Sunday 28th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    02-Feb-2024

موباسان وقصص الفانتاستيك في ترجمة للمديني

 الدستور-إبراهيم خليل

قصص الفانتاستيك قصص تُروى عادةً في كلماتٍ، وتراكيبَ، لا تخلو من الخيال الساحر الذي يتضمن حكاياتٍ، أو أساطيرَ، ذات علاقة بالخوارق غير الآدمية؛ كالحيوان، والمردة، والشياطين، والجان، والمسحورين. وقد كثر هذا النوع من القصص في أدب العصور الوسطى medieval period لا سيما تلك القصص التي تخاطب الأطفال، وتنمي لديهم المخيلة، مستعملة ألفاظا مُبْهجة، ومثيرة، لها أثرٌ فيهم وتأثير، كأنه السحر.
وقد شاع اعتماد هذا النوع من التخييل في العصر الحديث. وَعُني به نقادٌ، ومنظّرون، منهم فلاديمير بروب Propp، وتزيفتان تودوروف مؤلف الكتاب المعروف « مدخل إلى الأدب العجائبي « 1970 وعنوانه بالإنجليزية An Introduction to Fantastic Literature وقد ترجمه إلى العربية الصِدّيق بو علام 1994. وفي رأي تودوروف Todorov ثمة ضربان من هذا الأدب القصصي: ضربٌ منه لا يتردد القارئ في قبوله من حيث أن المجريات مما يمكن أن يُصدق، وضرب منه لا تتوافر فيه هذه السمة، فعدَّه من هذه الزاوية عجائبيًا. أما الأول فعدّهُ غرائبيًا. فالعجائبي أكثر استبعادًا لقوانين الواقع. وأكثر إفراطا في التخييل الذي لا يستبعد الخوارق. فالقصة القصيرة التي يتضمّنها هذا الكتاب «قصص الفانتاستيك» الذي ترجمه القاص الروائي الناقد أحمد المديني من المغرب، وصدر عن دار المتوسط في ميلانو بإيطاليا (2023) للكاتب الفرنسي الشهير موباسان Maupassant (1850- 1893) هي القصة الموسومة بالعنوان «الميّت» La morte فالسارد فيها، وهو البطل أيضًا، إذا جاز التعبير، يتحدث عن فتاة أحبها حبًا شديدًا، وباعترافة: لا يعرف كيف، ولا لماذا، شُغف بها هذا الشغَف: «قابلتُها، وأحببتُها، وهذا كلُّ ما في الأمر» (ص114).
ويستمرّ في الحديث عن هذا الحبّ. وذلك شيءٌ طبيعي، لكنه يفاجئ القارئ بالقول ثم ماتت. وباعترافه لا يعرف كيف ماتت، ولا لماذا.
كانت قد عادت إلى البيت -ذات مساءٍ ممطر- مبتلة الثياب. وفي الصباح انتابها سُعالٌ، ولزمت الفراش أياما، ولم يفلح الأطباء الذين أحضرهم في مواجهة ما تعانيه، أو التخفيف من غلوائه، وأخيرًا يتذكر شيئا واحدًا، وهو أنها وُضعت في تابوت، ثم شُيِّعت في جنازةٍ لم يسرْ فيها كثيرون، ودُفنت في مثواها الأخير.
من تداعياتِ هذا العاشق الحزين يتَّضح أنّ كل ما في البيت يُذكــّرُه بها. فحتى المرآة التي تقع على كثبٍ من الباب، حين يقع عليها نظره، يجدها مرعبة لكونها تذكره بجلِّ ما يحاول أنْ ينساه. لذا يضطرُّ، في عصبية حادة، لمغادرة البيت، لتقوده رجلاه إلى المقبرة، وفيها يبحث عن قبر المحبوبة، ويتوقف إزاءَه متأمّلا ما كُتب على الصليب الرُخاميّ « أحبَّت، وكانتْ محبوبة. وماتت» (ص126).
