Wednesday 24th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    14-May-2019

في معنى «النكبة» زمن «صفقة القرن»*حسن أبو هنية

 الراي-لم يكن تاريخ الخامس عشر من أيار/مايو 1948، والذي يعرف باسم يوم «النكبة» لدى الفلسطينيين، سوى ترجمة لسنوات طويلة سبقته، من التخطيط «الصهيوني» والبريطاني، لطرد الفلسطينيين من أرضهم، وإقامة الدولة اليهودية عليها، فالغزو الصهيوني لفلسطين، الذي استهل بطريقة غير منظمة في بداية ثمانينيات القرن التاسع عشر وتعاظمت وتيرتُه مع نهاية القرن وبداية القرن العشرين، قد وصل ذروتَه إبان الغزو والاحتلال البريطاني قبل نهاية الحرب العالمية الأولى، مدشناً بذلك الحقبة الأولى لما سيطلق عليه لاحقا «النكبة»، ومع اقتراب حلول موعد الإعلان عن «صفقة القرن» بإضفاء مزيد من شرعية القوة على مفاعيل النكبة تستدعي المسألة بحثا في حقل القوة بعيدا عن مجالات الأخلاق والقانون

 
كان المفكر السوري قسطنطين زريق قد أطلق وصف «النكبة» على ما حدث بفلسطين وشعبها عام 1948، وفي آب/ أغسطس من نفس العام أصدر زريق كتابه الشهير «معنى النكبة»، بينما أطلق آخرون وصف «الكارثة» على ما حدث، كما هو شأن المفكر الأردني عبدالله التلّ في كتابه «كارثة فلسطين» الصادر عام ١٩٥٩، وقد وصفَ الحدث باعتباره «مأساة»، حسب المفكر والقومي الفلسطيني محمد عزة دروزة في كتابه «مأساة فلسطين»، الصادر عام ١٩٥٩، ورغم وجود تسميات عدة لما حل بفلسطين وشعبها عام 1948 إلا أن تسمية ما حدث بـ«النكبة» بات أكثر شيوعا، وأشد دقة في وصف معاناة الفلسطينيين، ففي كتابه الضخم المؤلّف من عدة مجلدات الذي أرّخ فيه لأحداث عام ١٩٤٧ إلى عام ١٩٥٢، استخدم المفكر والصحافي الفلسطيني عارف العارف مصطلح «النكبة» كعنوان لكتابه.
 
إذا كانت أهم سمات النكبة هي سرقة الأرضِ الفلسطينية وطرد الشعب الفلسطيني منها وإخضاع الأراضي التي لم تتم سرقتها بعد ومَن تبقّى من الشعب الذي لم يتم طرده بعد للاضطهاد والسيطرة التامة، فإنه، من غير الدقيق البتة حسب جوزيف مسعد أن نعتبر النكبة حدثاً منفصلاً يشير إلى حرب عام ١٩٤٨ وتداعياتها، بل ينبغي أن يتم تأريخ النكبة كعملية مستمرة بدأت منذ مئة وأربعين عاماً، استهلت بوصول الغزاة الصهاينة الأوائل واستيطانهم أرضِ فلسطين في بداية ثمانينيات القرن التاسع عشر. بالإضافة إلى ذلك، نلاحظ كيف أن قادة إسرائيل لا يزالون يُتحفون شعبهم وبقية العالم بالتأكيد على أن النكبة ليست عملية ماضية أو حاضرة لسرقة أرضِ فلسطين وطرد شعبها، بل بأنها عملية ينبغي أن تستمر من أجل الحفاظ على بقاء دولة إسرائيل في المستقبل. وبذلك يصبح جليّاً أن النكبة ليست حدثاً ماضياً أو عملية مستمرة في الحاضر، بل على أنها مُصاب ينتظره بالتأكيد مستقبل يتم التخطيط له.
 
تتميّز خطط إسرائيل بأبعاد متعددة، تتضمن المحو التام للنكبة من الذاكرة الشعبية، والقضاء على الشهود، لا سيما اللاجئين الذين نجوا من القتل، والقيام في الوقت نفسه بانتزاع اعتراف من الناجين الذين لا تستطيع القضاء عليهم بأن لإسرائيل وللصهيونية الحق بارتكاب النكبة وبأن الفلسطينيين هم المسؤولون عما أصابهم، وقد قامت إسرائيل بتنفيذ خططها على ثلاثة مراحل حسب مسعد، وفي المرحلة الثالثة التي امتدت من عام ١٩٩٣وحتى عام ٢٠١٨ غدا الطرد الجماعي غير القانوني مستحيلاً في هذه الفترة وإن استمر الطرد الفردي للفلسطينيين. لكن مصادرة الأراضي استمرت بشكل ضخم في هذه الفترة تحت غطاء قانوني. نلاحظ هنا تغييراً رئيساً في ما يتعلق باحتواء القيادة الفلسطينية. فبدلاً من الاستراتيجية الفاشلة لإنشاء قيادات بديلة لتحل محل القيادة الفلسطينية الشرعية المناوئة للاستعمار، انصب التركيز الإسرائيلي على احتواء القيادة الوطنية التاريخية، أي منظمة التحرير، وتحويلها إلى فريق من المتعاونين ومنفذين للاستعمار الصهيوني على شاكلة السلطة الفلسطينية. ومن ثم تم انتزاع اعتراف رسمي من هذا الفريق بأن الاستعمار الاستيطاني الصهيوني كان وما يزال شرعياً، وأن الاستيلاء على أراضي الفلسطينيين وطردهم كانا وما يزالان شرعيين. وقد تم تحقيق ذلك ضمن اتفاقية أوسلو والاتفاقيات التي تلتها بين إسرائيل والسلطة.
 
