Friday 26th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    27-May-2020

الفيلم الأمريكي»عصيان على السفينة بونتي»… ثورة أم تمرد؟

 القدس العربي-زيد خلدون جميل

يعتبر فيلم «عصيان على السفينة بونتي» (Mutiny on the Bounty) الذي أنتج عام 1935 أحد أكثر الأفلام نجاحا في تاريخ السينما الأمريكية من الناحيتين الفنية والتجارية، وكذلك نقطة تحول في تاريخ السينما الأمريكية، حيث إنه رسخ في الثقافة الشعبية والسينمائية فكرة القبطان «بلاي» كرمز للطغيان والسادية، والمساعد «فليتشر كريستيان» كرمز للثورة والحرية. ومثل الأدوار الرئيسية في الفيلم نجم السينما الأمريكية حينذاك كلارك غيبل، في دور مساعد القبطان، والبريطاني تشارلز لوتن، في دور القبطان.
 
أحداث الفيلم
 
تبدأ أحداث الفيلم عام 1787 في حانة بسيطة في إحدى مدن بريطانيا، حيث يتسامر الزبائن مع بعضهم ويحتسون الخمر، فإذا برجال البحرية يغيرون على الحانة مثيرين رعب الموجودين، فقد كان غرضهم أخذ رجال بالسخرة للعمل على متن إحدى السفن الحربية. وسأل أحد السيئي الحظ الذين احتجزهم رجال البحرية عن اسم القبطان، و وكان الجواب صادما، فلم يكن القبطان سوى «وليام بلاي» (تشارلز لوتون) السادي الفاسد الذي كان يستمتع بتعذيب وإهانة بحارته. وهكذا كان طاقم السفينة «بونتي» من أفراد سخرة وبحارة نظاميين وضباط، وبلغ مجموعهم خمسة وأربعين شخصا.
غادرت السفينة الميناء في بريطانيا، بعد أيام قليلة باتجاه جزيرة «تاهيتي» لغرض نقل أشجار معينة إلى جزر البحر الكاريبي في أمريكا اللاتينية ليتم زراعتها هناك والاستفادة من ثمارها الرخيصة. وتتدهور علاقة القبطان بمساعده «فليتشر كريستيان» (كلارك غيبل)، ولذلك عندما وصلوا جزيرة «تاهيتي» أصدر القبطان أمرا بعدم مغادرة مساعده السفينة، إلا أن المساعد يخالف أمر المنع ويدخل الجزيرة، حيث التقى فتاة محلية وأغرم بها. وبعد أن تم تحميل الحمولة، كما كان مخططا لها غادرت السفينة الجزيرة، باتجاه جزر البحر الكاريبي، ولكن الموقف على متن السفينة ازداد سوءا بالنسبة لمعاناة الجميع من معاملة القبطان لهم، إلى درجة أنهم قرروا القيام بتمرد بزعامة مساعد القبطان على القبطان الطاغية، للتخلص منه والاستيلاء على السفينة. وينجح البحارة في مسعاهم ويضعون القبطان ورفاقه في قارب مع خريطة كي يستطيعوا التوجه نحو أقرب جزيرة. ولكن القبطان لم يخف من المتمردين وأخذ يصيح بمساعده متوعدا بأنه سينال عقابه المناسب. ويبلغ المساعد رفاقه برغبته بالذهاب إلى مكان جديد لتأسيس مجتمع يمتاز بالمساواة والحرية. ويتوجه البحارة المتمردون في البداية إلى «تاهيتي»، حيث يقرر بعضهم الاستقرار هناك، بينما يلجأ المساعد وبقية البحارة المتمردين إلى جزيرة غير مأهولة ويتخلصون من السفينة بإحراقها. ولكن البحرية البريطانية تنجح في القبض على أحد البحارة في «تاهيتي» وتنقله سجينا إلى بريطانيا لمحاكمته. وتتم إدانته في المحاكمة، إلا انه يخبر المحكمة بحقيقة القبطان وسوء معاملته للبحارة. ويتدخل بعض كبار السياسيين لصالحه، طالبين الرأفة به. ولذلك يصدر الملك البريطاني عفوا عنه. وهكذا ينتهي الفيلم.
 
 
 