تأثر السارد تأثرًا عميقًا بهذه الكلمات. فقرَّر أن يقضي الليل إلى جانب قبرها باكيا. وفي الهزيع الأخير بدأ يمشي وهو يكاد لا يُبصر مواقع خطاه. يتحسَّسُ الأحجار بقدميه، والأسْيِجَة الحديدية الشائكة، وبعد أن أعياه المسير جلس على حافة قبر من القبور نادبًا حظَّه التَعِس. وفيما هو جالسٌ في خُشوعٍ شعَر فجأة بقطعة الرُخام التي يجلس عليها تتحرَّك. وفي مشهد مرعب شبّ الميت الذي داخل القبر منتصبًا بهيكله، وظهره المنحني، ورمى بالحجر الذي كان محبّوه قد أقاموهُ شاهدًا على القبر، وأخذ حجرًا حادًا وراح يمْحو به العبارة التي كتبها محبّوه، وهي التي تقول: «هنا يرقد جاك أولفان.. الذي عاشَ شريفًا، وطيّبًا، يرْحمُهُ الله.» (ص118)
وهذا المشهد، بلا ريب، مشهدٌ يصدُم القارئ الذي لا دراية له بالأدبِ العجائبي. فالمؤلفُ يتجاوز ما هو طبيعي، وواقعي. ويتيح لمن تُوفّي، ودُفنَ، منذ زمن، أن ينهض من قبره نهوضًا مرعبًا لمنْ هوَ حيٌّ. ليس هذا فحسب، بل يلقي فضلا عن ذلك بالحجر الذي كتِبَ عليه ما يشيدُ به، وبشرفه، وطيبته. ويمحو هذه العبارة، ويكتبُ عوضًا عنها: «هنا يرقدْ جاك أولفان.. الذي تعجَّل موْتَ أبيهِ ليرثَهُ، وعذّب زوجته، وعكــّر صفْوَ حياةِ أولاده، وخدَع جيرانه، وسرَقَ، وماتَ بئيسًا».
الحقيقةُ الرهيبة:
موباسان لا يكتفي بهذا، بل زيادةً في التعْجيب، وعلى وفق الزمن اللحظي الذي يستغرقه السارد في حكايته هذه، يتراءى له الموتى جميعًا وقد انبعثوا من قبورهم، وشرعوا يمسحون عن شواهدها ما كُتِبَ من عباراتٍ هي في رأيهم أكاذيبُ، ويكتبونَ بدلا منها ما يُفْصح عن الحقيقة الرهيبة التي يتجاهلُها الجميع.(ص119).
يتضاعفُ الشعورُ لدى السارد بالزيف الذي اعتدنا على الاستغراق فيه، وفي حمأةِ هذا الإحساس يركضُ باتجاه القبر الذي يثْوي فيه جُثمانُ الحبيبة، تلك التي شُغف بها شغفًا لا يوصَفُ. فوجد القبر، وقد أزيلتْ عنه العبارة التي ذكرها لنا للتوّ، وهي الزعم بأنها «أحبّت، وكانتْ محبوبَةً، وماتتْ». أزيلت هذه العبارة، وظهرت في مكانها عبارة كتبتها هي بعد الانبعاث من القبر مع منْ بُعثوا، تقول فيها: «خَرَجَتْ يومًا لتخونَ خليلها، فتعرَّضتْ لنوبةِ برْدٍ، تحت المطر، وماتت» وهذا العبارة تذكر القارئ بما ذكرهُ السارد عن عودتها ذات أمسية ممطرة مبتلّة الثياب، وفي الصباح التالي انتابها السُعال، ولزمت الفراش. ويلاحظ القارئ ها هنا حرص المؤلف على الربط بين ما قيل في بداية القصة وما يقال في آخرها. فهو يحسن نسج القصة خلافا لكثيرين لا يتقنون إلا الادعاء بأنهم كتاب موهوبون يأتون بما لم يأت به الأوائل، ولسان حال المتطفّل منهم قول أبي العلاء:
وإني وإن كنت الأخيرَ زمانُه
لآتٍ بما لم تستطـعه الأوائل ُ
ولا ريبَ في أنَّ القارئ، سواءٌ أكان متمرسًا بقراءة القصص، أو قارئا عاديًا، لا درايةَ له بهذا، لذا يتوقَّف متسائلا أهذا شيء معقول؟ أيمكن وقوعه؟ لا. لا يمكن قبوله! لكنَّ القاص يتعمَّد أن يروي على لسان السارد مثل هذا الحدث الذي لا يُمكن تصديقه، متكئًا على حقيقةٍ عُرْفية هي أنه يروي حكاية، والحكايات نوعان: منها ما يكون محاكاةً للواقع، ومنها ما يكون مُتخيَّلا بطريقةٍ مغايرة لتلك المحاكاة، وهذا النوع يتطلب توافقا، وتواطُؤًا، بين القاصّ والمتلقي. كأنَّ الكاتب يقول للقارئ: هلمّ بنا نروي قصصًا فيها لون أو ألوان من الكذب. على أن في هذه الأكاذيب قِصَصًا لا تخلو من مغْزى، فالمعنى الذي يستخلصه القارئ هو أن في حياتنا الكثير من الزيف. وقد توسَّل موباسان بهؤلاء الموتى ليضعَ، عن طريقهم، حدًّا لهذا الزيف، أو لافتا النظر إليه، وذلك أضعف الإيمان.
