Friday 26th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    12-Jul-2019

دع الأشياء تحدث

 الدستور-د. غسان إسماعيل عبدالخالق

أجمل ما في فندقنا الصغير في (تشيوفو)، نظام البوفيه الصباحي البسيط، ما يجعلك قادرًا على الاستمتاع بإفطار صحي بلا روائح ثقيلة؛ فلم أتردّد في تقشير بيضتين والتهام ما استطعت من شرائح الفلفل الحلو وشرب كوبين من العصير الطازج، كي أعود إلى غرفتي وأشرب قهوتي التركية المغليّة على مهل، وأرتدي ملابس مناسبة لصعود الجبال. ولحسن الحظ فقد اشتريت عصا معدنية، من بائع متجول كان يدلّل على بضاعته أمام مدخل الفندق.
أوصلتنا الحافلة ضحى (يوم الأحد الموافق 24/6/2018) إلى مدخل منبسط، قطعناه سيرًا على الأقدام، ثم استقلينا عربات نقل خفيفة صعدت بنا إلى محطة للعربات المعلّقة (التليفريك)، لنبدأ رحلة صعود آلاف الدرجات الصغيرة الدقيقة دون توقف؛ فالتوقّف يعني أنك ستنظر إلى الأسفل ثم إلى الأعلى، وسوف تحدّثك نفسك على الفور باستسهال النزول الشاق، مقارنة بما تبقى لك من درجات تظل تعلو وتعلو، لتتعالى معها أنفاسك، حتى تشعر بأن رئتيك لم تعودا قادرتين على الانقباض والانبساط.
أخيرًا، وصل معظمنا إلى القمة، حيث معابد (الرهبان الطّاويين) المنقطعين للعبادة والتأمل، وهي تعجّ بآلاف السيّاح من الأجانب وما لا يعدّ من الحجّاج الصينيين الركّع السّجود! بل هي تعانق السماء وتشرف على الأرض، لتجد نفسك متقطّع الأنفاس غارقًا في عرقك ومضطرًا للتساؤل: أي شعور بالرغبة في اعتزال العالم قد تلبّس هؤلاء الرهبان؟ وأي ملاحقة تعرضوا لها حتى بالغوا في الفرار إلى هذا الحدّ؟ وأيّ مطارِد شرِس وغاشِم نشر رعبه، حتى اضطرهم إلى تسلّق كلّ هذه الجبال، كي يشعروا ببعض الطمأنينة؟
 
 الراهب والدرويش
ألحّت عليَّ فكرة الهروب والمطاردة -وهي مستمدّة من التاريخ العربي دون ريب- رغم معرفتي بأن الطّاوية مثّلت الدين الرسمي للصين القديمة أكثر من مرة، ورغم معرفتي بأنها ما زالت تتمتّع بحضور كثيف في الحياة الصينية، مع أنها تتعارض أحيانًا مع الكونفوشية؛ فالطّاوي هو ابن الفطرة والسليقة والعفوية؛ ولا يؤمن بالتخطيط المسبق المُحْكَم، بل هو يترك نفسه على سجيتها ولسان حاله يقول: دع الأشياء تحدث! لأنك مهما حاولت ومهما بذلت من جهد فإن (التاجيتو) الذي يمثل جماع (اليين/المستقبل واليانغ/الفاعل) سيأخذ مجراه الطبيعي وفقًا لإرادة (الطّاو/الطريق). ومنذ أن بشّر بها (لاوتسي) الذي سبق (كونفوشيوس)، ثم طوّرها (تشوانغتسي)، ظلّت الطاويّة النقيض الموضوعي للصّرامة، والمعادل التاريخي سياسيًا وفكريًا للبساطة والعودة إلى الطبيعة واحترام الحرية الشخصية المطلقة. وقد استأثرت لذلك بشغف المثقفين والسياسيين الصينيين المُحْبطين، فلاذوا بالجبال والأنهار وتوحّدوا مع الطبيعة علّها تمتص آلامهم.
