Sunday 28th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    09-Feb-2024

العناوين وخيانات المترجمين

 الدستور-زياد صالح الزعبي

أستاذ النقد الأدبي- جامعة اليرموك
ثمة مقولة تتكرر عبر التاريخ وفي الثقافات الإنسانية كلها، وهي أن المترجم خائن، أو أن الترجمة خيانة.  لكن لم يخون المترجمون؟ هل يعود ذلك للتباين بين الأنظمة اللغوية التي لا تتيح للمترجم أن يكون أمينا، أم أن المسألة تعود لرغبات المترجم وأهوائه، أو لمن يكلفونه بالترجمة والخيانة معا، وهم في الغالب لا يتمتعون بالمعرفة أو الذكاء بقدر ما يتمتعون بالهوى الذي يظنون أنه يمكن أن ينجيهم من مزالق السياسة وحفرها العميقة المؤكدة أو المتوقعة. وربما يعود سبب الخيانة إلى المترجم نفسه المسكون بمطامعه وأهوائه أو عقيدته.
 هذه رؤى حول أسباب خيانة المترجمين الذين يربط أغلب الدارسين بينهم وبين المقولة الإيطالية « المترجم يخون»، وهي مقولة رسختها الصيغة اللغوية الإيطالية المبنية على الجناس Traduttore traditore. لكن هذه الوصف القاسي استعمله أبو هلال العسكري في القرن العاشر الميلادي في كتابه «الأوائل « مقرونا بحكاية مترجم لص يخدع أحد التجار الذي سرقت أمتعته ويأخذه الى الحاكم ليقدم شكواه ويقوم هو بالترجمة حيث يقوم الحاكم بتعويض التاجر عما سرق منه لكن التاجر يقول للحاكم ومن حوله أنه لا يطمع بالحصول على المال وهنا يدرك الحاكم أن «الترجمان يخون». وكانت النتيجة انتقاما قاسيا من المترجم الخائن.
  هذه الحكاية العربية التي تتحدث عن المترجم الخائن لا تتعلق بترجمة النصوص الأدبية أو السياسية أو الدينية، ولكنها تشخص الكيفية التي استغلها المترجم لممارسة اللصوصية واستغلال الترجمة للخداع والحصول على المال. وهذه صورة تربط بين الترجمة واللصوصية، وهي ظاهرة طريفة وثقتها الحكاية العربية في مرحلة مبكرة، وإن كانت خيانات المترجمين أقدم من تسجيلها بكثير. ويمكن لهذه الحكاية العربية أن تحررنا من استبداد خيانة الترجمان الإيطالية أو غيرها من اللغات الأوروبية.
    إن أعظم خيانات المترجمين تكمن في ادعاء المترجم أنه مبدع الكتاب وكاتبه الأصيل، وأن لا وجود للكاتب الأول ابتداء وهي ظاهرة يمكن أن نورده عليها عشرات الأمثلة العربية والغربية على حد سواء، ولعل أشهرها ذاك المترجم الذي حصل على جائزة كبرى عن كتاب ادعى أنه صاحبه وهو كتاب مترجم، وحين كشف أمره سحبت منه الجائزة، ولعله ذهب بالمال وكسب الفضيحة.
 وهنا سأقف على نماذج من ترجمة العناوين وخيانات المترجمين التي تكمن خلفها أسباب مختلفة، ومثل هذه النماذج تؤشر على ارتكاب المترجم فعلة فاضحة تبدأ بالعنوان الذي يفترض أن يحرص على أن يكون مترجما أو منقولا بأمانة. وإذا كان هذا الفعل يمارس في عتبة الكتاب الأولى فللقارئ أن يخمن ما الذي يمكن أن يصيب المتن.
  الكتاب الشهير للمستشرقة الألمانية زيجريد هونكه « شمس الله تسطع (فوق) الغرب» Allahs Sonne über dem Abendland: عرف في الترجمة العربية بانه « شمس العرب...» على الرغم من كون المؤلفة استعملت الكلمة العربية « الله» في عنوان كتابها مكتوبا بالحروف اللاتينية، وهي لا تحتاج إلى ترجمة، لكن المترجم أحل كلمة العرب مكانها، وهو فعل يحمل دلالات مختلفة تماما عما تقصده المؤلفة، ويترك انطباعات وتصورات مختلفة لدى القراء عن مضمونه.  أما العنوان الفرعي في الأصل فهو «إرثنا العربي» unser arabisches Erbe، وجعله المترجم «أثر الحضارة العربية في أوروبة». ولا شك أن هناك فرقا واضحا بين العبارتين، فالنص الأصلي يحمل صيغة إرثنا التي تعني أن الثقافة الأوربية ورثت الثقافة العربية، وهي ذات دلالة تفوق أثر الحضارة العربية. ولا شك أن الترجمة كانت حرة خاضعة لرؤية المترجم الثقافية والفكرية.
  ولنا أن نسأل لم ابتعد المترجم عن النص الأصلي أو « خانه»؟ فإحلال كلمة العرب مكان كلمة الله تحمل موقفا أيدولوجيا واضحا، ربما يتعلق ببعد ديني أو قومي، ولكنه في كل الأحوال خيانة واضحة لكلمة لا تحتاج إلى ترجمة. وهذا ما ينطبق على العنوان الفرعي التي تنزل دلالته عما قصدته المؤلفة من نسبة الإرث العربي « إلينا» نحن الغربيين.
