الدستور-غسان إسماعيل عبد الخالق
حينما مالت شمس الحضارة العربية إلى المغيب - خلال تلك الحقبة الزمنية الطويلة التي اصطلح على تسميتها بالعصور المتتابعة أو عصور الدويلات والإمارات أو عصور الانحطاط- تصاعدت حركة التأليف كميًّا لكنها تراجعت نوعيًا؛ فتكاثرت الشروح والملخصات وشروح الشروح وملخصات الملخصات حتى دفنت المتون والأصول، وطفت على السطح ضروب من ثقافة الهوامش والفروع التي تمثل انعكاسًا من الدرجة الخامسة أو السادسة أو السابعة، لعلوم الكلام أو الفلسفة أو التصوّف أو اللغة أو النحو أو البلاغة وحتى العقيدة، على نحو تراجيدي يذكرنا بنظرية الكهف العتيدة عند أفلاطون.
وحين نستعرض مسيرة الأطر المرجعية العربية الناظمة للاستشراق والمستشرقين، بدءًا من جرجي زيدان وصولاً إلى يحيى مراد، يمكننا القطع بأن قدرًا شبيهًا قد خيَّم على سيرورة هذه الأطر التي تباطأت جدًا من الناحية الكمية -بدءًا من عام 1914 حتى عام 1965- لكنها حافظت من الناحية النوعية على رصانة يصعب التنكّر لها، ثم راحت تتصاعد كميًا منذ عام 1980 ولم تلبث أن مالت تدريجيًا إلى الضحالة والتلفيق نوعيًا منذ ذلك الوقت؛ فاختفت روح الابتكار والتجديد وتغلّبت نزعة الجمع وإعادة الإنتاج تحت مسمّيات جديدة باهرة، وذلك بالتزامن مع هيمنة ثقافة السوق التي غدا القارئ الجديد وفقًا لها، مجرّد مستهلك عابر لسلعة عابرة، يجب ترويجها بالسرعة القصوى، وفقًا لقاعدة العرض والطلب العتيدة.
يقع (معجم أسماء المستشرقين) الذي لم أوفق في العثور على سيرة ذاتية معتمدة لمؤلِّفه، في (741) صفحة من القطع الكبير، ويشتمل على مقدمة موجزة وثلاثة تمهيدات على التوالي هي: دراسة تمهيدية حول ظاهرة الاستشراق، وحركة الاستشراق، وعناية الاستشراق بالتراث العربي. ثم يشرع المؤلّف في التعريف بالمستشرقين وفقًا للترتيب الهجائي المعجمي، فيعرّف بـ(1822) مستشرقًا تحت (24) حرفًا من حروف المعجم، ويردفهم بـ(9) مستشرقين أفردهم بملحق خاص بهم.
ويمكننا تلخيص أبرز ملاحظاتنا بخصوص (معجم أسماء المستشرقين) على النحو التالي:
أولاً: مع أن المؤلّف والناشر قد التزما بتثبيت عبارة (إعداد: الدكتور يحيى مراد) تحت العنوان المبهر (معجم أسماء المستشرقين)، إلا أن هذا الإجراء الاحترازي لا يلغي حقيقة شعور القارئ بالصدمة الشديدة جرّاء اكتشافه ومنذ الصفحة الأولى، حقيقة أن المعجم برمته، ليس إلا عملية احتيال مكشوفة وإعادة إنتاج صارخة لذلك الجهد الموسوعي الرّصين الذين أنجزه نجيب عقيقي تحت عنوان (المستشرقون) بدعوى أن (الأستاذ نجيب عقيقي قسّم كتابه بحسب المدارس الاستشراقية، وبعد تناوله لنشاط كل مدرسة ومراحل تطورها، ومكتباتها، ومتاحفها، ومجلاّتها، وكراريسها وجمعياتها العلمية... إلخ، يورد تراجم المستشرقين من أتباع كل مدرسة، دون مراعاة (للترتيب الأبجدي)! وحتى لو سلّمنا جدلاً بوجاهة هذا المسوّغ، فقد كان الأجدر بالمؤلّف والناشر أن يبرزا اسم الأستاذ نجيب عقيقي على صفحة الغلاف بوصفه المؤلّف الحقيقي الأوْلى بالتنويه، بدلاً من استغفال القارئ ثم مباغتته في الصفحة الأولى بقول معدّ المعجم: (ولا بد لي من الاعتراف بأن هذا العمل على هذه الصورة ليس لي فيه من جهد إلا الجمع والترتيب، وإضافة ما فات الأستاذ نجيب عقيقي من تراجم لبعض المستشرقين الجدد الذين لم يدركهم، أو يكونوا قد ندّوا عنه عند قيامه بعمله الموسوعي «المستشرقون»، فقد اعتمدت على كتاب الأستاذ نجيب العقيقي في عمل هذا المعجم، فقمت بتجميع التراجم الموجودة فيه، ورتبتها على حروف المعجم، ثم أضفت ما وقع لي من تراجم لم تكن موجودة في كتاب (المستشرقون)!
