Saturday 20th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    12-May-2020

ضحى عبد الرؤوف المُل تُمارس «الواعظ» الروائي

 القدس العربي-سلمان زين الدين

على غِرار ما فَعَلَتْ في «زَند الحجر»، روايتها الأولى، تتّخذ ضحى عبد الرؤوف المُل في «الواعظ»، روايتها الثانية (دار الفارابي)، من البيئة العكّارـ طرابلسية عالَماً مرجعيّاً لروايتها، مع فارق أنّه في هذه الأخيرة، يتّسع الفضاء المكاني، ويطول الامتداد الزماني، مقارنةً بالأولى؛ ففي حين تدور الأحداث في «زَند الحجر» بين عكّار وطرابلس في النصف الثاني من القرن العشرين، يتّسع المكان في «الواعظ» ليشمل ألمانيا، ويمتدّ الزمان ليشمل العقود الستّة الأخيرة من القرن العشرين، والعقدين الأوّلين من القرن الحادي والعشرين. ولعلّ هذا الاتساع والامتداد ما يبرّر ضخامة الرواية التي تقارب الأربعمئة صفحة.
في العنوان، ثمّة مفارقة بين المعنى اللغوي لكلمة «الواعظ» ومعانيها التي وردت في المتن الروائي؛ ففي اللغة، هي اسم فاعل مشتقٌّ من الفعل «وعظ» الذي يعني «نصح الآخر وذكّره ما يحمله على التوبة إلى الله وإصلاح السيرة»، والواعظ هو الناصح والمذكّر. أمّا المعاني التي وردت في الرواية فمتنوّعة ومختلفة ومفارقة للمعنى اللغوي؛ ومنها: الصامت والقليل الكلام، المحبّ والخدوم والمظلوم، المزيج من الفكر والتوق، المنفتح عقليّاً، الكون، وهو الرواية التي تحلم بها مارلا لتفوز بالجائزة… وثمّة مفارقة أخرى بين المعنيين اللغوي والروائي، تتعلّق بهدف الوعظ، ففيما يهدف الوعظ، بالمعنى الأوّل، إلى حمل الموعوظ على التوبة وإصلاح السيرة ما يتقاطع مع الوظيفة الدينية للوعظ، يهدف الوعظ، بالمعنى الثاني، إلى تحرير الإنسان من العقد التي يكبِّله بها المجتمع، وإطلاق مكبوتاته، وعيش حياته ما يجعل وظيفته دنيوية بامتياز.
في المتن، ترصد الرواية حياة عبدو الواعظ، خلال ثمانية عقود، تمتد من بيت فريدة الزنبق في خربة داود العكارية، إلى بيت العجزة في سلفاياباج الألمانية، مرورًا بالبيوت الطرابلسية التي تنقّل بينها. وبكلمة أخرى، ترصده شابّاً في عكار، كهلاً في طرابلس، وعجوزاً في ألمانيا. وتتناول علاقاته المتنوّعة في المراحل العمرية الثلاث، والشخوص الذين انفعل بهم أو فعل فيهم أو تفاعل معهم، بحكم العمل أو الصداقة أو المصلحة. ومن خلال هذا الرَّصد المركّب، المتدرّج عمريّاً وزمانيّاً ومكانيّاً، تطرح الرواية الموضوع الطبقي والنظام الإقطاعي في المرحلة العكّارية، والطّفرة التجارية، المشروعة وغير المشروعة، والعمل الفدائي في المرحلة الطرابلسية، والتضامن الإنساني في المرحلة الألمانية. على أنّ العلاقة بين هذه المراحل هي علاقة استمرار، في الشكل، لكنّها تنطوي على تغيير نوعي من مرحلة إلى أخرى، في المضمون. ولكلٍّ من هذه المراحل حكاياتها بوقائعها وأحداثها.
 
