Sunday 28th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    30-Dec-2023

قراءة في كتاب «المثاقفة وتحولات المصطلح دراسات في المصطلح النقدي»

 الدستور-نور فيصل بني عطا

يمثل كتاب «المثاقفة وتحولات المصطلح» للأستاذ الدكتور زياد الزعبي أستاذ النقد الأدبي في جامعة اليرموك، بوابة تكشفت الطريق أمام الباحثين للمرور إلى عمليات مستقبلية واسعة النطاق، يمكنها أن تتابع آثار التثاقف الحاصل بين آداب العالم؛ إذ شارك الكتاب في تأسيس قاعدة بحثية في هذا الميدان فوقف على نحو استقصائي متتبعا نماذج من التثاقف الاصطلاحي بين الثقافتين: العربية، والغربية. متجاوزا في هذا التوجه التركيز على التسلسل التاريخي الذي مرّت به عمليات الترجمة، ومكتفيا بتحديد المرحلة التي تتبع فيها آثار التثاقف، وهي الفترة الواقعة بين القرن(3ه-4ه) (9م-10م) لما تمتاز به هذه الفترة من نشاط تثاقفي مشهود؛ إذ إن الغاية من الدراسة ليس إثبات السبق لثقافة دون أخرى، فالمعرفة عالمية وليست حكرا على أمة أو قومية بعينها، وإنما الغاية هي عمل قاعدة بحثية منهجية تمهّد إلى توجه جماعي يستكمل فيه الخلف ما بدأه السلف؛ خاصة أن الكاتب أشار إلى نزر يسير من القراءات في هذا الميدان، بالمقابل نفى مثلا أن يكون الجاحظ قد قُرئ، وإن كان الدكتور حمادي صمود في دراسته للدكتوراة الموسومة بـ»التفكير البلاغي عند العرب أسسه وتطوره إلى القرن السادس» قد قرأه، ولكنها كانت قراءة جزئية لعمليات التثاقف في علم البلاغة وفي النقد قبل الجاحظ وبعده إلى القرن السادس.
ويستند الدكتور الزعبي في طرحه على مسلمة، مفادها أن اللغة المصطلحية لا تمتلك خصوصية قومية أو شخصية، ولا تأخذ صفات التميز والحضور اعتمادا على بنية خاصة، متصلة بأمة ما وثقافة هذه الأمة وإمكاناتها الحضارية، وإنما هي قائمة على هجرة المصطلحات بين الثقافات وحضارات الشعوب، انطلاقا من عالمية المنجزات وتجاوزها الأممية والقومية، فيمكن القول تكرارا لما ذكره الكاتب، إن «المثاقفة من شأنها توليد لغة داخل لغة؛ فقد وضع الخليل بن أحمد لأوزان القصيد وقصار الأرجاز ألقابا لم تكن العرب تعرفها فسمى بعض ذلك الطويل وبعضه المديد، وبرر ذلك بأن أرسطو ذهب إلى تسمية ما نحتاج تسميته بما نشاء من الأسماء».
فتجاوز سعي هذا الكتاب تتبع ثنائية (المصدّر والمستقبل) للثقافة؛ فنجده يؤكد على فكرة تراكمية المعرفة، إذ إن المعارف قارّة في التراكم المعرفي، يقدمها الناقد أو المنظر واضعا بصمته الخاصة عليها على نحو يجنبها الحرفية التي يمكن أن تنحو بها منحى آخر، يقترب من الاتهام بالسرقة، أو الإقرار بمركزية طرف على حساب الآخر، وهذا ما لا يستقيم مع أية نظرة موضوعية تنظر للكيفية التي تشكلت بها العلوم عبر التاريخ. وإن كان الحديث عن مركزية، فمن يضاهي العربية بوصفها لغة اشتقاقية توليدية في قدرتها على تطويع المادة اللغوية لحقولها الدلالية وإخضاع المولد منها للانزياح نحو حقول دلالية أخرى؟ ولكن المسألة ليست في إثبات السبق، بقدر ما هي مسألة إثبات عالمية المعرفة وقدرتها على الترحال في سياقاتها ذاتها أو في سياقات أخرى؛ فالجهد المبذول أثناء النقل وتغير دلالة المصطلح، ولو كان التغيير على المستوى الإجرائي، لا يمكننا تجاهله أو تهميشه بالتقليل من شأنه في إثراء اللغة المستقبلة.
