Friday 26th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    10-Oct-2020

القيم والأخلاق والتاريخ

 القدس العربي-ابراهيم عبد المجيد

لا يوجد في التاريخ عصر يمكن وصفه بالاكتمال. وكثير جدا من العصور التي عرفنا عنها أنها كانت زاهية، كانت مليئة بالظلم، لكنه مقياس الاكتمال الذي يتوق إليه كل البشر. الاكتمال هو المدينة الفاضلة، وهذه اكتشف الإنسان من قديم الزمن أنها لن تكون على الأرض، فصارت هي الجنة الموعودة، لكن في عالم آخر.
رغم ذلك تسعي البشرية إلى هذا الاكتمال. تأخذ في مساعيها كل الطرق، وأكثر ما أخذته من طرق كان قائما على الحرب والغزو، ودائما تجد من القادة ومن رجال الدين في أحوال كثيرة، ما يبرر لها ذلك. اشتركت في ذلك كل النظم والحضارات على مرّ العصور، فما تقرأه عن تجارة العبيد والسبايا في العصور الإسلامية، لا يزيد عما ارتكبه غيرهم، حين وصل الأمريكيون إلى افريقيا وتاجروا في العبيد فعلوا بهم ما هو أفدح، ووجدوا مبررات دائما من رجال الكنيسة، تماما كما وجد المسلمون المبررات. وقبل ذلك بمئات السنين فعلت روما ذلك في العبيد، وفعلت قبلها اليونان وفارس.
وهكذا تستطيع أن تقول إنه على مرّ العصور لم يصل أحد إلى الكمال قط. ليس هذا مبررا لما جرى أبدا، لكنني فقط أضعه في مكانه. وتستطيع أن تمد الحبل إلى العصور الحديثة، فتعرف ماذا فعلت ألمانيا النازية، وماذا فعلت روسيا الشيوعية والصين، حتى تصل إلى ما يحدث الآن مع مسلمي الإيغور. القضية هي كيف لا يعود البشر إلى تلك العصور، وكيف يدركون أن لكل زمان ثقافته، ولكل زمان ثورة على ما سبقه من ثقافة. تستطيع أن تدرك مدى تخلف الأمم حين تراها تفكر على الطريقة القديمة في تبرير الظلم والقهر. من أكبر الأكاذيب التي نعيشها في عالمنا العربي أكذوبة الحفاظ على القيم والأخلاق والتراث، لأنك ببساطة حين تنظر حولك ترى أن القيم التي يريدون الحفاظ عليها هي أن لا يكون لك رأي يخالف رأي حكامك، والأمر نفسه حين تتأمل المقصود بالحفاظ على الأخلاق والتراث، حتي مقولات بسيطة مثل احترام الأكبر سنا، وهذا أمر بسيط جدا يفعله كل شخص مع من هو في عمر أبيه في الطريق، أو في المواصلات العامة، لكنه يتحول بقدرة قادر إلى طاعة ولي الأمر من الحكام على درجاتهم ووظائفهم، رغم أنك لا ترى واحدا منهم يقف في المترو بين الواقفين، فتترك له مقعدك مثلا، بل يركبون السيارات الفارهة وتُغلق من أجل مرورهم الشوارع. وهكذا في كل ما تراه شائعا حولك من أحاديث.
لماذا أقول هذا الكلام؟ لأردد أن الحفاظ على القيم والأخلاق والتراث لا ينحصر في علاقة الحاكم بالمحكوم فقط، لكن في العلاقة بين البشر جميعا. وفي ما يخص التراث لا تبحث في ماضي بعض البلاد الوحشي لتبرر حاضرنا المتوحش ولا حتى ماضينا. الإنسانية عَلم سيظل يرفرف على كل القيم في كل العصور، المهم كيف نفعل ذلك. كيف نجعله هدفا. كيف ننظر حولنا إلى الدول التي قطعت شوطا كبيرا فيها، ولا أقول التي تمثل لنا المدينة الفاضلة، لأنها لن تتحقق على الأرض. وكيف تكون علاقة الحاكم بالمحكوم، وكيف أن نقد سياسة الحكام لا يعني خروجا على القيم، بل يعني أن على الحكام أن يستجيبوا، أو يقدموا المبررات المقنعة، وكــيف أن ذلك أمر لا يضيّع عمر الناس، فهو لا يزيد عن نشاط عــادي قد لا يشـــترك فيه الناس جميعا. ما يشتركون فيه هو حياتهم اليومية، وطموحاتهم فيها ومن ثم يتقدمون في العلوم وغيرها.
 
أعود لأقول إن التشوهات التي أخذناها من الفهم الساذج للعولمة بدا كأنها هي كل العولمة. لم نقف مثلا عند ما وصلت إليه دول كثيرة تتقدم، من أن مركزية الدولة ووضع كل الأنشطة تحت رقابتها سيسبب التخلف أكثر، فحركة الناس مختلفة وأفكارهم متنوعة.
 