وربما لهذا السبب، لم تدخل الطاوية في صراعات عقائدية عنيفة مع منافسيها، إلى درجة أنها ابتلعت البوذية القادمة من الهند، وأعادت إنتاجها بوصفها طاوية جديدة. كما تعايشت مع صرامة الكونفوشية إلى درجة أنَّها بدت في بعض الأحيان شكلاً من أشكالها، بل إنَّها نجحت في إظهار الكونفوشية في أحيان أخرى بوصفها شكلاً من أشكال الطّاوية. وربما لهذا السبب أيضًا تستحق الطاوية بمدارسها المختلفة، دراسة معمّقة ومقارنة مع التصوّف الفلسفي الإسلامي، وخاصة التصوّف القائل بوحدة الوجود كما تجلّى عند ابن عربي تحديدًا؛ فقد بدا لي أن ثمّة وجوهًا كثيرة من التشابه. لكن هذه الدراسة المقارنة لن تنفي - على أي حال- حقيقة أنَّ التصوف الإسلامي قد بدأ دينيًا، واستوى على سوقه فلسفيًا، لينتهي به الحال الآن درويشًا مغرمًا بالموالد والمواسم والخوارق، بعد أنْ بَلَغ على يد النِّفّري وابن عربي ذُرى يصعب الوصول إليها شكلاً ومضمونًا. فلماذا تابع المتصوّف الصيني السير في طريق التأمّل والتفلسف فيما استحال المتصوف العربي أو المسلم إلى درويش مأخوذ وذاهل؟ إنَّ هذا التساؤل لن يرتدي الأهمية التي يستحقها، إلا إذا استعدنا ذلك الدور الاستثنائي الذي اضطلعت به الصوفية في الوطن العربي، وأعني به تغيير مجرى التاريخ الإسلامي بكل ما في الكلمة من معنى؛ فإذا كنّا لا نستطيع القطع بما تمَّ الاتفاق عليه بين صلاح الدين الأيوبي (ت 589هـ) وشيخه عبد القادر الجيلاني (561هـ) خلال لقائهما الغامض في بغداد، فإنَّنا نستطيع القطع دون تردّد بأن الطرق الصوفية كانت الأداة الأكثر مضاء في يدي صلاح الدين الأيوبي لإعادة تعميم المذهب السني في بلاد الشام ومصر والمغرب العربي، بعد أنْ تمَّ استئصال شأفة الدولة الفاطمية. وبغض النظر عن مدى اختلافنا أو اتفاقنا على الأسلوب الذي اتبعه صلاح الدين الأيوبي، أو الدور الذي اضطلع به المتصوفة، فإن ما يعنيني قوله هنا يتلخص بأن التصوّف العربي الإسلامي، لم يكن مجرّد مظهر للتقشّف وللزهد في طوره الديني، أو مجرّد مظهر للتأمّل والتفكّر في طوره الفلسفي، أو مجرّد مظهر للحماية الاجتماعية في طور الفتوّة، بل كان مظهرًا من مظاهر التغيير الأيديولوجي التاريخي! فكيف انتهى به الحال إلى ما انتهى إليه الآن؟
وأيًّا كان الأمر، فقد أعادني التفكير بمشقّة الهبوط، والتي تبين لي أنّها لا تقل إرهاقًا عن مشقة الصعود، إلى أرض الواقع، فتداركت نفسي واشتريت قلائد وأساور خشبية طاوية لزوجتي وبناتي، وحمدت الله لأنني وإن كنت الأكبر سنًا بعد (زهير توفيق)، إلا أنني احتملت عَنَت الصعود والهبوط، فضلاً عن عَنَت المسير لمسافات طويلة، ووصلت الفندق مع سائر أفراد الفريق، وأنا أحس بنشاط عجيب مصحوب باستعادات وامضة لأطراف من وصف مجلس ابن علي الجوزي في بغداد، كما عاينه ابن جبير في رحلته: (ثم في أثناء مجلسه يُنْشدُ بأشعار من النسيب مبرّحة التشويق، بديعة التدقيق، تشعل القلوب وجْدًا، ويعود موضعها النّسيبيّ زهدًا. وكان آخر ما أنشده من ذلك، وقد أخذ المجلس مأخذه من الاحترام، وأصابت المقاتل سهامُ ذلك الكلام:
أين فؤادي أذابه الوَجْدُ/ وأين قلبي فما صحا بعدُ. يا سعد زدني جوىً بِذِكرهُمُ/ بالله قل لي فُديتَ يا سعدُ.
