Friday 19th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    26-Mar-2021

الحكّاء: إخباريّ أم قاص؟

 الدستور-د. نادية هناوي

 
رسّخ القصُّ القرآنيُّ عند السّارد العربيّ القديم كثيراً من المتاحات السردية التي عززت قدرته على تطويع حكاياته وأخباره، واضعاً رهن إبداعه مشاهد وصوراً، كيّفها بحسب مقتضيات الحال ومتطلبات المقام.وما من سبيل للحديث عن سرد قصصي عربي؛ إلا بالحديث عن القص القرآنيّ وجماليات حضوره الآسر في الذهن. وإلا كيف نفسر هذا التحول الخطير من حكايات خرافية وتهويمية عرفها الحكّاء القديم قبل الاسلام إلى قص منسجم ومتداخل يتنوع بين الإخبار والحديث والحكي بعد الاسلام.
 
إنه فيض تأثير القص القرآني الاخّاذ الذي جذب ويجذب القصاصين بقوة جماله، مانحا الساردين متاحات فنية مختلفة.والرهبة من القص القرآني وفاعليته الساحرة هي التي جعلت الناقد القديم يفتقرإلى الجرأة كي يسمي ما يصنعه الساردون (قصة) وإنما اكتفى بتسميتها أخبارا وأحاديث وحكايات.
 
أما دعوى أن الكاتب العربي القديم قد وظّف الأحداث إخبارا وأنه لم يكن قاصدا القص لا من قريب ولا بعيد وأن غايته من وراء ذلك أما تاريخية أو أدبية او عقائدية سواء في كتابة السيرة أو الرحلة أو المنامات أو المقامات أو الامالي وغيرها؛ فإنما هي مسألة فيها نظر، تتطلب اثباتا كي تبرهن على صحة أو عدم صحة ما تقدم.ولكي نقوم بتوضيح حقيقة هذه الدعوى، ونعلل المسألة بشكل يستحضر القص القرآني ويتأمل تأثيراته الفنية في الأدب العربي نقول :
 
أولا/ إن تأثير القرآن الكريم في الفرد العربي القديم شاعرا وكاتبا أمر لا يختلف عليه اثنان. ومن الطبيعي أن يكون أسلوب القص القرآني موضع اهتمام بسبب ما عكسته القصة فيه من امكانات الجمع بين الحقيقي والجمالي والواقعي والفني والادبي والتاريخي والشعري والنثري محققة عنصري الامتاع والفائدة.
 
ثانيا/ إن كتابة الاخبار كانت في الاساس فعلا ابداعيا وظفت فيها إمكانات اللغة الاستعارية انطلاقا من التباري في قوة التعبير البلاغية والافصاحية ومن ثم أصبح الفعل الاخباري جسرا لغويا لتوكيد قدرة الكاتب الاسلوبية اكثر من تبرير مصداقية الاخبار التي يرويها او يدونها.
 
ثالثا/ إن هذا الكاتب لم يكن مطالبا بالصدق بمعناه الوقائعي وانما الصدق بمعناه الاقناعي الذي لا يتوانى من توظيف الاستعارات والمجازات والتشبيهات. وبهذا يغدو موضوع الصدق احتماليا بالمفهوم الارسطي متيحا للكاتب مديات من الحرية في الكتابة الابداعية.
 
وطبيعي أن يستقي الكاتب من القص القرآني ممكناته الفنية وفي مقدمتها الطابع الفني في حكائية الفعل التاريخي وما يحمله هذا الفعل من خارقية وعجائبية ومفارقات ضدية كما يكون بمقدوره الأخذ من الفنون الأخرى المعروفة كالشعر والسجع والرسائل والحكايات الخرافية والأساطير وحكايا الأمثال والخطب وغيرها.
 
رابعا/ كثير من كتب الأخبار التي وصلتنا توضع في خانة الأدب وإن كانت تعد كتبا في التاريخ والسبب هو لغتها البلاغية أولا ولتنوع رواية الحادثة الواحدة عند المؤرخين ثانيا فتكون للحادثة الواحدة صور مختلفة وفي كل صورة حضور لاحتمالية ـ وليس قطعية ـ أن تكون الرواية صادقة.
 
خامسا/ إن الاخباري العربي القديم لم يكن يتحرى غير المنطقية، واضعا المتلقي أمامه موجها كتابته إليه، مهتما بالتعليل كي يجعله راضيا ومقتنعا، ومن ثم لا فرق عنده بين أن يكون الخبر المروي محكيا كما وقع فعلا أو كما تخيل الكاتب أنه قد وقع بالفعل. وبهذه الاحتمالية المنطقية يدخل الكاتب منطقة القص متجاوزا فضاء الاخبار مُعملا مخيلته وموظفا ذائقته.
 
سادسا/ إن فعل الإخبار عن واقعة ما فعل فردي يقوم به كاتب واحد لديه رواية او روايتان او اكثر عن تلك الواقعة لكنه غير ملزم بأن يجعل فعله الكتابي غيريا متحدثا باسم المجموع، والكاتب وإن ألزم بالتعبير عن وجهة نظر المجموع؛ فإن فرديته تظل هي العاملة، كأن يتحرى هذه الرواية او تلك او يغير هنا أو يضيف. وذلك كله يظل تبعا لمزاجية هذا الكاتب ومقاصده ومدى اعتمال المخيلة أو كسادها لديه.
 
