الراي - روان العدوان
يُعتبر الإرث الثقافي حجر الأساس للهوية الوطنية، فهو نتاج تراكم حضارات عريقة تعاقبت على أرض الأردن على مدى آلاف السنين. يتميز الأردن بموقعه الاستراتيجي في قلب الشرق الأوسط، حيث تنوعت طبيعته الجغرافية والمناخ المعتدل، مما جعله مركزًا من مراكز الحضارات القديمة.
تُعد تماثيل عين غزال، التي يعود تاريخها إلى أكثر من 8000 سنة، من أقدم التماثيل التي وُجدت في العالم، وقد احتفل بها محرك البحث «غوغل» في عام 2023. كما تُعتبر حضارة الأنباط، التي صُنفت من عجائب الدنيا السبع، مثالًا آخر على الإرث الثقافي الغني، بالإضافة إلى النقوش الصفائية والثمودية التي يتجاوز عددها ثلاثين ألف نقش، والتي أشار إليها المستشرق فيليب حتي في كتابه «تاريخ العرب» كفن حديث سابق لعصره.
تتجلى معالم هذا الإرث الثقافي في الفنون البصرية، مثل النحت والرسم، والفنون الشعبية كالدبكة والدحية والهجيني، بالإضافة إلى الموسيقى والغناء. كما تشمل الأزياء، واللغات، والعادات والتقاليد، والحرف اليدوية، والأدب والشعر الذي تميز به العرب، مما يعكس عمق وغزارة اللغة العربية. إن هذه العناصر الغنية من إرثنا الثقافي تعكس الهوية الوطنية للأردنيين، لذا فإن توثيق هذا الإرث والحفاظ عليه، وتعليمه ونشره، يُعد أمرًا ضروريًا لضمان استمرارية الهوية الثقافية والتاريخية.
إن الحفاظ على هذا الإرث يعكس مدى التطور الذي وصلت إليه الشعوب، ويحميها من الاندثار وعدم تسيسها للغير. وتُعتبر اللغة العربية من أهم العناصر التي تجمعنا كعرب، حيث يتحدث بها أكثر من 550 مليون نسمة، وتحتل المرتبة الرابعة بين لغات العالم، وهي من أغنى اللغات في العالم، ويعود تاريخها إلى آلاف السنين.
كوني مقيمة في مدينة جنيف، سعدت بإقبال الأجانب على تعلم اللغة العربية، إلا أنني ألاحظ أن الجيل الجديد في الأردن بدأ يتجه نحو دمج لغات أخرى مع اللغة العربية، مما يعرضها للاندثار. لذا، من الضروري التركيز على أهمية اللغة العربية وتشجيع الطلاب على التحدث بها، خاصة في المدارس الخاصة في الأردن، من خلال ربطها بالحضارات العربية القديمة مثل الأنباط وحضارة تدمر، التي كانت تنافس حضارة الإمبراطورية الرومانية قديمًا.
لقد كانت اللغة العربية لغة الحضارات القديمة، ولكن لتعزيز هذا الفخر بالماضي، لا بد من دعم الكفاءات الأردنية وتشجيعها ودعم المبدعين في كافة المجالات، وتعزيز الصناعات الوطنية والابتكار، وإطلاق مسميات عربية على الابتكارات والصناعات الوطنية، حتى يشعر الجيل الجديد بالفخر بلغته الأم.
لنشر لغتنا الأم والحفاظ عليها، لا بد أن نركز على الإنتاج، حيث أنه لا يمكن للدول المستهلكة نشر ثقافتها بالخارج. إن الصناعات تحفز عملية التفكير والإبداع لدى الأفراد، وتخلق جيلًا واعيًا ومسؤولًا يساهم في نهضة مجتمعه. نحن نشهد في الوقت الراهن التطور الذي كان على وعي به جلالة الملك عبد الله الثاني، حفظه الله ورعاه، من خلال تأسيس مركز الملك عبدالله الثاني للتصميم والتطوير وغيرها من الصروح العلمية التي أصبحت محط اهتمام الدول المجاورة والمتقدمة.