المرحلة العكّارية
 
في المرحلة العكّارية، يُشكّل سقوط شقيق عبدو في بئر ساحلي، إثر شجار بينَهما على تفّاحة، وهرب الأخير تاركاً شقيقه لمصيره، البداية النصّية والوقائعية للأحداث، والواقعة التي ستُلازمه طيلة حياته، وتُؤثّر فيه، بشكلٍ أو بآخر. فعبدو ابن الست سنوات الذي تسبّب فيها، من غير قصد، يتوهّم أنّ ثمة من يطارده، ويهرب من المكان الساحلي ليجد نفسه في خربة داود العكّارية، في بيت فريدة، الخادمة التي جاء بها جهاد بك الإقطاعي من الساحل، واتّخذها عشيقة له، فتحضن الولد الهارب، وتعلّمه مهارات ريفية زراعية مختلفة، وتمارس من خلاله أمومة مفقودة. وهو في المقابل، يرتبط بها بعلاقة ملتبسة، هي مزيج من البُنُوّة والاشتهاء، غير أنّ الأولى تطغى على الثاني، فَيُحبّها كأم، ويُخلص لها، ويَحرص على راحتها. وما إن يبلغ الخامسة عشرة من العمر، حتى يضمّه البيك إلى حاشيته، ويكلّفه الإشراف على المنزول والياخور، ويتّخذه مرافقاً له في زياراته إلى طرابلس واللاذقية، ويعهد إليه ببعض الأعمال التجارية، المشروعة وغير المشروعة.
في هذه المرحلة التي تبدأ بأربعينيات القرن الماضي، تتمّ تعرية النمط الإقطاعي للعلاقات، من خلال شخصية جهاد بك، الذي يشتري الأرض، ويُسخّر الفلّاحين للعمل فيها، ويتّخذ من بناتهم خادمات، وتتعدّد علاقاته النسائية، ويمارس التهريب والأعمال غير المشروعة، غير أنّ قيامه بدعم العمل الفدائي لاحقاً وتهريب البارود والكبريت إلى الفدائيين في الأردن يُشكّل النقطة المضيئة الوحيدة في حياة البيك. وفي هذه المرحلة، تنمو شخصية عبدو، ويصبح قادراً على تَحَمُّلِ المسؤولية، فيرتكب الأخطاء من خلال قتل الحاج فؤاد وسهام ورميهما في البئر، وينخرط في علاقات مع فريدة وخديجة وسحر، يشتهيهن فيها، غير أنّه يقمع شهوته مكتفياً بالتلصّص عليهن وتدليكهن ويغلّب الإخلاص على الشهوة، ويجد في كلٍّ منهن أُمّاً مفقودة. على أنّ هذا النموّ كان مشوباً بخلل معيّن في بناء الشحصية؛ فعبدو الذي يسند إليه البيك مهامّ كبيرة، يطرح أسئلة تنمّ عن جهل كبير، فهو لم يسمع بلبنان وفلسطين، ولا يعرف معنى كلمتي «اغتصاب» و«أوضة» لكنّه في الوقت نفسه يحفظ كلمات أغنية لفريد الأطرش. وهو الذي يبادر إلى التغزّل بسحر، سيدة القصر في اللاذقية، بمجرد اللقاء بها، يخاطبها في اليوم التالي بعبارة «يا خالتي»، الأمر الذي يثير غضبها. فكيف كان في اليوم الأوّل شابّاً وغدا في اليوم التالي ولداً؟
 
في المرحلة الألمانية، التي تبدأ عام 1983 وتستمرّ إلى ما بعد عام 2018، ولعلّها الأطول في حياته، يستيقظ عبدو في مستشفى ألماني ليجد زوجته ماتيلدا قرب سريره، فيعلم منها ما حلّ به وبعائلته الصغيرة باستثناء الصغيرة مارلين، التي لم يعثر لها على أثر.
 