إنتاج الفيلم
 
اجتمعت جميع عوامل النجاح منذ اللحظة الأولى من عملية إنتاج الفيلم، فقد استند إلى رواية مأخوذة من حادثة حقيقية وشهيرة أصلا لتمرد قام به بحارة على متن السفينة «بونتي» التي كانت تابعة للأسطول الحربي البريطاني. ولكن الرواية لم تراع الحقائق التاريخية، وكُتِبت وكأنها قصة لفيلم سينمائي. وعندما وقع اختيار شركة «ميترو غولدوين ماير» عليها لإنتاجها كفيلم، اهتمت بالأمر اهتماما خاصا، حيث خصصت مليوني دولار له، ويعتبر مبلغا جسيما آنذاك. واختارت مخرجا معروفا ومتمرسا في إخراج أفلام تدور أحداثها عن السفن. وقامت بالحصول على مقاييس السفينة «بونتي» الأصلية لبناء نموذج حقيقي لها، وكذلك على مقاييس ملابس القبطان الأصلية لمعرفة حجمه. واختارت الشركة نجم الشاشة الأمريكية حينذاك «كلارك غيبل» ليكون بطل الفيلم في دور المساعد «فليتشر كريستيان»، والممثل البريطاني «تشارلز لوتن» في دور القبطان «بلاي». ولذلك، فقد اضطر الممثل «تشارلز لوتن» لأن يفقد الكثير من وزنه كي يكون قريبا من حيث الشكل من القبطان «بلاي» الأصلي، فقانون البحرية البريطانية آنذاك لم يكن يسمح باستخدام أي قبطان بدين، كما قام المخرج بإضافة بعض المكياج على وجهه كي يبدو قاسيا وشريرا. أما «كلارك غيبل» فقد اضطر إلى أن يتخلص من شاربه الشهير بسبب منع الشارب أو اللحية في البحرية البريطانية في القرن الثامن عشر. وأجمع النقاد على أنه إذا كان «كلارك غيبل» نجم الشاشة الأمريكية آنذاك، وأكثر ممثليها وسامة، فإنه تقزم أمام الممثل «تشارلز لوتن» الذي كان نجم الفيلم بلا منازع، حيث ملأ الشاشة ليختفي كل من حوله بتمثيله دور الشخص المتزمت والخالي من أي عواطف، الذي يستغل أي فرصة لإهانة من حوله. ومن العوامل التي ساعدت «لوتن» على تجسيد الشخصية كونه مقاربا في السن من القبطان الحقيقي، الذي كان في الثالثة والثلاثين من العمر عند حدوث الثورة، بينما «كلارك غيبل» كان في الرابعة والثلاثين، بينما كان «فليتشر كريستيان» الحقيقي في الثالثة والعشرين عند قيامه بالثورة.
 
أما المساعد «فليتشر» ورفاقه المتمردون، فقد عادوا في البداية بالسفينة «بونتي» إلى جزيرة «تاهيتي»، وقرر البعض منهم البقاء فيها ليستأنفوا الحياة الرغدة التي عاشوها سابقا هناك غير آبهين بأن هذا قد يعرضهم لاحتمال القبض عليهم من قبل السلطات البريطانية.
 