فالتعجيب في القصة يتجلى في عودتهم للحياة، وفي نهوضهم من قبورهم، ليكتبوا بأنفسهم ما هم جديرون به من وَصْف، لا بما كان يُكال لهم من تقريظٍ على سبيل النفاق، لا على سبيل الاستحقاق.
الوسواس
تتكرَّر لدى موباسان الحكايةُ التي يعود فيها الموتى من قبورهم أحياءً.
ففي «الوسواس» التي يتكئ فيها على السارد المشارك، وعلى ضمير المتكلم، مثلما هي الحال في قصة الميت لتي سبقت الإشارة إليها، يلتقي الساردُ على مائدة عشاءٍ في فندقٍ برجل معه ابنته جولييت. ويطلب الرجل من السارد أنْ يدلَّه على مكان تطيبُ فيه النزهة حتى لو كانت قصيرة. ولا يكتفي الساردُ بإجابته على هذا الطلب، وإنما يبدي رغبتهُ في مشاركتهما النزهة. وفي الحديث الذي يطول، يقول الأب عن ابنته: إنها تعاني من توتّرات عصبية غير مفهومة، ولا معروفة الأسْباب. كان السارد قد لاحظ في أثناء تناولهم العشاء يدَ الرجل الأب ترتعش عند إمساكه بالكوب، أو بالملعقة. فقالَ على الفور: أظنُّ ذلك وراثيا؟ فأنت بلا ريب تعاني من شيء ذي صِلة بالتوتُّر العصبيّ. هنا يعترضُ الأبُ قائلا: لعلك تشير للرعشة التي تلازم يدي عند الإمساك بأيّ شيء. هذا تشنُّجٌ ناتج عن ذكرى. ذكرى شعور فظيع مررتُ فيه.
تبدأ حكاية التعجيب من هذا الموقف، أو من تلك الذكرى. فجولييت -ذاتَ يوم- جيءَ بها وقد وجدت في الحديقة ميتة، ووضعها الأب بنفسه في النعش، وَوُريت الثرى في مقبرة العائلة في منطقة اللورين، دون أن يجرّدها من الحلي التي كانت تتزين بها: أساور، وخواتم، وقلائد ثمينة. وفيما كان الأب يرقُدُ حزينا وحيدًا في البيت بعد أن فقد أغلى ما لديه في هذه الحياة: ابنته جولييت، دُقّ الجرس، ورنّ مرتين. فهبَّ مذعورًا، وحمل شمعة، ونزل الدرج متجهًا نحو الباب، صائحًا مَنْ هنا؟
وعندما فتح الباب فوجئ -فيما رواهُ- بشبح أبيض، وتراجع فزعًا وصاح ثانية: مَنْ أنت؟
أجابه الصوت: أنا ابنتكَ يا أبي. لا تفزع. لم أكنْ ميتة. أرادوا سرقة خواتمي، وأساوري، فبتروا إصبعي، والنزيف أنعشني.
أصابت المفاجأة الأبَ بالصدمة، وانهار أوّل الأمر، وأدخل ابنته، وطلب من الخادم روبسبير أن يأتيهما بشراب. أما الخادم، الذي هو مَضْرَب المثل في الإخلاص لسيِّده، فعندما وقع بصره على جولييت، سقط على ظهره ميتًا في الحال. فقد كان هو من فتَحَ القبر، وحاول سرقة الخواتم، والأساور، وبقية المصاغ. وعن طريق الصَدْمة اكتشف الأب كم هو مخدوعٌ بهذا الخادم المتفاني في خدمةِ سيّده.