لذا، فإننا نجد الكاتب يقدم المثاقفة بصورة هي الأشبه بعملية التهجين، إذ إن إنتاج النوع الجديد يحتاج إلى الخلط بين نوعين، يحمل كل واحد منهما صفات خاصة، فينتج على أثر اندماجهما نوع جديد، يحمل صفات الأول والأخير، بالإضافة إلى صفاته الخاصة المميزة، فيطرح الكاتب إزاء ذلك مثالا، وهو انتقال ثنائية «المادة والصورة» عبر التثاقف، إذ أخذها قدامة من الحقل الفلسفي وأدخلها إلى حقل النقد، وذلك بتحويله دلالاتها من حقل إلى حقل، لتشير بدورها إلى التصورات النقدية التي تتناول فكرة «صنعة الشعر» والعلاقة بين «اللفظ والمعنى» فيدعم بها أهمية الصنعة على حساب المادة، موضحا بذلك قضية نقل المصطلح عبر التثاقف، ومبينا أن المسألة ليست في أخذ المصطلح وترجمته، بقدر ما هي في تهجينه وإكسابه صفات جديدة، تمكنه من إيجاد حيز له في حقل دلالي معين، فيحفظ بذلك كل طرف من أطراف صناعة المصطلح مكانه على قطبي المركزية.
ويأتي انتقاء الكاتب مصطلح المثاقفة عنوانا لكتابه؛ لما يحمله هذا المصطلح في بنيته اللغوية من إشارة إلى دلالة المشاركة والتبادلية بين أطراف وجهات متعددة، فدلالة مصطلح المثاقفة لا تستوعب فكرة المغالبة الحضارية والتفوق على الآخر، إذ إن خصوصية كل لغة عند النقل منها وإليها تحتم التغيير في دلالة المنقول وفق ما تقتضيه اللغة المستقبلة؛ وبناء عليه فإننا نجد الكتاب من العنوان إلى الخاتمة يؤكد على أن تطور العلوم يبقى خاضعا لميدان التلقي والمجاراة.
وعليه، سعت الدراسات التي ضمّها الكتاب بين دفتيه إلى المشاركة في جهود كثيرة قرأت الفكر النقدي والمصطلحي عند العرب قراءة ناتجة عن الإيمان بأن الفكر الإنساني ليس أسيرا لمركزية ما، وإنما يتشكل عبر سلسلة من عمليات التثاقف والاحتكاك: الداخلية منها والخارجية؛ فيفصل بين محاكاة أفلاطون ومحاكاة أرسطو ثنائية (المثل، والطبيعة). في حين أنها بعد انتقالها إلى الثقافة العربية أصبحت: تشبيها، ومجازا، وتغييرا، وتأدية، وغاب عنهم الاستعارة، على الرغم من شيوعها وقتئذ، وإن كانت قد استعملت في القراءات الترجمات والقراءات الحديثة.
لذا، فإن الكاتب ينكر الحكم المطلق الذي يرفض الاعتراف بأثر المثاقفة في تحولات المصطلح النقدي؛ فنجده يستعرض في الفصل الثاني من الكتاب المعنون بـ « الفلاسفة المسلمون وفن الشعر الأرسطي في دراسات المستشرقين الألمان» آراء بعض المستشرقين ليؤكد إزاءها على تعسفية الحكم المطلق بالقول في عدم وجود تأثير لكتاب فن الشعر الأرسطي على النظرية النقدية العربية، وليبين أيضا أنه ما من مسوغ لقول «بورغل»: «إن أرسطو هو أبو قضية الصدق والكذب عند العرب». وقدم الكاتب في الفصل الثالث من الكتاب استقصاء لعدد من المصطلحات التي يرى أنها نتاج لعمليات المثاقفة وتحولات المصطلح، حيث سلط الضوء على مصطلح الإحالة عند القرطاجني مستعرضا دلالة المصطلح وأقسامه وصور حضوره إزاء كل من التلقي والتناص. في حين أنه في الفصل الرابع من الكتاب استعرض مصطلح التعجيب عند ابن سينا مقارنا إياه بمصطلح الغرابة والعجب عند أرسطو في الثقافة اليونانية، والغرابة والعجب عند الجاحظ في الثقافة العربية. واختتم عمله باستقصاء بنية التمثيل وفاعلية التخييل في القرآن الكريم وكذلك فاعلية التمثيل التصويري بشقيه: التمثيل القصصي، والتمثيل المقارني.
