Thursday 25th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    20-Jun-2020

المقامــــــة القهريــــــة

 الدستور-قصة: نايف النوايسة

هاتفني ممرور بن مسرور قائلاً: إني عازم على زيارة عمان بعد أن انحسر مدُّ فايروس الكورونا، الذي تولّد منه الحظر،فلا نزور أحداً ولا هم يزورونا، والحق، أنني قطعت من الطريق الصحراوي مرحلة دون أن أنبسَ ببنت شفة، إلاّ أنني حين رأيت جمعاً من الناس يزحفون شَمالاً، ولا يلتفتون لا يميناً ولا شِمالا، ويحاذيهم قسطلٌ من تراب يُقال له الطوز، وتتراءى لهم خيالات من سراببحيث استبشروا بأن فيها الماء والفوز.. فأوقفت سيارتي، ومسحت نظارتي، وفركت عيوني، وثبّتت جفوني، وصوّبتُ النظر، واستحضرت لوامع الفِكَر، فقلت دون ارتياب بعد دنوٍّ واقتراب: كأنه هو، فهذه عربته العتيدة، وسمْتُه على صورته المعروفة المعهودة، إنه النصات بن لقلاق، العجيب الغريب جوّاب الآفاق.
 
قال ممرور بن مسرور: ما الذي جاء بهذا المخلوق العجيب، إلى هذا المدى الجاف الرحيب؟ واللهِ لأكتشفَنَّ أمرَه، وإلى أين مسيره ومستقره. فعدتُ أدراجي وأقفت سيارتي شمالي القطراني، وما أن حاذاني، أخفيت رأسي لكيلا يراني، مرَّ وخلفه خلْقٌ كثير، يقولون مثل ما يقول وكأنه زعيم لهم أو أمير، فدارت الأفكار في رأسي، أأتبعه أم أواصل المسير؟ قلت نفسي: وإن كان الرجوع في عُرْفِنا مكروهاً سألحق بالنصات لأقف على سفره القاصد ونيته، وعلام انطوت عليه طويته.
 
يقول ممرور بن مسرور: وضعتُ في موقف آمن للسيارات، ولحقت بركب النصات دون تردد والتفات، ودنوت من عربته حتى صرت قاب مترين أو خطوات، لأرصد أنفاسَه وأرى كيف يضربُ أخماسه وأسداسه، وأرى دواعي سفره المفاجئ، وقد وقر في نفسيمنذ زمن بأنه لا مراسي له ولا مرافئ، ولم أسمعه يوماً يُرددُ ما ردده الشاعر:
 
يا مرفأ النور ما أرجعت وادعة
 
من غير زاد ولا آويت قرصانا
 
واقتربتُ منه حتى تماهى نبضي بنبضه، وتداخلنا حتى ما عدتُ أعرفُ بعضي من بعضه.
 
وراح ممرور بن مسرور يروي رحلته النصّاتية بإسهاب، وكأنه يقرأ سطوراً واضحات من كتاب: كان النصات ينهب الطريقنهباً دون تعب، ويجري وراء عربتهخبباً أو سيلاًيُتحْتِحُ لم يُصبْه فتور أو نَصَب.. عيناه بالكاد ترمشان، وشفتاه لا تتلامسان، وجُلّ الأحايين منطبقتان، وظهره محدودب مثل لص هاربٍ من سجن حصين، ولا يكف عن الترداد: أوظيفة بعد الثلاثين؟ ويرددها بعده صديقاه فَلْحان وسَلْع بن سرحان، ويردد الجميع خلفه ما يقول، دون أن يفقهوا معقوله من اللامعقول، ويصدق عليهم المثل: (معاهم معاهم، عليهم عليهم)، أو(معاكن يا غنّايات). أو كما قال الشاعر:
 
وما أنا إلّا من غزيّة إنْ غَوَت
 
غَوَيْتُ وإن تَرشُدْ غزيَةُ أرْشُدِ
 
حاذيت عربته المصون، وأكلتها بعيوني كالعاشق المفتون، ولسان حالي يقول:
 
إني لأكتمُ في الحشا حباً لها
 
لو كانَ أصبَحَ فوقَها لأظلَّهَا
 
ويَبيتُ بينَ جوانحي وجدٌبِها
 
لو بات تحت فراشها لأقلها
 
حينذاك رأيت شهادته الجامعية في المقدمة، وأوراقاً كثيرة تشهد له بالألمعية وأنه كان من الطليعة الملهمة.
 
يقول ممرور بن مسرور: وبخط بارز بيّنَ دورَهُ في ديوان الخدعة المدنية، أنه من ثلاثين سنة له الأولوية، أي أنه صاحب حق في التوظيف، دون مماطلة وأعذار وتسويف.
 
