرأة البدوية لدرجة عالية من الإتقان وخصها زوجها المخرج نيازي مصطفى بأعمال من واقع بيئة الصحراء والبوادي، ورغم أنها صاحبة صوت جميل إلا أنها لم تغن بصوتها سوى أغنيتينا بفيلم (عنتر بن شداد) 1961 وهما: هيك وهيك الحق علي ولا عليك ويا عنتر يا زينة الوادي، إلا أن حضورها بالأفلام فرض على تقديم الدراما البدوية الغنائية، ومن هذه الأفلام: سلطانة الصحراء 1947، مغامرات عنترة وعبلة 1948، ليلى العامرية 1948، الفارس الأسود 1954، سمراء سيناء 1959، كنوز1966، بنت عنتر 1966، وعنتر يغزو الصحراء أواخر الستينيات.
 
إقحام..
 
بعض الأفلام العربية عموماً كانت ولغايات التسويق يتم من خلالها إقحام الأغنية البدوية وكما سبق،وبغض النظر عن تقييم هذا الأسلوب إلا أنه في نهاية المطاف عزز من تواجد هذا الفن، وهذا ما ينطبق على أغنية (يا صحرا المهندس جاي) لسيد اسماعيل من فيلم (الصقر) 1950، أغنية (البدوي) لشفيق جلال بفيلم (النمر) 1952، (يا ناي) لمحمد فوزي من فيلم (ليلى بنت الشاطئ) 1959، وأغنية (قوليله يا زينه شو قال الهوى) من فيلم (أجمل أيام حياتي) 1974.
 
وخلاصة الأمر فيما يتعلق بالسينما المصرية يجمع بعض المتخصصين بأن أهمية هذه النوعية من الأفلام البدوية ساهمت بإضفاء الهوية العربية على الأفلام المصرية بعيداًعن التقليد والمحاكاة للسينما الأجنبية.
 
الإغنية البدوية الأردنية..
 
الأغنية البدوية الأردنية لها جذورها العميقة في التراث الغنائي العربي ونظراً لندرة الإنتاج السينمائي الأردني في الستينيات والسبعينيات فلم تأخذ دورها الحقيقي في عالم الفن السابع، لكن تبقى هناك تجربة متميزة للفنانة سميرة توفيق التي انطلقت من الإذاعة الأردنية وقدمت للسينما مجموعة أغنيات كانت نتاج تعاونها مع الملحن والموسيقي الاردني جميل العاص وفي معظم أفلامها تقريباً، ومنها فيلم (البدوية العاشقة) 1963 مع كمال الشناوي وغنت من ألحان العاص بالفيلم: ياعين هلّي الدمع والعين تقول للعين، وبفيلم (بنت عنتر) 1966 غنت من ألحانه: حاسس بقلبي دقَّة، وبفيلم (بدوية في روما): ياهلا بالضيف ويابو عبد الفتاح، ومن فيلم (بنت الشيخ) 1970: حي الله بليالي الكيف، ومن كلمات الشاعر حيدر محمود غنت من الحانه أيضاً (يا خالي قرب العيد) عبر أحداث فيلم (أيام في لندن) إنتاج 1975، وجمعتهما ألحان مشتركة أيضاً بأعمال أخرى مثل: (بدوية في باريس) و(حسناء البادية) إنتاج 1964.
 
يا جارحة قلبي..
 
لم تخل السينما السورية من بعض الأغاني البدوية أيضاً ومنها مشاركة المطربة (يسرى البدوية) بالغناء بفيلمي: (عقد اللولو) 1964 و(لقاء في تدمر) 1965، وبفيلم (غابة من الذئاب) 1977 ومن ألحان سامي الصيداوي شارك صباح فخري بأغنية (يا جارحة قلبي) وهي بالأصل للمطربة نجاح سلام، ومن إنتاج سوري لبناني مشترك قدمت الفنانة سمورة أغاني بدوية الطابع بفيلمي (سلطانة) و(غرام في استانبول) إنتاج 1966.
 
فراغ..
 
لم تسلم الأغنية البدوية من حالة التراجع كباقي الفنون الغنائية خصوصاً مع افتقادنا لرموز وصناع هذا الفن وعدم وجود من يملأ هذا الفراغ، وتراجع الإنتاج السينمائي بهذا الخصوص أو بالأحرى توقفه نهائياً، الخطورة التي تهدد باندثار هذا اللون أصبحت بادية للعيان قياساً بغيرها من الفنون الغنائية، فهناك من قام بجمع التراث الغنائي الشعبي في مصر على سبيل المثال وعلى يد زكريا الحجاوي وعبد الرحمن الأبنودي، والأغاني العاطفية والطربية تم توثيق معظمها من خلال فرق موسيقى الغناء العربي الأصيل في أكثر من بلد، إلا أن الأغنية البدوية لم تحظ بهذا الاهتمام باستثناء بعض المحاولات في هذا البلد أو ذاك، فالتدوين الشفهي أصبح من الصعوبة مع انتقال البداوة للتمركز في العواصم والمدن.
 
هّزُلَتْ..
 
يبدو أن الغناء البدوي مُغَيَّب وبنسبة كبيرة عن مناهج التدريس في معاهد وكليات الموسيقى العربية، وكان الأجدى أن يتم استدراك ذلك والتركيز في الوقت نفسه على تعليم العزف على الالات الموسيقية المرتبطة بالغناء البدوي التي أوشكت على الانقراض مثل الربابة والناي والمهباش، مع عدم الاحساس بالمسؤولية تم إحداث حالة من التخريب في الغناء البدوي تحت مسمى التوزيع الموسيقي الغربي الغير الموفق لغاية الان بحجة الحفاظ على هذا الفن من الاندثار.
 
للهجة البدوية أصولها وقواعدها وأغلب من يقدمون الغناء البدوي الاّن لا يملكون هذه الخبرة عدا عن الأداء الهزيل، كل ذلك أحدث حالة من (اللغوصة) ساهمت بهذا التراجع لدرجة أن بدأنا نشاهد أغاني بدوية مصورة تصاحبها فرقة رقص، النسوة منهم بملابس غير محتشمة لاتليق بهذا الفن.. والرجال بلباس أصفر فاقع ..هّزُلَتْ ! .