  أما الكتاب الثاني الذي عبث المترجم عمدا بعنوانه فهو كتاب شهير للباحث والكاتب السياسي الأمريكي بنجامين باربر « الجهاد وعالم ماك»  Jihad vs. McWorld الصادر أول مرة عام 1995. وهو يدرس في هذا الكتاب صورة التناقض بين عالمين من خلال استعمال مصطلحين متقابلين يعبران عن عالمين متصارعين، وهما:
 عالم الجهاد مستعملا المصطلح الإسلامي، ولكنه لا يقصره أو يربطه بالإسلام، بل يجعله حاملا مفهوما واسعا يشمل كل الحركات الدينية والعرقية والثقافية المتطرفة ويسمي هنا الباسك والأكراد والتاميل والكاثوليك في إيرلندا...
 وعالم الشركات العالمية الكبرى العابرة لكل الحدود. ويقرأ حالة الصراع بين هذين العالمين مشخصا عناصرهما وواصفا سلوكهما الذي يؤدي إلى صراع يخيم على عالمنا، صراع يحدده في العنوان الفرعي  بعبارة « كيف ستعيد العولمة والقبلنة تشكيل العالم»    How Globalism and Tribalism Are Reshaping the World. إن الكتاب برمته قائم على قراءة هذه الثنائية وقراءة طرفيها والبحث عن طرق لحل الإشكالات الناجمة عنهما.
   لكن المترجم  - وهذا أمر عجيب غريب –  يضع عنوانا يكتفي فيه « عالم ماك « ويحذف من العنوان الجزء الأول الذي يمثل ركيزة محورية في مادة الكتاب والقضية التي يعالجها. ويمكن للقارئ أن يضرب أخماسا بأسداس في تأويل أو فهم هذا الفعل الغريب، هل هو بسبب رعب ثقافي سياسي يتعلق بحضور هذا المصطلح - الجهاد - سلبيا في الإطار العربي أو المحلي الخاص بالمترجم، أم يعود إلى اجتهاد شخصي منه جعله يقع في خطأ فاحش يجاوز مشكلة المترجم الخائن؛ ليقع في خطأ بنيوي يضلل القارئ ويصرفه عن إدراك محتوى الكتاب. أما إذا كان هذا الفعل من صنيع الناشر فتلك مصيبة أخرى. والطريف أن كلمة الغلاف تؤكد تحريف العنوان، فقد جاء فيها: «يقدم لنا بنجامين باربر  - في هذا الكتاب – خريطة تجمع جانبي عملة واحدة. فهو يعرض لنا ذلك الجانب الذي يشترك فيه كل من الـتأقلم والعولمة التي يسميها « عالم ماك». وإذا تركنا ركاكة التعبير هنا وذهبنا إلى فظاظة النص الذي يتحدث عن عنصرين تعبر عنهما الترجمة بالقول « كل منهما»، تتلوها عبارة يسميها «عالم ماك» نجد المفارقة اللغوية أولا بين كل منهما ويسميها، ثم إن المؤلف في العنوان الرئيس لا يتحدث عن عالم ماك بل عن « الجهاد ضد عالم ماك» وهو ما يستطيع القارئ العادي إدراكه، وليس بحاجة لمترجم يخون النص، ويسعى إلى تضليل القارئ بعنوان منقوص يشوه فكرة النص المحورية.
     والكتاب الثالث الذي الذي غيبت كلمة محورية من عنوانه هو كتاب آدم متز الصادر أول مرة عام 1922 باللغة الألمانية، ويحمل عنوانا ذا دلالة ثقافية تاريخية مهمة وهو « Die Renaissance des Islam”»، والترجمة الدقيقة له هي نهضة الإسلام أو  عصر «النهضة الإسلامية»، فمصطلح النهضة بالمفهوم الأوروبي يعبر عن « مرحلة تاريخية ثقافية تمثل الانتقال من العصور الوسطى إلى العصور الحديثة، وحين يعنون آدم متز كتابه مستعملا هذا المصطلح الجذري في الفكر والثقافة الأوروبية لوصف الثقافة العربية فهو يهدف إلى بيان قيم التحضر والتقدم الذي عاشته الثقافة العربية في القرن الرابع الهجري. لكن الترجمة العربية التي أنجزها محمد عبد الهادي أبو ريدة ونشرت عام 1940 حذفت الكلمة المحورية من العنوان وجعلت عنوانه « الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري»، وووضعت تحته العنوان الأصلي باللغة الألمانية. وهو فعل يدل على إدراك المعنى وترجمته، ولكنه يغفل بصورة غير مبررة الترجمة الحرفية للعنوان التي تحمل دلالات لا يحملها العنوان المترجم. وقد وصف عبد الرحمن بدوي هذه الترجمة - لا يقصد العنوان - بأنها أساءت للنص الأصلي. وهنا لا أريد الحكم على الترجمة بعامة، ولكني أقف على ترجمة العنوان، وهي تمثل شكلا من أشكال الخروج على بنيته ومدلولاته التي تتعلق بالإيحاءات القيمة التي تحملها كلمة نهضة، ولا يمكن لكلمة الحضارة حملها أو التعبير عنها. ونحن في هذا السياق لا نتحدث عن ترجمة نص إبداعي أو نص شعري يصعب على المترجم مهمته في إيجاد مقابل لغوي ملائم، بل يدور الحديث عن نص فكري ثقافي محدود يسمح بترجمة حرفية غير ثقافية.  
    هذه قراءة لعتبة النصوص الأولى متمثلة بالعنونة، وهي قراءة يمكن أن نجد مئات من النماذج المعبرة عنها والتي يمكن أن تقرأ في إطار نظريات الترجمة الحديثة التي يرى بعضها أن هذا الشكل من الترجمة تشويه للأصل وخيانة للمعنى، كما يرى أنطون برمان.