المرحلة الطرابلسية
 
في المرحلة الطرابلسية، يتحوّل عبدو إلى رجل أعمال، يستقلّ عن البيك بعد وفاته، ويستمرّ في تعاطي الأعمال التجارية، المشروعة وغير المشروعة، وينخرط في شبكة علاقات متنوّعة ورث بعضها عن البيك، ونسج بعضها الآخر بنفسه، لضرورات العمل. ومن أفراد هذه الشبكة: ليلى البرنسيسة عشيقة البيك، أبو الريش القواد والمناضل، إيلي رجل الأعمال المشبوه، أبو الزيك عامل المرفأ، الخوري جرجس رجل الدين المزيّف، وناديا مساعدة إيلي، وأمّ الزلوف صاحبة الفرن الطيّبة، وماتيلدا الفنانة التشكيلية الألمانية، والمدرّب الألماني الجاسوس. على أنّ علاقات عبدو مع أفراد الشبكة تختلف من فردٍ إلى آخر؛ فهو يحنو على الفقراء من أفرادها، ويمدّ لهم يد المساعدة، ويعتبرهم عائلته الصغيرة، كأمّ الزلوف وبناتها وأبو الزّيك وابنته الصغيرة مارلين التي يتعلّق بها تعلّق أبٍ بابنته. وهو لا يثق بإيلي ومساعدته لاسيّما بعد أن علم بمكيدة يدبّرها له. وهو في علاقته بالبرنسيسة لا يشذّ عن علاقاته بفريدة وخديجة وسحر، يشتهيها ويرفض تلبية رغبتها فيه. وهو يتزوّج من ماتيلدا الألمانية، وإذ يشكّ عبدو بأنشطة المدرّب الألماني المشبوهة ويقوم بالتبليغ عنه، يؤدي القبض عليه إلى تفكيك شبكة تجسّس إسرائيلية، والقبض على بعض أعضائها في ما يتمكّن البعض الآخر من الفرار، الأمر الذي يُعرّضه وعائلته الصغيرة إلى الانتقام، فيتمّ قصف السفينة التي كانت تقلّهم إلى قبرص، في مهمّة تجمع بين التجارة والاستجمام، في عام 1983، ويترتّب على ذلك مقتل معظم أفرادها، وفقدانه رجله وعينه. والمفارقة أنّه بينما كان يحاول إنقاذ أبو الزيك يكتشف أنّه أخوه الذي سقط في البئر، وقد جرى إنقاذه في حينه، ويحسّ أنه تسبّب في مقتله مرّتين، ما يضاعف إحساسه بعقدة الذنب.
إن هذه العقدة تركت تأثيرها في حياة عبدو، بطريقتين مختلفتين، فهو من جهة، يهتم بمن حوله من الفقراء، ويتّخذ منهم عائلته، ويُغدق عليهم المال والمساعدة. وهو من جهة ثانية، يعرِضُ عن الزواج وممارسة الجنس ويقمع شهوته، رغم العروض التي توافرت له. لذلك، يتمنّع عن تلبية رغبات سحر والبرنسيسة، ويعتذر عن الموافقة على عرض الزواج من ماتيلدا الفنانة الألمانية، وفي كلّ مرّة يهمّ فيها بالقيام بعمل ما، تطالعه صورة سقوط أخيه في البئر، فيعدل عمّا عزم عليه، حتّى إذا ما حلم، ذات يقظة، أنّ أخاه قد نجا وأنّه التقى به، يتحرّر من عقدته ويبادر في اليوم نفسه إلى عقد قرانه على ماتيلدا وعقد قران البرنسيسة على حبيبها أبو الريش.
 
