Thursday 18th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    28-May-2020

النموذج النقدي وفاعلية الناقد

 القدس العربي-رامي أبو شهاب

إذا ما عدنا إلى أي تنظير نقدي معياري، فإننا سنجد أنّ مفهوم الحكم النقدي ينهض على تصوّر واضح يتحدد بمهمتين: التّفسير للعمل، وإطلاق حكم معياري من حيث الجودة أو الرداءة. هذا المفهوم يعود إلى حقب تاريخية، بدءاً من التّصورات الفلسفيّة اليونانيّة القديمة مروراً بالنقد العربي القديم إلى حد ما، وصولاً إلى النقد الغربي الحديث، مع الإشارة إلى أن بعض المدارس النقدية، سعت إلى التّخفف من مبدأ إصدار الأحكام، والاعتماد على النموذج الوصفي. كلمة (النقد) في القواميس والمعاجم اللغوية لا تكاد تخرج في إحالاتها عن معنى رفض أو قبول الشّخص (المتلقي) لعمل ما بناء، مع تدعيم هذا الحكم عبر عملية التحليل. ولعل من أكثر التّعريفات مباشرة، ما نجده في «قاموس كامبريدج للغة الإنكليزية» حيث يقول: «إن النقد عبارة عن حكم قولي أو فعلي بأن أمراً ما جيد أو سيئ» – هكذا ببساطة- وبناء على ذلك، فإن وعي النّقد غالباً ما يعلق بهذه الذّاكرة الداخلية لكلمة النقد، في حين أن «معجم الدّوحة التاريخي» يرى أن كلمة نقد تعني اختبار جودة شيء، وتمييز الزائف منه.
إن ظاهرة النقد المبني على منطق العلميّة، شاع قبل عقود بما احتمله ذلك من مستويات جدليّة من حيث التوافق أو الرفض، غير أننا لا نرغب في أن نخوض في هذا الأمر من حيث قبوله أو رفضه بمقدار ما نرغب في أن ننطلق من تصوّر يتصل بشيء من حاجات التّأمل في المفاهيم القارة، وهنا لا نعني فكرة السّياق والتلقي بمقدار ما تثير أسئلة النقد وعينا المأزوم، وقدرتنا على تلمّس قيم الجمال أو القبح، كما القيم المطلقة، مع الاستعانة بالخبرة، ولكنْ دائماً ثمة شيء من التّوافق الكلي على أن هذا العمل يوافق توقعنا، أو أننا قادرون على تلمّس مواطن قوته، وهنا تستحضرني مقولة الروائي البريطاني ديفيد هربرت لورنس، الذي يقول بأن «النقد ما هو إلا سرد منطقي للشّعور الذي ينتجه الناقد، انطلاقاً من العمل الأدبي، أو الكتاب»، فقيمة الشّعور تنطوي على قدر هائل الأهمية، من حيث الوقوع على مُثيرات العمل لدى الناقد، الذي لن ينجح ما لم يتمكن من ترجمة وعي الكاتب، وشعوره، فضلاً عن إقامة نوع من الحوار بين العمل، كما فاعلية النقد، على الرغم من منهجية الأدوات وجفافها.
في كثير من القراءات التي تطال الأدب، تؤدي الخلفيات أو المرجعيّات التي يتعامل معها الناقد دوراً في تحفيز عملية اختبار النص، أو أي عمل إبداعي، ولكن على الرّغم من اختلاف هذه المرجعيات، ومدى رغبة أي ناقد في إقحام دلالات العمل في نطاق الممارسة الآلية، يبقى النّص مُتخففاً من هذه الإكراهات، حيث يمارس حضوره في وعي القارئ أو المتلقي، بعيداً عن تصوّر الناقد، وهنا يمكن أن نلجأ إلى نماذج قياسية ذات طابع كمّي لتحديد الأثر الفعلي لعمل ما، ومدى قدرته على توفير غايات عملية للمقاربة، واستثارة الحواس والوعي الفكري لهذا العمل أو ذاك.
 