تاريخ الحادثة
 
كانت لبريطانيا في القرن الثامن عشر مزارع ضخمة في البحر الكاريبي لإنتاج السكر بشكل خاص. واعتمدت هذه المزارع على العبيد الذين كانوا يعملون في ظروف قاسية وبأقل تكلفة. وللتقليل من تكاليف طعامهم، اقترح أحد الاختصاصيين بالنباتات استخدام ثمرة شجرة معينة تنمو في جزيرة تاهيتي كمصدر للغذاء الرخيص، إذ يمكن طبخ تلك الثمرة وتكون النتيجة طعاما يشبه الخبز في مظهره ورائحته، ولذلك سميت هذه الفاكهة بفاكهة الخبز. وكانت مهمة السفينة «بونتي» نقل كمية ضخمة من شجيرات تلك الفاكهة من «تاهيتي» إلى بعض جزر البحر الكاريبي، حيث توجد المزارع البريطانية لزراعتها هناك. ومما هو جدير بالذكر أن السفينة «بونتي» لم تكن كبيرة، حيث لم يتجاوز طولها الستة والعشرين مترا. كان قبطان السفينة «وليام بلاي» معروفا بدقته وتفانيه في العمل إلى درجة غير مألوفة. أما مساعده الشاب، فكان «فليتشر كريستيان» الذي سبق أن أبحر مع القبطان مرتين في السابق. وأبحرت السفينة «بونتي» في كانون الأول/ ديسمبرعام 1787 باتجاه جزيرة «تاهيتي» لتبدأ رحلة شاقة استغرقت عدة أشهر لتصل جزيرة «تاهيتي» في تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1788. ولكن القبطان اكتشف أن الشجيرات التي كان من المفروض نقلها لم تكن جاهزة. ولذلك اضطر لأن يمكث هو وطاقمه هناك خمسة أشهر أخرى حتى أصبحت تلك الشجيرات جاهزة، خلال ذلك كان البحارة يستمتعون بالحياة الجميلة والنساء في تلك الجزيرة، وكان منهم المساعد «فليتشر» الذي وقع في غرام فتاة محلية، ما أساء إلى انضباط البحارة، وبالتالي أثار غضب القبطان الذي حاول جهده إعادة الانضباط من خلال مراقبتهم ومعاقبتهم متى دعت الحاجة. وأخيرا أصبحت الشجيرات جاهزة وتم تحميلها على متن السفينة، حيث احتلت جزءا كبيرا من مساحتها، ما قلل من المساحة المتاحة للطاقم، بالإضافة إلى الرائحة الكريهة للشجيرات. وظهر التوتر في العلاقة بين القبطان ومساعده بسرعة وبشكل متزايد. ولم يعرف القبطان ما كان المساعد يضمر له من مكيدة، حيث قام هذا وثلاثة من أعوانه في فجر يوم الثامن والعشرين من نيسان/ إبريل عام 1789 باقتحام غرفة القبطان شاهرين أسلحتهم نحوه. وقاموا بتكبيله، ووضعه هو وسبعة عشر من رفاقه في قارب طوله أقل من سبعة أمتار والقليل من الطعام، ولكنهم لم يزودوه بخريطة وبوصلة، كما ظهر في الفيلم. وكان ذلك من الناحية العملية حكما بالإعدام على القبطان، ولكن مهارة هذا في الملاحة وبعض الحظ، مكناه من إكمال رحلة غير معقولة دامت ثمانية وأربعين يوما، حتى وصلوا جزيرة تيمور بالقرب من إندونيسيا، ونجح في العودة إلى بريطانيا في نهاية المطاف.
أما المساعد «فليتشر» ورفاقه المتمردون، فقد عادوا في البداية بالسفينة «بونتي» إلى جزيرة «تاهيتي»، وقرر البعض منهم البقاء فيها ليستأنفوا الحياة الرغدة التي عاشوها سابقا هناك غير آبهين بأن هذا قد يعرضهم لاحتمال القبض عليهم من قبل السلطات البريطانية. ولكن المساعد والآخرين آثروا الذهاب إلى جزيرة «بتكيرن» النائية وغير المأهولة، التي لم تتجاوز مساحتها خمسة كيلومترات مربعة، وأخذوا معهم بعض العبيد من الرجال والنساء التاهيتيين. وما أن وصلوا تلك الجزيرة حتى أخذوا من السفينة كل ما يمكن استعماله، ثم أحرقوها كي لا تجذب الأنظار بالنسبة للسفن المارة في المنطقة. ما أن وصل القبطان «بلاي» بريطانيا حتى أحدث ذلك التمرد لغطا كبيرا في الأوساط العسكرية البريطانية، حيث قُدّمَ هذا القبطان للمحاكمة بتهمة فقدان سفينة، ولكنه نجح في إثبات براءته. وفي الوقت نفسه بدأت الحكومة البريطانية سريعا بعملية الاقتصاص من البحارة المتمردين، فأرسلت سفينة حربية للبحث عنهم. وتم بالفعل إلقاء القبض على الذين بقوا في «تاهيتي»، إذ كبلوا بالسلاسل في سجن تلك السفينة. ولكن هذه السفينة غرقت بالقرب من أستراليا، ما أدى إلى غرق أربعة من البحارة المقيدين، لأنهم لم يتمكنوا من إنقاذ أنفسهم، وقيل إن قبطان السفينة لم يحاول إنقاذهم بشكل جدي. وقُدّمَ جميع الباقين من البحارة للمحاكمة التي حكمت على ثلاثة منهم بالإعدام، وتم تنفيذ الحكم، بينما تم إخلاء سبيل الآخرين عن طريق البراءة أو العفو، وقيل إن شخصيات مهمة قد تدخلت لدى السلطات لمصلحتهم. أما القبطان «بلاي»، فلم يعرف بالقسوة المتطرفة أو الفساد، بل بالدقة والمثابرة المتناهيتين، وأثبت كفاءته لاحقا، وترقى ليصبح أدميرالا في البحرية البريطانية. ومع ذلك لم تكن حياته سهلة حيث، واجه ثورتين أخريين بعد ذلك، وكانت الأخيرة عندما عُيّن حاكما على مقاطعة في أستراليا، وقام ضباطه بانقلاب ضده عام 1808. وصلت سفينة أمريكية عام 1808 إلى جزيرة «بتكيرن» ولم تجد من البحارة المتمردين والعبيد سوى مجموعة من النساء التاهيتيات والأطفال ورجل واحد فقط الذي كان آخر من تبقى من البحارة المتمردين. وأخبرهم هذا البحار أن الباقين من البحارة والعبيد التاهيتيين قتلوا بعضهم بعضا وقضت الأمراض على الآخرين وإنه الناجي الوحيد. وأن الأطفال هم أبناء أولئك البحارة، ولايزال هناك حتى الآن حوالي خمسين شخصا على تلك الجزيرة، وهم جميعا من أحفاد البحارة، ومنهم حفيد المساعد «فليتشر» نفسه.
 
ملاحظات عن الفيلم
 
كان الخطاب الذي ألقاه المساعد «فليتشر» على زملائه المتمردين في الفيلم حول تأسيس مجتمع يمتاز بالمساواة والحرية، من اختلاق صانعي الفيلم، لأن المساعد الحقيقي لم يلقه على الإطلاق فحسب، بل إنه وزملاءه قاموا بجلب عبيد من «تاهيتي» إلى ملاذهم الأخير في جزيرة «بتكيرن»، ولذلك فإنهم لم يشذوا عن العقلية التي كانت سائدة آنذاك، ولم تكن المباد السامية من شيمهم.
 
٭ باحث و مؤرخ من العراق