11 يوما وليلة".. رعب هانوي الذي قاد كيسنجر إلى نوبل للسلام
الجزيرة
مع أواخر أكتوبر/تشرين الأول 1972 كانت مفاوضات باريس للسلام بين الفيتناميين والأميركيين (1968-1973) قد تعثرت مجددا.
وبدا للدبلوماسي الأميركي هنري كيسنجر أن مفاوضه الفيتنامي لي دوك ثو صلب أكثر من اللازم، وكان كيسنجر يبحث عما يشبه الاستسلام من الفيتناميين، إذ كانت قاذفات "بي 52" تقصف فيتنام الشمالية بعنف غير مسبوق، في حين كان ثو يريد سلاما مشرفا يليق بتضحيات الفيتناميين وصمودهم وينتهي بتوحيد فيتنام.
صباح يوم 17 ديسمبر/كانون الأول 1972 هاتف كيسنجر الرئيس ريتشارد نيكسون بشأن الوضع في فيتنام، فأخبره أن المزيد من قاذفات "بي 52" قد أسقطت مقابل خسائر فيتنامية فادحة لم تليّن موقف ثو المستشار الخاص لوفد فيتنام الشمالية للمفاوضات، وفق ما تظهر التسجيلات والوثائق المتعلقة بالعلاقات الخارجية للولايات المتحدة بين أكتوبر/تشرين الأول 1972ويناير/كانون الثاني 1973 في أرشيف وزارة الخارجية.
تمحور هاجسه حول مسار المفاوضات في باريس وجديدها، وكانت تطارده أشباح فضيحة ووتر غيت ونعوش آلاف الجنود القتلى الآتية من فيتنام، ومظاهرات الجامعات وحركة الحقوق المدنية، وكان يبحث عن طريق للخروج من مستنقع فيتنام.
لم يعطه مستشار الأمن القومي الأميركي آنذاك إجابة شافية، فأخبره أن ثو ما زال متشددا تجاه المقترحات الأميركية بشأن تفاصيل وقف النار، ويحتاج إلى رادع أكبر لتقديم تنازلات أكثر، فسأله نيكسون عن مقترحات لجعله يذعن للشروط الأميركية فكان رد كيسنجر الفوري والمباشر "المزيد من بي 52".
رعب "أعياد الميلاد"
مثلت قاذفة القنابل الإستراتيجية الأميركية الضخمة "بي 52 ستراتوفورتريس" عماد سلاح الجو الأميركي ورمز قوة نيرانه الهائلة، واستعملت بكثافة غير معهودة في قصف غير مسبوق على هانوي عاصمة فيتنام الشمالية، لكن ذلك لم يكن كافيا بالنسبة لهنري كيسنجر للوصول إلى غايته التفاوضية.
وتسجل وقائع حرب فيتنام أن الأسابيع الثلاثة الأخيرة من ديسمبر/كانون الأول 1972 شهدت قصفا مكثفا وجنونيا على هانوي ومدينة هايفونغ (شمال شرق فيتنام في خليج تونكين) شمل المواقع العسكرية ومرافق البنية التحتية والموانئ وخطوط السكك الحديدية والغابات التي تحصن بها مقاتلو الفيت كونغ، ولم يستثنِ البنايات السكنية فأوقع خسائر بشرية كبيرة في صفوف المدنيين.
وعلى مدار 12 يوما أواخر ديسمبر/كانون الأول 1972 شاركت في عملية "لاين باكر الثانية" أكثر من 200 قاذفة أميركية من طراز "بي 52"، نفذت 730 طلعة جوية وأسقطت أكثر من 20 ألف طن من القنابل على هانوي.
كان الهجوم المستمر عنيفا ووحشيا، ويهدف إلى "هز الفيتناميين في صميمهم"، وفق تعبير كيسنجر.
