في مدار غيابك اللّطيف.. الشّفيف
الدستور-د. غسان عبد الخالق
حبيبتي فاطمة؛ دَرَج الناس في هذا الفضاء الأزرق، على أن ينعوا أحبّاءَهم مرّات ومرّات، لكنني سأنحاز لمدرستكِ الكبيرة؛ مدرسة البساطة في القول والفعل، وهي المدرسة التي طالما أطعمتني وأشربتني حتى شبعتُ ورَويتُ.
لن أتحذلق إذن، وأنا أقف بين يديّ رحيلكِ اللّطيف الشّفيف. ولن أستدعي محفوظي البلاغي الشاسع، وأنا مَنْ يعرفُ حقّ المعرفة ما يُسعدكِ وما يُرضيكِ؛ فهنيئا لكِ يا أُمّاه حسن خاتمتك، هنيئا لك التحاقكِ بالرّفيق الأعلى وأنتِ ترفعين يديكِ بالدّعاء، هنيئا لكِ ما طواه الله لنا من المسافات والأوقات حتى نُواريك الثّرى في غضون ساعتين، رغم تعقيدات نازلة الكورونا وأجواء الحظر الشامل، ورغم عَنَت الحرّ والجوع والعطش في يوم الجمعة وواسطة عقد شهر رمضان الفضيل؛ فأي فضلٍ نِلتِ وأي درجةٍ رفيعةٍ تسنّمتِ، حتى يَسّر الله لكِ ولنا من يُكرم مثواكِ ويُؤنسُ غيبتكِ!
وكيف لا ترتقين هذا المرتقى يا حبيبتي وأنتِ من عبَد الله كمن رآه وسمعه وناجاه... وأنتِ من كفّ لسانه عن الناس فلم يذكرهم إلا بخير... وأنتِ من انتحل الأعذارَ دائما لكلّ من قصّر... وأنت من جعل رأسماله في الدنيا سعادة الأبناء! وكيف لا تفوزين هذا الفوز يا حبيبتي وأنتِ من ادّخرت قرشا فوق قرش حتى يكون لأبنائك دُويرة تؤويهم في ليالي غيابِ الأب الطويلة في معسكرات الجنديّة البعيدة... وأنتِ من سجّلت رقما قياسيا في ابتكار الوجبات لأطفالِكِ الجوْعى... وأنتِ من استحلتِ لبؤةً كلّما غامر أحدهم بأن يمسّ شعرة في رأس أحد أشبالك!
لم تَحوزي شهادة يا فاطمة، ولم تُطالعي كتابا، لكنكِ سَطَرتِ في قلوب وعقول كلّ من عرفك منهج العِرفان والإحسان، فلم يكن غريبا منكِ وعنكِ أن تجتهدي في السؤال عن كل مكروب والدّعاء لكل مُعسِر حتى وأنت تُعانين سَكَرات الموت وفقدان البصر التي طالت بكِ ثلاث سنين... بل وأن تجتهدي أيضا في تذكير أبنائكِ وأحفادكِ بإدامة التصدّق على رفيقاتِكِ من نساء الحي الفقيرات!
ليس هذا فحسب يا فاطمة _ وفيضُكِ أكثر من هذا الغيض بكثير _ بل إنك لم تدّخري وسعا لإكرامنا حتى وأنتِ على وشك الاستقرار في سرير الرّاحة الأبدية؛ إذ طالما حسبتُ للحظةِ وداعكِ ألف حساب، وأعترف بأنني كنتُ منقبضا أشدّ الانقباض وأنا أهمّ بكشف الغطاء عن وجهكِ في مستشفى الأمير هاشم بن الحسين العسكري في مدينة الزرقاء، لتغشاني فور مطالعة وجهكِ الحبيب سكينة عميقة ما خَبِرتها يوما، فناجيتُك مرّة وقبّلتكِ ثم عدتُ وناجيتُكِ ثانية وقبّلتكِ ثم عدتُ وناجيتُك ثالثة وقبّلتكِ، يا وجه الرّضى والقناعة والحُبور يا أم غسّان.
رحمكِ الله يا أمّاه، رحمة واسعة سابغة، وأسكنكِ فسيح جنّاته، وطيّب ذكركِ في الدنيا والآخرة، وجزاكِ عنّا جميعا خير الجزاء _ وإني لأُشهده أنك كنتِ خير زوجة وأم وجَدّة _ولا حرمنا برّكِ ورضاكِ فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العَرْض.
وشكر الله سعيَ كلّ من عزّانا بكِ وواسانا بفقدكِ، وجاهيا أو هاتفيا أو كتابيا، والحمد لله رب العالمين من قبل ومن بعد.