ولم يزل يردّدها والانفعال قد أثّر فيه، والمدامع تكاد تمنع خروج الكلام من فيه، إلى أنْ خاف الإفحام، فابتدر القيام، ونزل عن المنبر دهشًا عَجِلاً. وقد أطار القلوب وَجَلاً، وترك الناس على أحرّ من الجمر، يشيّعونه بالمدامع الحُمْر؛ فمن مُعلن بالانتحاب، ومن متعفّر في التراب. فيا له من مشهد ما أهول مرآه، وما أسعد من رآه!).
وقد ظللت محتفظًا بنشاطي وتحفّزي حتى بعد أن غادرنا غرفنا ثانية، وتجمعنا لحضور مسرحية غنائية راقصة، فانطلقت بنا الحافلة، وأنزلتنا في مكان مبلّط مفتوح، وعبرناه سيرًا على الأقدام حتى وصلنا إلى ما يشبه الجبل فصعدناه، لنفاجأ بوجود مسرح عملاق ومقاعد على مدّ النظر وسط إضاءة أسطورية. كانت المسرحية باللّغة الصينية، وتعتمد أسلوب الأعداد الكبيرة من الممثلين للتعبير عن المعاني والدّلالات، وكانت اللوحات الضخمة التي تحكي تاريخ الصين مذهلة وخرافية، إلى درجة أنها ظلّت عالقة في ذهني طوال الليل، بعد أن غادرنا المسرح وتناولنا طعام العشاء وعدنا للفندق.
 
 الفردوس المفقود
عادت بنا الحافلة صباح (يوم الاثنين الموافق 25/6/2018) إلى مدينة (الجِنَان) الواسعة والحديثة والخضراء. وقادنا (دينغ) إلى (حديقة الينابيع) التي أمضينا فيها بضع ساعات من التجوال والتأمّل وتصوير التفاصيل. لكنني في لحظة ما، وجدتني أمسح كل ما التقطته من صور بعدسة هاتفي، لسببين: لأن (دينغ) لم يتوقف عن التقاط الصور للأماكن والتفاصيل، ولي وللجميع، كما وعدنا بأنه سيزود كلا منا بألبوم شخصي حافل... ولأنني أدركت في تلك اللحظة حقيقة أنني ومهما التقطت من صور، فلن أوثِّق ولو جزءًا يسيرًا جدًا من عظمة وجمال وعبقرية المكان الصيني، ناهيك بأنني أدركت حقيقة أنَّ الصورة ومهما بلغ جمالها، لن تعدو كونها تثبيتًا لومضة زمنية محدّدة، وأن الذاكرة وحدها هي الأكثر قدرة على الاحتفاظ باللحظات الشاردة، بكل امتلائها ونداوتها وتحفّزها وصخب ألوانها، لا بل إنَّها - عندما تتحوّل إلى ذكرى- فسوف تضفي عليها مزيدًا من البهجة والالتماع. وكلما تقادم العهد بهذه الذكرى ازدادت تألّقًا في الذاكرة، حتى تصبح موضوعًا للحنين، نستدعيه لاحقًا في لحظات الحزن الشديد أو الفرح الشديد، من باب الاحتماء به من الخطر أو من باب مقارنة اللحظة السعيدة به.
انطلقت بنا الحافلة بعد ذلك إلى (حديقة الحيوان) كي نمتّع أبصارنا بمشاهدة (الباندا) الفريدة، مالئة الدنيا وشاغلة الناس. صفّنا (دينغ) في طابور أمام الحديقة وراح يقترح علينا شراء مظلّة واقية من المطر، فاشترى بعضنا واستخف بعضنا باقتراحه - وكنت منهم- لأنَّ ثقتي كانت عالية جدًا بالقبّعة المتينة التي لم تفارق رأسي طوال الرحلة. لكنني سرعان ما شعرت بالندم الشديد على هذا الاستخفاف، لأن أبواب السماء انفتحت فجأة لتغرقنا بأمطار أقل ما يقال فيها إنها غزيرة جدًا. وحتى يأخذ النّدم مجراه الكامل، فقد فاجأنا (دينغ) بقيادتنا صوب الحديقة بدلاً من العودة بنا إلى الحافلة، فاحتسبنا أمرنا إلى الله، ورحنا نغذّ الخطى، ثم رحنا نهرول، ثم صرنا نركض، حتى بلغنا مضجع (الباندا) ونحن على أشد ما نكون من الإرهاق والابتلال. ورغم أننا حظينا بمشاهدة النجمة المدلّلة، إلا أن انشغالنا بما راح يهطل من أجسادنا، حرمنا متعة الاستغراق في تأمل هذا الحيوان الكسول المهدّد بالانقراض.