كانت "لاين باكر" الاسم الرمزي لحملة قصف جوي أمر بها الرئيس نيكسون بعد تعليق مفاوضات السلام في باريس، ونفذت المرحلة الأولى منها من 9 مايو/أيار إلى 23 أكتوبر/تشرين الأول 1972 بغرض وقف الإمدادات لقوات فيتنام الشمالية والفيت كونغ، ودفعها إلى وقف هجومها على فيتنام الجنوبية، والذي عرف باسم "نغوين هوي"، ثم جاءت "لاين باكر 2" يوم 18 ديسمبر/كانون الأول بعد تردد الوفد الفيتنامي بشأن تفاصيل وقف إطلاق النار.
اعتبرت عملية "لاين باكر 2" واحدة من أعنف عمليات القصف في التاريخ وتجاوزت غارات الحلفاء على هامبورغ (يوليو/تموز-أغسطس/آب 1943) وقصف الولايات المتحدة لطوكيو (مارس/آذار 1945)، وعرفت أيضا في الولايات المتحدة باسم "تفجيرات عيد الميلاد" وسماها الفيتناميون "11 يوما وليلة" محيت خلالها مساحات واسعة من هانوي، وشاهد العالم أكثر الصور ترويعا ووحشية نقلتها التقارير الإعلامية.
أراد ريتشارد نيكسون ومستشاره هنري كيسنجر لعمليات ديسمبر/كانون الأول أن تكون "حملة الصدمة والرعب" بواسطة أعتى الأسلحة الأميركية التقليدية وأكثرها تدميرا، بهدف إجبار قوات جبهة التحرير الوطني على الخضوع، ولغاية تسريع خروج الجيش الأميركي من ورطة فيتنام.
حصل الترويع، لكن الخسائر التي تكبدتها القوات الجوية الأميركية في عملية "لاين باكر 2" كانت أيضا غير مسبوقة، فقد أُسقطت 15 طائرة "بي 52" بواسطة منظومة "إس 75 دفينا" السوفياتية، وقتل 33 طيارا أميركيا، وهو ما أثار غضب الرئيس نيكسون الذي كان يخشى أن الخسارة الفادحة لطائرات "بي 52" ستقوض التأثير النفسي الذي كان يريده على الفيتناميين.
ورطة الدخول والخروج
بدأ التورط الأميركي في حرب فيتنام منذ خروج القوات الفرنسية مهزومة بعد معركة ديان بيان فو (مارس/آذار- مايو/أيار1954) على يد الجنرال فو نغوين جياب وقوات الفيت منه (رابطة تحرير فيتنام) وبعد مؤتمر جنيف للسلام الذي حضرته الولايات المتحدة ولم توافق على مخرجاته.
بدأت واشنطن في مساعدة نظام سايغون في فيتنام الجنوبية الموالي لها ضد الفيت كونغ (الجبهة الوطنية لتحرير جنوب فيتنام) وخوفا من التمدد الشيوعي إلى مناطق نفوذها في آسيا.
وبدأت المساعدات بالأسلحة والعتاد والتدريب، ثم إرسال 400 جندي عام 1961، ليصل العدد لاحقا إلى 525 ألف جندي، قتل منهم أكثر من 58 ألفا، وجرح 150 ألفا.
وكانت الخسائر الأميركية الأخرى هائلة، وقدرت بنحو 120 مليار دولار في ذلك الوقت.
وبتأثيرات فظائع "تفجيرات عيد الميلاد" أو بطبائع سير المفاوضات ترتيباتها عاد لي دوك ثو إلى طاولة المفاوضات في باريس، واستمرت المباحثات مع الوفد الأميركي برئاسة هنري كيسنجر، وتم توقيع اتفاق السلام في 23 يناير/كانون الثاني 1973، وبدأ تنفيذه يوم 28 من الشهر نفسه.