وبما أن للفن فائدة ملحوظة في جميع المجالات، فإنه من الضروري الإلمام بعناصر التصميم والجمال لدراسة أي تخصص، سواء كان الطب أو الهندسة أو غيرها من المجالات. إن عملية التذوق الجمالي ضرورية في المجتمعات المثقفة، لأهميتها في تعزيز عملية الابتكار، وكذلك لأهميتها في تعزيز القوة الشرائية ومساهمتها في استقطاب السياح. كما أن الفن يساعد على صقل النفس البشرية وله نواحي علاجية نفسية عديدة. تذوق الفنون يخلق جيلًا راقيًا يفضل الحوار والنقاش على العنف والضوضاء، لذا فإنه من الضروري ايضا تدريس مادة تاريخ الفن في المدارس.
إن إيصال فكرنا وتراثنا إلى الآخرين يساعد في دعم المنتج الوطني، وذلك من خلال التركيز على عمليات التبادل الثقافي بين الأردن والدول الأخرى، والمشاركة في المعارض الدولية في الخارج. كما ان دراسة ثقافة الآخرين ضرورية لتعزيز عملية الحوار والتواصل، ووضع جدول زمني للتنفيذ على مدى سنوات يعد أمرًا مهمًا لضمان نجاح نشر هذا الإرث العريق.
رغم أن هذا الإرث يواجه العديد من التحديات، نأمل الحفاظ عليه من خلال وسائل التكنولوجيا الحديثة والمتطورة، وبالتعاون مع المؤسسات المحلية المختلفة للحفاظ عليه وتوظيفه بما يناسب متطلبات العصر والحياة الحديثة التي نعيشها. من الضروري أن نغرف من وعاء التراث لنحدد هويتنا التي هي جزء من التراث العالمي. لذا، نرى أن الدول المتطورة توظف الكثير من إرثها في أعمالها الفنية، كما هو الحال في أستراليا التي خصصت فنها المعاصر لرسوم السكان الأصليين، وأبدعت منه لوحات فن معاصر وحرف يدوية عُرضت في متاحف مختلفة، مما ميز هذا الفن ع? غيره في العالم.
إن الإرث الثقافي يخبرنا عن تاريخ الأمة، ونشأتها، والمراحل الزمنية التي مر بها هذا الإرث وتطوره. إن هذا الإرث يحفظ القصص والتجارب التي عاشها أسلافنا، والتي تشكل حلقة وصل مع الثقافات الأخرى. التسلسل التاريخي ضروري لفهم المجتمع المعاصر وتشكيل الطموحات المستقبلية.
فيا حبذا لو أننا نتبنى نهجًا متوازنًا يضمن الحفاظ على التراث الثقافي مع الاستفادة من الابتكارات والتغيرات الحديثة. من خلال هذا التوازن، يمكننا ضمان استمرارية الهوية الثقافية للأجيال القادمة. إن الفنان الاردني يأمل أن تتبنى المؤسسات والصروح الثقافية نشر إرثنا الثقافي وتقديمه بشكله الحضاري، على غرار المؤسسات والمعارض الدولية المعاصرة التي تقام في الخارج، والتي يؤمها الطبقة المثقفة وذات القوى شرائية، للاطلاع على اعمال الفنانين واخر ابتكاراتهم، ولاستكشاف مواهب جديدة، لإغناء مشهد الفن التشكيلي.
إن دعم الفنان الأردني وتقديره، والذي يُعتبر سفيرًا ومرآة لبلده الأم في الخارج، هو أمر بالغ الأهمية، حيث إن الدول المتقدمة تفخر بفنانيها في الخارج، وخاصة الذين نهلوا من إرثهم الثقافي.
(فنانة تشكيلية مقيمة في جنيف)