ولئن تساءل القارئ: ما المشترك بين هذه القصة، وقصة (الميت) التي سبقت إليها الإشارة؟ وجدنا أنَّ الكشف عن زيف الاخرين هو القاسم المشترك في هذا السرد العجائبي. ففي قصة «الميت» شهد الميتون بأن الأحياء يكذبون، وفي قصة الوسواس شهدت الابنة التي غادرت القبر عائدة إلى البيت، أنّ الخادم المخلص روبسبير ليس مخلصًا، بل هو سارقٌ، محترفٌ، ولصٌ ظريفٌ، لا يتواني عن سرقة أقرب الناس إليه. والتعجيب في القصتين يتجلى في أن الشخصيتين اللتين تنسب لهما (ثيمة القصة) ممَّن ماتوا، ثم عادوا بعد الموت ليقولوا الكلمة الفصل في إشكالية الزيف التي تملأ حياتنا. وهذا شيءٌ لا يمكن أن يحدث وفقا لقوانين الواقع، والأسُسِ، التي تقوم عليها المحاكاة.
يذكر أن جي دي موباسان -مؤلفُ هذه القصص- من منطقة النورماندي (فرنسا) وقد ولد عام 1850 ودرس في ثانوية كورني بمدينة روان (1869) والقانون في باريس. ثم توجه للخدمة العسكرية. وشارك في الحرب التي دارت بين فرنسا وبروسيا عام 1870. وعمل في أحد المكاتب الإدارية في روان حتى سنة 1878 وفي عام 1888 التحق بوزارة البحرية، وبالإدارة العمومية. وفي الأثناء تعاظم نتاجه القصصي. وعُرف بصفته واحدًا من الطبيعيين naturalist مع إميل زولا، وأنورويه دي بلزاك. ولمعَ ذكرهُ بصفته كاتب قصة قصيرة أولا، واشْتُهر- ثانيا- في الرواية بعد صدور روايته «حياة واحدة» Une vie. وإحدى رواياته Bel-Ami طبعت ستًا وثلاثين طبعة، مما جعله ثريًا بمعايير ذلك الزمان. ويعدُّ ثالث ثلاثةٍ أسَّسوا فن القصة القصيرة في الأدب العالمي: الروسي الشهير أنطون تشيخوف (1860- 1904) والأميركي إدجار آلان بو Poe (1809- 1849) وهو الثالث.
أما المديني، أحمد ، مترجم الكتاب، فهو من مواليد (برشيد) المغربية عام 1947 وقد درس في فاس، وأتم دراساته العليا في باريس(جامعة باريس الثامنة) و(السوربون) وعرف في أثناء دراسته الكثير من النوابغ الذين وهبوه الكثير من الوعي بالأدبي، وما بينه وبين المعرفي من بوْن، كجمال الدين بن الشيخ، وجاك لنهارت، وعبد الرحمن منيف، وآلان روب غرييه، وجيرار جانيت، وميشيل فوكو، وأحمد عبد المعطي حجازي، ولوسيان غولدمان، ومحمد باهي، ومحمد عابد الجابري، ومحمد آيت، وغيرهم ممن ذكرهم، وأثنى عليهم، في كتابه نصيبي من باريس (2014) وتجلّى ذلك في إبداعه المتنوّع. فهو كاتب قصة قصيرة «العنف في الدماغ»، و»سفر الإنشاء والتدمير» و»طرز الغرزة «. وروائي «حائط الصفصاف»، و»ظلّ الغريب»، و»في بلاد نون» وغيرها. وشاعِرٌ، وناقدٌ أدبي، له غير كتاب منها: القصة القصيرة في المغرب، والأدب المغربي المعاصر، وفي حداثةِ الرواية العربيَّة. وله في السيرة كتبٌ عدَّة منها «نصيبي من باريس» وكتاب «نصيبي من الشرق» و»فِتَنُ كاتبٍ عربي في باريس» وكتاب «باريس أبدا، يوميات الضفة اليسرى». وله في الرحلات عن رام الله، وبيت الله الحرام، وأيام برازيلية، وإلى بلاد الأرجنتين، وقد فاز كتابه «مغربي في فلسطين» بجائزة ابن بطوطة.
وله في الترجمة الكثير، وهو كاتبُ مقالٍ صحفيّ، أدبيّ، قرأنا له في النهار، والاتحاد الاشتراكي، والعَلَم، والمحرر، والسفير، قبل أن تحتجب، والصحف العراقية، كالجمهورية، والبعث، والثورة، وفي مجلات منها: أقلام، والآداب، والطريق. وأعدَّ كتبا عُني فيها بإحياء ذكرى أدباء لامعين من المغرب، كمحمد زفزاف، وأحمد المجاطي. وقد صدر في العام 2014 كتاب تكريمي له بعنوان «وردة للوقت المغربي» ينطوي على عدد من الدراسات التي تناول فيها الدارسون بعض آثاره في القصة، والرواية، والشعر، والدراسات الأدبية، والترجمة.