Thursday 28th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    01-Sep-2020

الحكاية والقناع في الشعر العربي المعاصر

 القدس العربي-مصطفى أمزير

مَثَّلَتِ الحكاية القالب الفني الذي استوعب معظم مقول القصيدة المعاصرة، وهو اختيار له ما يسوغه من جماليات البلاغة الحديثة، فقد اختار الشاعر الحديث، عموما، السرد أسلوبا لعرض رُؤاه، وتلبست القصيدة لديه في أكثر من تجربة رائــــدة، التاريـــــخ وسير الأبطال، والأسطورة، معادلا بلاغيا للإيحاء بالفكرة والموقف، مع التصرف الفني في مسار الحكايات المرجعية عن طريق ثنائية الهدم والبناء، التي انتهجها الشاعر المعاصر أسلوبا للإدهاش، وصدم أفق انتظار المتلقي.
وإذا كانت تجربة الشاعر العربي المعاصر، قد بدت لبعض النقاد، متشابهة، مفعمة بأحاسيس القلق والاغتراب في ليلنا العربي الدامس، المثخن بالهزيمة والتخلف والاستبداد.. فإن «التموزيين» الأربعة (أدونيس، وخليل حاوي، وبدر شاكر السياب، والبياتي)، على الأقل، قد كسروا هذا الانطباع، وهم يبثون الأمل بإمكانية يقظة الأمة العربية وانبعاثها من جديد من هذا الموت الجاثم على مفاصلها، المانع لها من أن تكون شيئا داخل زمنها الإنساني المعيش، مستثمرين في الأسطورة والرمز لتحفيز الأمة، من خلال الانغراس في وجدانها الجماعي، على عشق التغيير، ودفعها نحو حلم العودة إلى الحياة يافعة، مؤثرة.. تماما كما تموز وعشتار، وطائرا الفينيق والعنقاء… فأصبح بمقدور الشاعر عبر بلاغة الحكاية، أن يُحدّث الناس عن انبثاق الأمل من أنقاض اليأس، وعن التجدد كما يتجدد الثعبان بالخروج من جلده.. ولعل أمل دُنقل، في هذا الباب، أوسع المعاصرين استثمارا في الحكاية الرمزية العربية، فإذا استثنينا أسطورة «سبارتكوس» الواردة في ديوان «البكاء بين يدي زرقاء اليمامة»، فإن الشاعر لم يشتغل إلا على الموروث العربي الصرف: على أسطورة حرب البسوس في رائعة «لا تصالح»، وأسطورة» إرم ذات العماد»، بالإضافة إلى استدعائه مجموعة من الرموز المؤثرة في التاريخ العربي من مثل أبي موسى الأشعري، وقطر الندى، وعنترة بن شداد، وقصة المتنبي مع كافور الإخشيدي…
والاكتفاء بالتعامل مع الموروث الثقافي العربي الإسلامي من قبل بعض شعراء الحداثة، له ما يسوغه داخل النظرية النقدية الحديثة، لأن أهمية تشغيل الأسطورة أو الرمز في الشعر تكمن أساسا في ما يمكن أن يخلقه هذا الاشتغال من تفاعل نفسي بين الصورة البلاغية ومرجعها الوجداني، الثاوي في أعماق اللاوعي الجماعي الموروث لدى المتلقي؛ فجمالية هذه البلاغة الإيحائية كامنة تحديدا في ما سماه عز الدين إسماعيل في كتابه «الشعر العربي المعاصر: قضاياه وظواهره الفنية» بالعملية النفسية المصاحبة. ومن هذا الاعتبار يرى البعض أن الرموز والأساطير، إذا كان لها ما يربطها بذاكرة وانتماء المتلقي ولّدت فيه شِحنات نفسية أعمق بكثير مما قد تحدثه فيه أسطورة وافدة، بل إن الرموز والأساطير المستوردة (كأساطير الهنود الحمر، والزنوج، واليونان، والفرس..) قد تصبح، كما في بعض النماذج الإبداعية، وَحَلاً يُعيق الانسياب الوجداني الموازي لفعل التلقي، إذ يتحتم على القارئ، حتى يستشعر البعد النفسي الذي يصاحب مثل هذه الأساطير، أن يوقف عملية القراءة، في كل مرة يصطدم فيها برمز، إلى حين فك طلاسمه، بالرجوع إلى المعاجم أو كتب التاريخ والأديان.. وفي أفضل الحالات الرجوع إلى هوامش القصائد، لاستمداد الشرح. ولا يخفى علينا ما تسببه مثل هذه الإحالات من إفساد للذة القراءة، بما تحدثه من تقطيع في نفسها. ومن ثم تصبح القصيدة مع مثل هذا الانفتاح البلاغي على «الخصوصية الوجدانية» للآخر، فضاء «ثقافويا» لا يطرقه إلا ذوو التخصص والمعرفة الأنثروبولوجية الموازية. وقد أصبحت هذه النزعة مرفوضة ومتجاوزة في منظور النقد الأدبي، الذي يبحثُ عن مدّ جسور التواصل بين الشاعر والمتلقي.
قد يكون الشاعر العراقي أحمد مطر الأقرب فنيا إلى أمل دنقل، بالنظر إلى هذا الاعتبار، فقد قصر تعامله مع بلاغتي الأسطورة والرمز على الثقافة العربية الإسلامية، موضحا موقفه في أحد حواراته قائلا: «أنا ابن بيئة عربية وربيب حضارة إسلامية، وفي وجداني من أثرهما فيض لا يغيض.. وإن ما يثير أعصابي حقا هو اهتمام معظم الشعراء، منذ الستينيات بتداول الرموز والأساطير اليونانية والمسيحية، وإلحاق قصائدهم بمذكرات تفسيرية لمعاني الرموز وأبعاد تلك الأساطير.. لماذا نلجأ إلى تلك النواحي البعيدة زمانيا ومكانيا، ونحن أصحاب حضارة ذات فضل على الدنيا.. إذا كنا نقدم لأهلنا بضاعة لا يفهمونها ولا تثير انفعالهم، فماذا نكون قد أفدنا من ذلك؟ وماذا يكون الغربيون قد رأوا منا ونحن نعيد بضاعتهم إليهم.. أنا لست ضد التلاقح بين الثقافات، لكنني ضد الذوبان».
 