وبعد انتظار بدا لي دهرًا، عدنا أدراجنا محفوفين بالأمطار من كلّ حدب وصوب، إلى درجة أنني هدّدت (دينغ) -مازحًا- بالقتل! ولأن (الغريق لا يخشى من البلل) كما يقول المثل السائد، فقد آثر طلبتنا التعبير عن هذا المعنى بطريقتهم الخاصة، فعقدوا حلقة للدبكة على مدخل حديقة الحيوان، وراحوا يخبطون الأرض بأقدامهم الفتية الشابة، ويملأون الفضاء بأغانيهم، حتى استرعوا انتباه الناس الذين تجمّعوا للاستمتاع بهذا العرض الفنّي الفاتن تحت وابل من المطر. والحق أن الطلبة تمتّعوا طوال الرحلة بحسّ النكتة والسخرية المرحة، ولم يتردّدوا في تقديم المساعدة لبعضهم البعض أو للمدرّسين، كما أنهم نسجوا علاقة وثيقة مع (دينغ) فضلاً عن بعض المدرّسين. وقد أضافوا بصخبهم المرح وأغانيهم الشعبية، في الحافلة وفي المطعم، نكهة لا تنسى.
ولحسن الحظ فإن الأمطار كانت دافئة، وإلا لكنّا جميعًا أصبنا بنزلات برد، وخاصة أنا لأنني كنت أتعافى من نزلة برد شديدة، لكننا -من باب الاحتياط- طالبنا سائق الحافلة بإيقاف التكييف، وخلعنا ما تيسّر من ثيابنا وجفَّفنا أجسادنا، حتى إذا وصلنا الفندق، تراكضنا إلى غرفنا كي نستحم ونرتدي ملابس جديدة جافة.
لم يطل بنا الوقت في الفندق، لتجاذب أطراف الحديث بخصوص عاصفة الأمطار التي كادت تعصف بنا في حديقة الحيوان، لأنَّ (دينغ) - كعادته- قرّر محو هذه المغامرة من أذهاننا فدعانا لمشاهدة بعض العروض المسرحية الشعبية التي تقام في الهواء الطلق، فانطلقنا معه دون تردّد. ورغم أن درجة الحرارة ومستوى الرطوبة كانا قد بلغا مبلغًا شديدًا، إلا أننا أُسرنا بما شاهدناه من عروض مسرحية تستأثر بتركيز وتمعن كثير من كبار العمر والسيّاح.
أشفقت على الممثلين المثقلين بالأزياء القديمة والمساحيق السميكة، كما أكبرت فيهم تفانيهم لإمتاع الجمهور وانتزاع التصفيق منه. ما أجمل أن تبذل قصارى جهدك لإسعاد جمهور جاد ومتعاطف! وما أجمل الذكريات التي هبّت عليّ وأنا أتوسط عجوزين صينيين على مقعد خشبي؛ لقد تذكرت بعض عروض مهرجان فيلادلفيا للمسرح الجامعي العربي الذي أسَّسَتْه عام 2003؛ فقد ظل يشتمل سنويًا، على عروض مسرحية للهواة في هواء جبل اللويبدة الطّلْق. وقد ظللت منحازًا لهذه العروض العفوية، مقارنة بتلك العروض المُحْكمة التي طالما اشتمل عليها المهرجان أيضًا.
* فصل من الرحلة الروائية للمؤلف (السور والعصفور؛ ما يشبه اليقين في وصف بلاد الصين) التي ستصدر بعد أيام عن دار فضاءات.