المرحلة الألمانية
 
في المرحلة الألمانية، التي تبدأ عام 1983 وتستمرّ إلى ما بعد عام 2018، ولعلّها الأطول في حياته، يستيقظ عبدو في مستشفى ألماني ليجد زوجته ماتيلدا قرب سريره، فيعلم منها ما حلّ به وبعائلته الصغيرة باستثناء الصغيرة مارلين، التي لم يعثر لها على أثر. وفي هذه المرحلة، يتمظهر الشعور الإنساني من خلال تمسّك ماتيلدا به، من جهة، ومن خلال اهتمامه لاحقاً بعد تماثله للشفاء بنزلاء بيت العجزة الذي أسّسته ماتيلدا بالأموال التي حصلت عليها منه سابقاً ثمن لوحات افتراضية، ويشمل هؤلاء النزلاء بحبه وعاطفته، بدون وجود ما يربطه بهم سوى الرابطة الإنسانية. وفي هذه المرحلة أيضاً يعكف على القراءة، وهي هواية كان بدأها في لبنان، فيقرأ كل ما يقع تحت يده من كتب، ما يوسّع آفاقه، ويجعله يكتشف معناه، وقيمة الحياة. وإذ يتعرّف إلى مارلا، الصبية التي تحضّر الدكتوراه، من خلال مشاركتها في المعرض الذي تقيمه ماتيلدا في بيروت، بعد مضي عشرين عاماً على وجوده في ألمانيا، وتطلب مساعدته، ينخرط في حوار طويلٍ معها لسنوات ثلاث، عبر الإنترنت، يمتد على مساحة خمسٍ وسبعين صفحة، تشمل الصفحات الأخيرة من الفصل الرابع والفصلين الخامس والسادس من الرواية، ويتناول العديد من الموضوعات التي لا يربط بينها سوى طرحها من مارلا والإجابة عليها من عبدو. وهنا، يلعب دور الواعظ بامتياز. على أن المفاجأة الكبرى التي يتمخض عنها الحوار في نهايته تكمن في اكتشافه أنّ مارلا هي مارلين، ابنة أخيه المفقودة، في سانحة قَدَريّة، تؤكّد الدور الذي تلعبه الأقدار في حياة البشر.
تضع المل روايتها في ستة فصول طويلة، يتراوح طول الفصل الواحد منها بين مئة وثمانٍ وثلاثين صفحة، في الحدّ الأدنى، كما نجد في الفصل الثاني، وخمس عشرة صفحة، في الحدّ الأقصى، كما نجد في الفصل السادس والأخير. وتُصدّر كلّاً منها بقول من الفصل يُشكّل مفتاحاً له. وهنا، يمكن التمييز بين مستويين اثنين، فالفصول الأربعة الأولى التي يطغى فيها السرد على الحوار، أو يتجاوران في الفصل الواحد هي على قدر كبير من الروائية، تنجح الكاتبة فيها في الإمساك بالقارئ منذ الصفحة الأولى، وتأخذه إلى أجواء ممتعة، وهي تفعل ذلك بلغة سردية طازجة، تنساب على رسلها بدون عوائق، وتستخدم المحكية في الحوار، وتشتمل على أدعية طريفة، وأغنيات متداولة، وأسماء الأمكنة والأطعمة والأعشاب والحرف والأعمال والأدوات والحيوانات، الريفية الزراعية، ما يكرّس واقعية الرواية وصدقها الفني، ويجعل منها وثيقة أنثروبولوجية لعالمها المرجعي، وأطلساً لمدينة طرابلس يشتمل على أسماء الشوارع والحارات والأحياء والمحالّ والمرافق المختلفة، وبذلك، تنهض الرواية بدور معرفي مضاف إلى الدور الفني الروائي، فتجمع بين وظيفتي المتعة والفائدة، في آن.
أمّا القسم الأخير من الفصل الرابع والفصلان الخامس والسادس، فيُثقلان كاهل الرواية بحوار غير متكافئ بين مارلا وعبدو، يمتدّ على مساحة خمسٍ وسبعين صفحة، تلعب هي فيه دور التلميذة، ويلعب هو دور المعلّم الواعظ، ويخوض في شتّى الموضوعات، وينتقل من موضوع إلى آخر، بشكل مجّاني، تِبعاً للأسئلة المطروحة. ولولا انتهاء الحوار باكتشاف هوية مارلا لكنّا إزاء نصٍّ حواري ملصق بالرواية، ويُشكّل عبئاً عليها، ولو أن الكاتبة عمدت إلى اختصاره لشكّل جزءاً لا يتجزّأ من نسيج النص. على أيّ حال، تبقى «الواعظ» في الموازنة الأخيرة رواية ضخمة، تبرز امتلاك صاحبتها أدوات الفن الروائي، وتعكس قدرتها على استخدامها بكفاءة واضحة، وتبقى ضحى عبد الرؤوف المُل روائية تستحقّ المتابعة.
 
٭ شاعر لبناني