بناءً على هذه الاستراتيجيات التي تم اتباعها في هذه المراحل الثلاث، يمكن استقراء الخطة للثلاثة عقود القادمة كي تبلغ إسرائيل سن المئة ويتم تأبيد النكبة وجعل آثارها غير قابلة للإزالة، كما يؤكد المفكر العربي الفلسطيني جوزيف مسعد في دراسته «مستقبلُ النكبة»، ففي وصفه للمرحلة المستقبلية يشير إلى.
 
إن إسرائيل شرعت مؤخراً باتباع هذه المرحلة عبر حثّ الجهود للتخلص من ثلثي الشعب الفلسطيني وحقهم في الأرض. وقد تم تحقيق ذلك جزئياً أثناء المرحلة الثالثة، وذلك عبر التخلصِ من منظمة التحرير كمنظمة تمثل كل الشعب الفلسطيني ومن خلال إنشاء السلطة الفلسطينية التي يقتصر تمثيلها على فلسطينيي الضفة الغربية (باستثناء فلسطينيي القدس) وقطاع غزة، وقد تحول تأجيل النظر في وضع اللاجئين للمرحلة النهائية من المفاوضات إلى التخطيط للتخلص تماماً من حق العودة المكفول من قبل الأمم المتحدة، وذلك من خلال التخلص من اللاجئين كتصنيف له صفة قانونية طرًا. وتهدف الجهود المبذولة مؤخراً من قبل الحكومة الأميركية وإسرائيل لتقويض منظمة الغوث (أونروا) لتسريع هذه العملية. وتصرّ المرحلة «المستقبلية» على التخلص من كل المظاهر الوطنية لدى السلطة الفلسطينية لضمان أن فريق السلطة من المتعاونين لن يطالب حتى صورياً بالتخفيف من تبعات النكبة المستمرة على الفلسطينيين. وأخيراً، تهدف هذه المرحلة إلى محاصرة الناجين الفلسطينيين من النكبة بأعداء من العرب، الذين باتوا الآن من أصدقاء إسرائيل المقربين أو على الأقل أعداء علنيين لأي فلسطيني تسوّل له نفسه مقاومة النكبة.
 
ثمة معضلة كبرى تواجه استكمال «النكبة»، فالحكومات الغربية والعربية التي توصل دعمها للمستعمرة الاستيطانية الإسرائيلية في إطار «صفقة القرن»، لا تحتمل كلفة تفويض إسرائيل بالطرد القسري للستة ملايين ونصف فلسطيني الذين ما زالوا يقبعون تحت حكمها الاستعماري، مع أنها تسمح لها بالاستمرار بمصادرة أراضي الفلسطينيين، وباضطهادهم وقتلهم وسجنهم، فالحكومات الغربية والعربية الداعمة لـ «صفقة القرن» في حالة من التناقض حيث تدعم نصف خطة إسرائيل للنكبة المستقبلية ولا تدعم النصف الثاني.
 
من الواضح أن للنكبة معنى إضافيا في زمن صفقة القرن، وهي تواجه رفضا حتى من قبل إسرائيل خشية من تكبيلها بأي التزامات مهما بدت تافهة، لكن مالدينا الآن حسب مايكل يونغهو نسخة مُتجددة عن فكرة «الجدار الحديدي» التي كان يدافع عنها المراجِع الصهيوني زئيف جابوتنسكي، الذي جادل في أحد مقالاته العام 1923 بأن الاستيطان اليهودي لفلسطين يجب أن يمضي قدماً خلف «جدار حديدي» من التفوّق العسكري الإسرائيلي الكاسح. وهذا لأن الطريقة الوحيدة التي يمكن أن يوافق بموجبها العرب على الوجود اليهودي في فلسطين، «هي الجدار الحديدي، أي القوة الصلدة في فلسطين التي لاتذعن إلى أي ضغط عربي. بتعابير أخرى، (والكلام لايزال لجابوتنسكي) الوسيلة الوحيدة للوصول إلى اتفاقية في المستقبل، هي التخلي عن كل فكرة تسعى إلى إبرام اتفاقية في المرحلة الراهنة». واليوم، تقوم إسرائيل بتمديد هذا المبدأ ليشمل كل العالم العربي.
 
خلاصة القول إن القوة العسكرية الصلدة هي رهان إسرائيل الاستراتيجي لديمومة النكبة، بعيدا عن الصفقات التكتيكية، فحسب البروفيسور أفرايم عنبار رئيس مركز القدس للدراسات الإستراتيجية والأمنية فإن «إسرائيل تواجه تهديدات وجودية من قبل جيرانها العرب، وتبدو دولة صغيرة من الناحية الجغرافية، وبقاؤها محفوف بكثير من المخاطر، كما أن اليهود يمتلكون ذاكرة تاريخية تنبههم دائما بأن دولتهم تم تخريبها مرتين في التاريخ البعيد على يد إمبراطوريات كبيرة، وهو ما يجب عدم السماح له مجددا بأن يحدث»، ولذلك يشدد عنبار على أن «إسرائيل بنت لنفسها منظومة قتالية تغلبت على كثير من التهديدات العسكرية، سواء بالاعتماد على قوات بشرية مدربة، أو أسلحة ومعدات متطورة، ما أوصل أعداءها لقناعة بأنه لا يمكن تدمير إسرائيل بالقوة العسكرية».