وعلى مقدمة العربة، يافطة عليها عبارات وجيزة مقتضبة، واضحة المعاني وضوح الشمس على كف الضحى، أو كالبدرالمنير شتت بضيائه جيش الدُّجى، ويقول فيها: يا سادة يا حكماء، (ويردد خلفه فَلْحان وسَلْع بن سرحان: ماء ماء)، فرحتُ حين حان دوري في التعيين،ولكن مرتْ سنين تتلوها سنين، وكنتُ الأول على الجميع بلا منازع، ومصيبتي أنهليس أمامي معترض أو مُقارع.. ويصرخ النصّات بصوت حزين كئيب: أهو دوري بالخفاء مسلوب؟ أم أنني ودوري نسير بالمقلوب؟!
 
ويواصل ابن مسرور: وفي عربته ورقة بارزة للعيان واضحة، وسطورها كاشفة فاضحة: اشتغلت عامل وطن بعد أن عضّني الجوع بنابه، وحاشني الزمان بصروفه ومراميه وحرابه، وصدق علي قول الشاعر إذ يقول:
 
لماذا ليال جوعُ والقصرُ لك؟
 
يناشدني الجوع أن أسألك
 
فعددت سنوات عملي بالثواني، في النهار أطارد قمامتي بلا تواني، وفي الليل تسكنني أحلامي بالتعيينِ، وأفرح حين أرى شهادتي معلقة أمامي تبتسم وتواسيني.. ويبكي النصات بكاءً مرّا، ويُرسلُها على خده دمعاتٍ حَرَّى، ويردد بصوت خافت حزين: اليوم بعد ثلاثين سنة أًحلت على المعاش (ويردد خلفه فلحان: عاش النصات عاش)، اليوم يا سادة تأكد لي أن المواطن العادي سعره(بلاش)، وصدق عليّ المثل:حياتك لاش لاش مثل دَرْجات القماش. يا سادة: وما حملني على قطع هذه المفازات، هو أن ديوان الكذبة طلب مني الشهادات،وجاء في خطابه بعض الأمل: حين استعجلني بأن آتيه على عجل كي لا أفقد فرصة العمل، ولا أخفي عليكم بأنني في كل عام منذ ثلاثين سنة على هذه العادة، وأما اليوم بعد ثلاثين خطاباً من الدجل، سأسمعهم كلاماً ما سمعوه من بعد ومن قبل. سأقول لهم ما قال الحكيم: الحياة لا تتوقف بسبب خيبات الأمل، فالوقت لا يتوقف عندما تتعطل الساعة.
 
يقول ممرور بن مسرور: دنوت من ابن لقلاق، وهو يلوّح بيده ببعض الأوراق،وإذا أراد الكلام علا صوته وانتفخت منه الأوداج، كقوله بدون اهتياج:
 
إذا لم تَحْملِ المصباحَ من بيتٍ إلى بيتٍ.
 
وإنْ لَمْ يَفهَّم البُسطاء معانيها فأولى أن نُذَّريها
 
ونَخْـلُد نحنُ للصمتِ.
 
بعد اليوم يا سادة لن نخلد للصمت، فالظلم بلغ الزُّبى، والضحكُ على الذقون سيفه ما نبا..
 
اقترب منه صحفي أجنبي أشقر البشرة وسأله بلغة عربية مُكسّرة: كيفك يا نصات، فردّ عليه: الحمد لله. فقال الصحفي: إلى أين الاتجاه؟ فقال النصات: إلى حيث نجد من يسمع صوتنا هناك. هزّ الصحفي رأسه وقال: هل هو حِراك؟ طرده النصات قائلاً: Go on، وعنفه وأضاف: You›re really bad، نحن نريد أن نُسمعَ صوتنا فقط ولا نبغي في الأرض الفساد، ووقف النصات والتفت إلى الجماهير وصاح بصوت واضح لا يحتمل التأويل والتفسير: معنا أناس ليس منا، يريدون التخريب والتدمير. نحن طُلاّب حق مهضوم ولسنا دعاة هدم مذموم.
 
يقول ممرور بن مسرور: ما هذا العرس الجماهيري الذي ملأ الآفاق، ويقوده الزعيم النصات بن لقلاق.. سَوَقة ومتعطلون ومظلومون وسواح وفقراء، وأوباش وشُطّار وفنانون وشعراء، يهتفون بصوت واحد مُجلجل، (والصدى يردده: جِلْ جِلْ) نحن طُلاّب حق يا صاحب الحَل. وكان أعلاهم صوتاً فلحان وسَلْع بن سرحان اللذين قطعا المسافة وهما يرقصان ويضحكان ويغنيان: هلا هلا بك يا عمان يا درة المدن والأوطان.
 