أهم المصاعب التي يواجهها الناقد، الحرص على توفير الأدوات التي تعينه، وعلى الرغم من أنّ جميع المناهج النقدية ادّعت توفّر هذه الأدوات، ولكن معظم دارسي الأدب أو الإبداع فشلوا في تحقيق الأثر، في حين أن أعمالهم النقدية بدت على قدر مقبول من المتاخمة للنص
 
إنّ أحد معايير النقد، كما شاع في الدّراسات النظرية، توفر ثلاثة ملامح للعمل النقدي: أن يكون تفسيرياً، وعملياً، بالإضافة إلى المعيارية، وبين هذه الاشتراطات ثمة مساحة لكل ناقد كي يمارس قدرته على مقاربة أي عمل، ولكن البعض يغلب جانباً على جانب، بهدف تحقيق الغاية القصوى لمنظور معين، وفي بعض الأحيان ينزلق البعض لتقديم منظور على آخر، ما يفقد بعض الفاعلية النقدية، غير أنّ المعظم يتناسى أن ممارسة النقد أمر مرهق، فهي تتطلب ذلك الوعي بهدف تمكين كل اشتراط تبعاً لحشد كبير من المعارف، ومع أن بعض النقاد يمتلكون حاستهم في إدراك مكامن النص، فإنهم لا يبذلون جهوداً لتحقيق القدر الكافي للإحاطة بكافة التفاصيل، بمقدار ما يتمكنون من تفسير العمل، وإصدار الأحكام ضمن نشاط تطبيقي جاف، وهنا تتمايز القدرات النقدية تبعاً للحاسة، كما الخبرة، أو تلك المهارة التي لا تتوافر لدى البعض، على الرغم من قضاء البعض لسنوات طويلة في أقسام الأدب والنقد في الجامعة، فلا يتمكن الناقد من استثارة حاسة القارئ في نقده، انطلاقاً من طاقة النص؛ بمقدار ما يسعى إلى البحث عن نموذج نقدي ليقوم بتطبيقه، رغبة منه بالوصول إلى أحد اشتراطات النقد التي سبق وذكرناها.
إن أهم المصاعب التي يواجهها الناقد، الحرص على توفير الأدوات التي تعينه، وعلى الرغم من أنّ جميع المناهج النقدية ادّعت توفّر هذه الأدوات، ولكن معظم دارسي الأدب أو الإبداع فشلوا في تحقيق الأثر، في حين أن أعمالهم النقدية بدت على قدر مقبول من المتاخمة للنص، مع توفير أكبر قدر من النّقولات أو المتون النظرية، ولكن بدون تمكّن من الولوج إلى عمق النص أو العمل وحاسته التي كمنت فيه.
في تتبع لسيرة الناقد والمفكر رولان بارت، سنجد أنّ هذا الناقد في مستهل مشاوره البحثي والنقدي، واجه قدراً كبيراً من النقد، أو الهجوم من بعض الأساتذة الأكاديميين، الذين واجهوا طروحاته بالكثير من النقد والسّخرية، لا لشيء إلا لكون رولان بارت استشعر حاسته النقدية، فرفض صيغ العالم المتوفرة تجاه ما يقاربه من نصوص… بما في ذلك تلك الاتجاهات النقدية التي بدت حينها على قدر كبير من النضج، أو الأمان، كما إمكانية التّطبيق على جملة النصوص. يمكن أن نعدّ صنيع رولان بارت بأنه أقرب إلى المقامرة، ولكنها حقيقة كانت أقرب إلى عملية تفعيل وجهة نقدية جديدة، مع الحرص على ألا تتحول الفاعلية النقدية إلى صنم، أو فهم مكرور يستفرغ كل إمكانياته في زمن ما؛ ولهذا كان مؤلف «لذة النص» دائما ما يسعى إلى عدم الركون إلى ممارسة منجزة، إذ كان يبحث دائماً عن مقاربة جديدة، إيماناً منه برفض محدودية اللغة، وهذا يتحقق عبر تفعيل حاسته النقدية، ومن هنا نفسّر تأييد رولان بارت للرواية الجديدة، التي لم تستجب لذائقة البعض من قراء الرواية، كما أنها لم تتمكن من إحداث تأثير حقيقي لدى بعض المشتغلين بالكتابة السردية، ولكن على الرّغم من ذلك، فإن روادها والدعاة لها، وجدوا فيها موافقة لحاجتهم التي تتصل بمنظور مختلف للعالم حينها، بالتضافر مع محاولة تكريس صورة غير نمطيّة لكتابة الرواية… وهذا المنطلق كان يستجيب لتصوّرات رولان بارت، وغيره من النّقاد الذين سعوا إلى مغادرة المناطق الآمنة، أو النأي بأنفسهم عن الاجترار الأكاديمي النقدي.
 
٭ كاتب أردني فلسطيني