«القبض على مجنون ميت»
 
تعد قصيدة «القبض على مجنون ميت» الواردة في «لافتات2»، من أقوى نصوص أحمد مطر استثمارا في المحكي العربي الإسلامي؛ تَشغَل القصيدة مساحة ست صفحاتٍ من ديوان الشاعر، وهي بهذا الكم تمثل استثناء بالنظر إلى حجم اللافتات المعتاد، الذي لا يتجاوز بضعة أسطر شديدة التكثيف. يشتغل الشاعر في هذا النـــص على شخصية أبي ذر الغفاري، الصحابي الجليل المفعم داخل الذاكرة الإسلامية، بدلالات الجرأة على قول الحق والاندفاع المتيقظ نحو تغيير المنكر في وجه المستبد كائنا من كان.. وهذا الرمز المناضل هو صاحب القولة الشهيرة «عجبت
لمن لا يجد قوت يومه كيف لا يحمل سيفه؟»… من هذه الشحنات الرمزية، ومن هذه المقولة الموروثة عن صاحبها، يستثمر الشاعر في اسم أبي ذر الغفاري، ويستدعيه داخل مشهد معاصر، يروي عن مظاهرة خرجت من مسجد «النور» يتزعمها هذا الصحابي الجليل؛ يبدأ الشاعر أولا بتوطئة سينوغرافية:
 
لاح لي في مسجدِ النورِ
على غير انتظارِ
يُلهِبُ الموكبَ بالعَزمِ
ومن عينيهِ ينثالُ بريقُ الانتصارِ
راكضاً بينَ الجموعْ
هاتفا: «أهلكَنا سيفُ الخضوعْ
لا رجوعْ
لا رجوعْ
آنَ للجائعِ أن يُشهِرَ للمُتْخَمِ سَيفَهْ
آنَ أن يشطُرَهُ نصفينِ
كي يأكلَ نصفَهْ»
وبعد هذا التمهيد الذي يضعنا داخل سياق الواقعة.. ينتقل الشاعر في المقطع الثاني إلى تصوير التدخل القمعي لقوات الطوارئ التي اصطدمت بالمتظاهرين:
 
هطلَ الموتُ رصاصاً
وعِصِّياً
وحجاراً
وعَلَتْ في هامة الأفقِ
سحاباتُ دخانٍ وغبار
وأطلَّ الليلُ من ثوبِ النهارِ.
 
داخل فوضى الاصطدام يضيع أثر أبي ذر الغفاري عن عيني الراوي.. وعند حلول الليل يأتي متخفيا، طارقا باب الشاعر، «حاسِرَ الرأسِ، جريحاً، نصفَ عارِ». وحينما لمح أبو ذر في عيني الراوي استغرابا من فرارِه أمام قوات الطوارئ وهو الرمز الملهِم:
« قال في شبه اعتذارِ:
حسناً.. لذتُ سريعا بالفِرارِ.
لا تؤاخذني
ففي أيامنا كنّا إذا كنّا نجوعْ
نُشهِرُ السّيفَ ونُنْفى في البراري
لم يكُنْ في عهدنا عومٌ بأنهارِ المجاري
لم يكن في عهدنا غازٌ مسيلٌ للدموعْ
أو هراواتٌ تجرُّ القلبَ من خلف الضلوعْ
أو رصاصٌ يأكلُ الجائعَ.. حتّى لا يجوعْ!»
بهذه الحبكة القصصية المفاجئة التي انعطفت بالرمز نحو نهاية غير متوقعة، صدمت أفق انتظار المتلقي من خلال تفريغ الموروث من تداعياته الرمزية المألوفة، وإعادة شحنه، مؤقتا داخل السياق، بمواقف مضادة «سالبة»، نجح الشاعر في التعبير عميقا عن فكرة الإدانة التي استُجلب الرمز للإفصاح عنها.. إدانة لمنسوب القسوة الذي تنتهجه الأنظمة العربية أداة لتأديب مواطنيها… فأبو ذر الغفاري بدا داخل القصيدة مشدوها أمام هول ما رآه، متسائلا باستنكار عن طبيعة الجريمة التي قد يكون اقترفها خلال المظاهرة حتى استوجب من السلطة كل هذا القمع:
أنا لم أشهِر هنا غيرَ الخُطى
سِرتُ على صمتٍ وفي كَفّي شِعاري
عجبا من سلطة
تذبَحُني، ثم تقاضيني
إذا أعلنتُ للناسِ احتضاري!
 
٭ كاتب من المغرب