بعد هذه الآلاف من السنين التي مرّت بها الإنسانية لم تعد هناك حيرة عند الإنسان العادي، فالكل يعرف الخطأ من الصواب في البيت والمدرسة منذ سن مبكرة. إذن من أين تأتي الأخطاء؟ تأتي من اختصار الحياة إلى شعوب وحكام والتفرقة بينهما. يمكن أن يُغفَر لك اغتصاب فتاة، لكن لا يُغفر لك رأي في مسؤول. ومادام سلم القيم أصبح بين الحكام والمحكومين، فلن يشغل الحكام أنفسهم كثيرا بالمحكومين، ومن ثم بسهولة يتراجع التعليم والصحة والفن والعمران الحقيقي، وغير ذلك مما يساهم في تطوير العقل والروح للشعوب. فهم القيم على هذا النحو يجعلنا نترك ما هو مهم وننشغل بما ليس له معنى . مثال على ذلك حدث منذ أكثر من ثلاثين سنة، حين انطلقت دعوى العولمة. وكان من مظاهرها الأولى في مصر على سبيل المثال، ساندوتشات الهامبورغر، ومحلات مثل كنتاكي، وطبعا البنطلون الجينز. كل الدعوات التي انطلقت ضد البنطلون الجينز قالت إنه استعمار جديد، ومدخل لإخفاء ثقافتنا، بينما الجلباب القصير والحجاب والنقاب المقبل من جزيرة العرب هو ثقافتنا. ولم يقف أحد عند أنه أيضا من ثقافة مغايرة هي ثقافة الصحراء. فشلت الدعوات ضد الجينز وشاع في البلاد فهو مجرد بنطلون. لكن الأمر لم يقف عند ذلك. أخذنا من العولمة ما هو ضار بنا، باعتبار مصدرها الأمريكي، ولم تحدث له أي مواجهة. ظهرت المباني العالية والتكييفات، وهُدمت من أجلها مبان أثرية وأصبح النموذج الأمريكي في البناء مثلا أعلى، بينما كانت مصر من قبل تتطلع إلى البحر المتوسط، بحرها.
وهكذا تجاوزت العولمة ما هو ساذج يمكن تقبله، هامبورغر وجينز، إلى ما هو سيئ مثل البنايات الشاهقة. وجرت عدوى التكييفات إلى العمارات المتوسطية الطابع، وتم تركيبها فيها، رغم عدم حاجتها إليها، فجدرانها سميكة لا يمر منها البرد شتاء ولا الحر صيفا، وسقوفها عالية، فتم تشويه الأقرب إلى طبيعتنا. وما فكر فيه يوما مهندس عظيم مثل حسن فتحي من طراز معماري ابن البيئة الحارة في الصعيد لم ينتشر، بينما أخذته إسرائيل في مستعمراتها.
أعود لأقول إن التشوهات التي أخذناها من الفهم الساذج للعولمة بدا كأنها هي كل العولمة. لم نقف مثلا عند ما وصلت إليه دول كثيرة تتقدم، من أن مركزية الدولة ووضع كل الأنشطة تحت رقابتها سيسبب التخلف أكثر، فحركة الناس مختلفة وأفكارهم متنوعة. لا أنسى يوما زرت فيه الاتحاد السوفييتي سنة 1990 وكانت تقريبا آخر سنة قبل أن يتفكك، وكيف رأيت الناس طوابير على ماكدونالدز الجديد، ولا كيف رأيت الناس طوابيرعلى محل آيس كريم بريطاني، بينما المحل الروسي لا أحد أمامه إلا القليل. لم يكن أكل ماكدونالدز أطيب، ولا الآيس كريم الإنكليزي أطيب من الروسي، لكن سبعين عاما من الدولة المركزيه جعلت الناس تنفجر بالرفض والعصيان حتي لتراثها في حياتها اليومية. الحكم المركزي لم ينجح على مرّ التاريخ، فما بالك في الزمن المعاصر، ومن ثم كل ما يرتبط به من قيم أو أفكار، حتى أن حروبا تحدث، يموت فيها الآلاف ويهاجر الملايين لأن الحاكم يتشبث بالحكم. هل لهذا أثره في حياة الناس العادية؟ طبعا. إنها الهيراركية أو التراتبية في الحكم، التي تجعل ولاء كل صاحب منصب لما فوقه، وليس لما تحت قيادته، حتى تصل إلى أقل المناصب، وتأتي المزايا إلى من في السلطة بكل أشكالها، ومن ثم تأتي الإزاحة في علم النفس، فمادمت لا أجد طريقا إلى أعلى فلأمارس قوتي على من هو في أسفل. وهكذا تشيع جرائم غريبة غالبا لا يدرك الباحثون أن هذا من أسبابها، ويتوقفون عند الأسباب الاقتصادية أو الاجتماعية.
 
٭ روائي مصري