وينسجم هذا المنهج المتبع في الكتاب مع ما توصل إليه الكاتب من نتائج بعد استقصائه عمليات المثاقفة، من خلال صورها المتمثلة في المصطلحات الناتجة عن فعل التثاقف، إذ يؤكد على أن المصطلح عند حلوله في سياق معرفي فإنه يرتدي حلّة جديدة تجعله يفارق الصورة الأصلية؛ فهو في إطاره الجديد يحمل إيحاءات ودلالات تختلف عن تلك التي كان يحملها في صورته الأولى في سياقاتها، وهذا الجهد يعدّ كفيلا بالقضاء على المركزية والسبق، والإقرار بالمقابل بعالمية المعرفة، بدلالة تحول مصطلح الصفر إلى مصطلح الشيفرة مثلا، في حين حمل مصطلح المحاكاة مفهوما جديدا في الثقافة العربية مباينا لمفهومة الأول. وكذلك مصطلح الميتافورا وما يقابله في العربية من مصطلحات: التغيير والاستعارة، والتأدية، لإفادتهما دلالتي التغيير والنقل.
أما عن تشكل التصورات النقدية بفعل المثاقفة فإننا نجد الكاتب يذكر «الهيولي والصورة» عند أرسطو وكيف ظهرت عند قدامه بن جعفر. فكل مصطلح في سياقه يشير إلى دلالات مختلفة، لا يمكن إخضاعها إلى ميدان التأثر والتأثير، وإنما هي نتيجة مثاقفة وتحولات مصطلح، وبهذا يمكننا التخلص من عناء التصنيف إلى الثقافة المصدر والثقافة الهدف، فالاختلاف بينهما يمثل صورة للتحولات التي تطرأ على المصطلحات حين هجرتها أو استقبالها في إطار ثقافي مختلف. وبناء عليه، فإننا نجد الكتاب يعرض كيفية إفادة كل ثقافة من الأخرى. فقد انشغلت الثقافة الغربية مثلا بالبحث عن آفاق الإفادة من الإرث الثقافي العربي فذهبت مثلا إلى ترجمة الشروحات العربية الخاصة بكتاب «فن الشعر» الأرسطي من أجل الوصول إلى تحقيق النص الأرسطي وفهمه.
قصارى القول، إن الكاتب يرمي إلى ما هو أبعد من تتبع التقاطع الحاصل بين المصطلح العربي مع الآخر الغربي، فهذه مسألة تظل خلافية -على حد قوله- وإنما أجد غايته أبعد من ذلك وهي الكشف عن مدى ضرورة إعادة قراءة التراث وإخراجه إلى النور، بفعل تأسيس قاعدة معرفية تتجاوز أية مركزية من شأنها تهميش ثقافتنا العربية وإلقائها تعسفا في ظُلَم الغياب مقابل حضور الآخر حضورا مشهودا.
«كتاب المثاقفة وتحولات المصطلح/ دراسات في المصطلح النقدي»، للأستاذ الدكتور زياد الزعبي، الصادر بطبعتيه؛ الأولى عام (2007) والثانية الصادرة مؤخرا عام (2023) بتعديلات متعلقة بالتقديم، ومنهجية التوثيق.
*باحثة وطالبة دكتوراة في جامعة اليرموك، دكتوراة الفلسفة في تخصص اللغة العربية/ الأدب والنقد.