ونص الاتفاق على انسحاب القوات الأميركية من جنوب فيتنام بعد شهرين، والاعتراف بالمنطقة منزوعة السلاح بين الشطرين باعتبارها مؤقتة، وإطلاق سراح الأسرى من الطرفين خلال 15 يوما، وبقاء 145 ألف جندي من شمال فيتنام في الجنوب، وإنشاء لجنة دولية مكلفة مراقبة تطبيق الاتفاق.
أواخر مارس/آذار 1973 أنهت واشنطن سريعا خروج آخر جندي أميركي من فيتنام، لكن قوات الفيت كونغ واصلت عملياتها لتوحيد شطري فيتنام، وتمكنت خلال معارك استمرت نحو عامين من دخول العاصمة الجنوبية سايغون يوم 30 أبريل/نيسان 1973، والتي باتت تعرف بمدينة "هو تشي منه" نسبة إلى الزعيم الأسطوري للمقاومة الفيتنامية ورئيس فيتنام الشمالية (1890-1969).
نوبل الملطخة بالدماء
وفق التقديرات الرسمية لخسائر الحرب من الجانب الفيتنامي، فقد قتل نحو مليوني شخص وأصيب 3 ملايين بجروح وإعاقات، وبات 12 مليونا لاجئين، وتم تدمير البنية التحتية والاقتصادية للبلاد بشكل كبير.
استخدمت الولايات المتحدة أسلحة فتاكة وأخرى محرمة دوليا، ومارست عمليات قصف وحشية وأحرقت قرى وبلدات بأكملها.
وتشير مصادر إلى أن الجيش الأميركي ألقى نحو 352 ألف طن من النابالم على فيتنام في الفترة بين عامي 1963 و1973، دون أن يتمكن من هزيمة قوات الفيت كونغ التي كانت تحظى بدعم الاتحاد السوفياتي والصين الشعبية الحليفتين الشيوعيتين.
خرجت الولايات المتحدة من حرب فيتنام بهزيمة اعتبرت مذلة، لكن كيسنجر اقتنص جائزة نوبل للسلام -التي رشح لها في أكتوبر/تشرين الأول 1973- مناصفة مع الدبلوماسي الفيتنامي الشمالي لو دوك ثو لتفاوضهما على اتفاقيات باريس للسلام، وافق كيسنجر، لكن ثو رفضها.
وأثار قرار منح الجائزة لكيسنجر -وأيضا لمفاوضه الفيتنامي- الكثير من الجدل والشكوك والانتقاد، فقد رفض اثنان من الأعضاء الخمسة للجنة القرار واستقالا.
كما كان الرفض عارما في أوساط المثقفين والأكاديميين حتى بالولايات المتحدة والغرب، فبالنسبة لهم كان كيسنجر من ضمن مديري آلة الحرب الوحشية التي مهدت لمفاوضات لم تنه الحرب عمليا، كما نقلتها أيضا إلى كمبوديا المجاورة لفيتنام.
وفي الولايات المتحدة، كان العنوان البارز لافتتاحية صحيفة نيويورك تايمز يوم 17 أكتوبر/تشرين الأول 1973 "جائزة نوبل للحرب".
ودفعت تلك الضغوط والانتقادات كيسنجر إلى عدم الذهاب لاستلام جائزته، خوفا أيضا من مظاهرات ضده تشوه صورة نجم الدبلوماسية اللامع التي رسمها وسعى إليها بالحرب.
عمليا، عبّدت عملية "لاين باكر 2" و"المزيد من قاذفات بي 52" طريق هنري كيسنجر نحو إنهاء مفاوضات جنيف والحصول على جائزة نوبل التي كرسته نجما دبلوماسيا لامعا.
وبالنسبة لرجل مثل لو دوك ثو المحارب الفيتنامي المخضرم -الذي بات مفاوضا- لم يكن يريد الجائزة من حيث المبدأ، وكان أوانها -حسب قوله- "عندما تتوقف أصوات البنادق ويعود السلام إلى جنوب فيتنام بالفعل فسوف أفكر في قبول هذه الجائزة".الجزيرة