وبذلك تتوكد حقيقة أن الابداعية النثرية كانت قد تبلورت قبل الإسلام ثم تطورت تأليفا وإبداعا بعد الاسلام بتأثير النص القرآني، الذي شذّب فعل المخيلة ونقاها وجعلها تتجه صوب الإبداع بقصدية جمالية وغائية نفعية تخدم الفرد والجماعة. بعد أن كانت المخيلة قد اختمرت في ما قبل الإسلام في وعاء الغيبيات والتهويمات والطوطميات والاساطير.
 
ولو لم يكن للعرب سردية حكائية قبل الإسلام لما أثر القص القرآني في الأساليب الكتابية العربية.
 
وإذا كان قص ما قبل الاسلام خرافيا يوظف التخييل في إطار لا معقول عادة ما يكون خرافيا او اسطوريا؛ فان قص ما بعد الاسلام كان احتماليا يدمج ما هو تاريخي بما هو تخييلي متجاوزا الوظيفة التطابقية الى الوظيفة الشعرية.
 
وكانت العرب في المرحلة الشفاهية قبل الإسلام تُسمي القص (رواية) وتطلق على القاص اسم الراوي وجمعه الرواة.من هنا كان لكل شاعر راوية يحفظ شعره ويرويه بين القبائل ومثلما أن الشاعر اذا قال بيتا طار بين القبائل فكذلك الراوية اذا أخبر أو حدث انتشر ما يقوله بين الناس.
 
ولا يخفى ما للرواية المنقولة شفاها من أثر مهم في التثقيف الأدبي والتهذيب الخلقي وربما العكس بمعنى أن يكون أثرها خطيرا يتجلى في اثارة النزاعات واذكاء العصبيات والنعرات.
 
واذ لم تسم العرب نثرها بتسمية موحدة بينما سمت النظم شعرا، فلأن الشعر واحد بإيقاعات وقواف محددة بينما النثر متعدد الاشكال، فيه الحكايا والخطب والاخوانيات والرسائل والتوقيعات والأخبار والتوثيقات والحكم والأمثال والمقامات وغيرها. وقد سمى المتأخرون النثر كلاما أو منثورا لسعة ما ينضوي تحته من ضروب القول وأفانينه.
 
ولقد وقف كثير من علماء العربية ونقادها عند فضائل الشعر والنثر، مقدمين الأول على الثاني. وعلى الرغم من وجود كتّاب فضلوا النثر؛ إلا إن الشعر ظل أحاديا في هيمنته الثقافية ومركزيا في المنظومة الرسمية للأدب.
 
ظلت كلمة الأخبار مستعملة بسعة، شاملة القص والتاريخ والحديث والسير النبوية والمدونات السيرية والفقهية والمؤلفات النقدية والطبقات الترجمية والفهرسية، كما صارت تطلق على مصنفات في الأدب والتاريخ الاسلامي مثل كتاب عيون الأخبار وكتاب أخبار الصحابة وغيرها.
 
ولا خلاف أن السرد جزء من الحياة العربية تماما كالشعر موجود في كتابة التاريخ والجغرافيا والاخلاق والفقه والرحلات والسير والرسائل والخطب والمكاتبات الاخوانية وغير الاخوانية ، ومن ثم يمكن لنا دراسة سرديات ابن عساكر والبلاذري وابن قتيبة كما يمكننا تلمس سرديات الاغاني والامالي وصبح الاعشى وسرديات السير مثل سيرة عمر بن الخطاب لابن الجوزي وسيرة الملك الظاهر للبدر العيني وسيرة ابن طولون للبلوي.
 
ولا يمكن أن نتصور بأي حال من الأحوال أن التخييل السردي سبب للساردين القدماء حيرة أو تذبذبا في بناء وقائعية الفعل السردي ومصداقيته، بل العكس فقد كان التخييل أداة مهمة وعملية في تعزيز مصداقية القص وتوكيد فاعلية تأثيره في النفس، جنبا إلى جنب أدوات القص الاخرى مثل الديمومة الزمانية في المشهد وفاعلية الحذف والتلخيص والوقفة الوصفية والمفارقة والحلم والصدفة والعجائبية.
 
مؤدى القول إنّ السرد قص استلهم الحكاء القديم قواعده من موروث حكائي خرافي، مضيفا إليه تجليات القص القرآني التي تعامل معها بمرونة كبيرة جعلته يتمثل القص لغة أولا وواقعا ثانيا وأدبا ثالثا.وإذ لم تكن لدى العرب في جاهليتهم أدنى إشكالية في تجانس الوقائعي بالتخييلي؛ فإن ذلك طبيعي، لأن حياتهم أصلا مبنية على المجاز والإيجاز حتى انزاحت حكاياتهم باتجاه الخرافة إلى أن جاء الإسلام فشذّب هذا الانزياح كثيرا وجعل التخييل في القص أكثر واقعية وأعمق جدة.