كان ممرور بن مسرور يلهث حين توقف النصات على مشارف المدينة، ووقف على مرتفع وقال للناس بلغة صارمة رزينة: أكرر مرة أخرى ليس منا من جاء للخراب، فالبلد بلدنا، ولم نأتِ لتصفية حساب، سنطرح أسئلتنا على القوم وننتظر منهم الجواب، ومن كان عنده نية غير هذه فليفارقنا، فنحن لسنا معه وهو ليس منا.. فقال فلحان: هي العدالة، فردّ عليه النصات: سنذكرها بعجالة، حتى لا يجنح أحد إلى رصيف الجهالة، ثم يصدق علينا قول الحكيم:
 
تلك الجهالة والغرور وباطلٌ
 
ما يصنع الأغرار والجهلاء
 
يروي ممرور بن مسرور: اصطف الركب أمام الدوار السابع، فقال فلحان للسّمْع بن سرحان: ها نحن وصلنا وقاب دوّارين نكون على الرابع، وكان النصات منشغلاً باليافطات، وتطاولت إليه الأعناق المترقبات، وكان الركب يغذ السير بهدوء مطلق نحو الدوار، والصنات في مقدمتهم كالقائد المغوار. وحين لاح له الدوار الرابع، قال: اسمعوا أيها السادة: احذروا الضجيج وافتعال الضوضاء، نحن لسنا لصوصاً وشراذم وغوغاء، وأقول لكم بصوت واضح، ما جئنا إلى هنا للتدمير والتشريح والفضائح.
 
وتقدم النصات من الدوار وطلب من الجميع الاصطفاف، وقال: خففوا من الفوضى وحدة الهتاف، وراح يقرأ ما كتب على اليافطات برصانة وثبات:
 
قال تعالى: (والسماء رفعها ووضع الميزان)
 
وقال أيضاً: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان)
 
قال عمر بن الخطاب: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً).
 
الاستبداد والانفراد بالحكم سبب مهم للسقوط.
 
ويقول ممرور بن مسرور: كان النصات لا يكف عن الحركة، وما يحصل من خلل إلاّ استدركه، وقال بصرامة القائد وصدق الرائد: أين اليافطة التي عليها عبارات وجيزة: إن الإنسان إذا طال عليه التهميش يصبح كالبهيمة لا يهمه سوى الأكل والشرب والغريزة. ورفعها أحد الشباب، وكأنها التماعة شهاب، وربما عناهاالشاعر حين قال:
 
وشقّقَ أعرافَ السحابِ التماعةٌ
 
كما انصَدعتْ بالمَشرَفيّ القَوانسُ
 
فقرأ الشاب منها سطوراً مُذهّبات: العدل قبل القانون، والظلم مؤذن بخراب العمران، ولا يكون العدل حيث لا يعدل السلطان، إن المصيبة ليست في ظلم الأشرار بل في صمت الأخيار.
 
ويقول ممرور بن مسرور: جلست على الأرض بعد كل هذا العناء، فرأيت أفراداً من الشرطة يوزعون على جماعة النصات الطعام والماء، وشكرهم وقال ابن لقلاق: شكراً أيها الشرفاء، نحن لم نأتِ للاسترضاء، أردنا أن نقول كلمة حق: سلطان بلا عدل كالنهر بلا ماء.
 
قال ابن مسرور: واصطفت اليافطات وكأنها فرحة نصر، وهتف الحضور بكل فخر: مرحى للنشامى، وقال النصات: عدل قائم خير من عطاء دائم. وفي لحظة خاطفة أومأ للجميع بالانصراف،فالرعاع قادمون كالجراد الزّحّاف..
 
وقال ممرور بن مسرور: ويمم النصات وجهه نحو الجنوب، وعربته تجلجل كالديمة السكوب، والجمع خلفه يغنون ويرقصون، وأنا خلفهم ألهث مدهوشا، ورغم مرارتي كنت مسروراً بشوشا. واقتربت من سيارتي بعد تعب وإرهاق، فوجدت عندها النصات بن لقلاق، ولما رآني غمزني غمزة المشتاق للمشتاق، فأومأت له بالتحية، وما كانت إلا لحظات حتى رفعنا أشرعة الفراق,,
 
يقول ابن مسرور: واحتوانا الطريق وابتلعتنا الشِّعاب، هو خلف عربته وأنا أطارد مرة سراباً وأخرى سحابا، وفتحت الراديو أبغي أغنية فإذا الأثير يحمل حديثاً مستطابا، يا لها من حكاية تشفي الغليل وتكشف الهم، تروي قصة عمر بن الخطاب وجبلة بن الأيهم، التي كانت درساً في العدل وأساسات الحكم، حتى إذا لاحت لي أضرحة الصحابة،وآبّ كل واحد خلف بابه، رأيت النصّات وانياً في حركته، مهدوداً عند عربته، وغنّى غناء المقهور قبل أن ينام:
 
نحن لسنا فقراء
 
بلغت ثروتنا مليون فقر
 
و غدا الفقر لدى أمثالنا
 
وصفا جديدا للثراء
 
وحده الفقر لدينا
 
كان أغنى الأغنياء
 
ثم غطّاه الليل بأسمال الظلام، فغاب فيها كأصحاب الكهف ونام ، وأخذتني الطرقات بعيداً كدروب الحكاية، وصورتُهُ تطاردني من أول الغمض حتى النهاية، ولاحقني الشاعر بقوله:
 
وقال أُصَيْحابي: الفِرارُ أو الرَّدى؟
 
فقلتُ: هما أمرانِ،أحْلاهُما مُرُّ.