ثانياً: من نافل الحديث القول بأن أحسن ما في هذا المعجم، ممثلاً في التراجم ذاتها، مردّه من حيث الشكل أو المضمون لصاحب الفضل الأوْلى بالتنويه، وهو نجيب عقيقي الذي لم يدّخر وسعًا في استقصاء المستشرقين، والتعريف الموضوعي بهم، دون أن يسمح لعواطفه الشخصية، سلبًا أم إيجابًا، بالتأثير على هذا التعريف، فضلاً عن اعتنائه الشديد بقالب وأدوات التعريف.
ثالثاً: عند التفحص الدقيق لمقدار ما أضافه الدكتور يحيى مراد مما (فات الأستاذ نجيب عقيقي من تراجم لبعض المستشرقين...إلخ)، يتبيّن لنا هزال هذه الإضافة التي لم تتجاوز صفحتين فقط، واشتملت على التنويه السريع والعابر بـ(9) مستشرقين، دون اعتناء حتى بذكر سنوات ميلادهم أو سنوات وفاتهم، فضلاً عن أن بعضهم – على قلّتهم – ليسوا إلا مستعربين أو مفكرين متعاطفين مع العروبة والإسلام. وحرصًا منا على إبراز مقدار السطحية الشديدة التي وسمت هذه الإضافة المدّعاة، نكتفي بإيراد أسماء أعلام هذه الإضافة وهم: جاري واندر/ جاك ريسلر/ روجيه غارودي/ زيغريد هونكة/ سالي مارش/ عبد الله كويليام/ لورا فاغليري/ لويس سيدير/ مارسيل بوازار. ولسنا بحاجة للتذكير بأن كثيرًا من ترجمات نجيب عقيقي لبعض المستشرقين، قد تجاوزت في حجمها ودقتها وثرائها، ما ساقه الدكتور يحيى مراد من معلومات هزيلة، عن تسعة (مستشرقين!) مجتمعين!
رابعاً: وأما ثالثة الأثافي في هذا المعجم فتتمثل في تمهيداته الثلاثة: (دراسة تمهيدية حول ظاهرة الاستشراق/ حركة الاستشراق/ عناية الاستشراق بالتراث العربي) والتي لم يتورع المؤلف عن الاعتراف بأنها ليست له أيضًا: (وقد مهدت للمعجم بدراسة تمهيدية حول الاستشراق ومفهومه، وأسباب اهتمامه بالتراث الإسلامي العربي، وفلسفة الاستشراق في ذلك، وقد اختصرتها من دراسة للدكتور أحمد سمايلوفيتش – رحمه الله تعالى – بعنوان: «فلسفة الاستشراق» حيث أجاد – رحمه الله – في دراسة الظاهرة الاستشراقية). وإذا كنا قد أخذنا على الدكتور عبد الرحمن بدوي تهاونه الشديد في التقديم لـ(موسوعة المستشرقين) بمقدمة ضافية تليق به وبها، فإننا لن نتردّد في القول: ليت الدكتور يحيى مراد لم يفعل ما فعل وأبقى (معجم أسماء المستشرقين) دون مقدّمة أو مقدّمات، لأن الهدف المنشود من مقدّمات الموسوعات هو الوقوف على آراء ووجهات نظر مؤلفيها في ضوء خبرتهم الطويلة بالموضوع، وليس الاختباء خلف آراء ووجهات نظر سواهم من الباحثين.
ومع أنّنا نقرّ برصانة جهود الراحل أحمد سمايلوفيتش وميلها الشديد إلى الموضوعية والاعتدال، إلا أننا لا نملك إلا أن نلاحظ تقادم مراجعه بوجه عام، واندراج معظم هذه المراجع ضمن الرؤية الإسلامية بوجه خاص، وبطبيعة الحال... ضرورة الصدوع بحقيقة أن الأطر المرجعية العربية الخاصة بالاستشراق قد وصلت إلى طريق مسدود تمامًا، على الرغم من قوة الحافز التجاري الذي وقف خلف إصدار هذا المعجم الملفَّق من الألف إلى الياء، وعلى الرغم من تصاعد التحديات الحضارية التي من شأنها أن تدفع بالباحثين المعنيين إلى مزيد من الابتكار والتجديد، فكان أن دفعت بهم – بدلاً من ذلك – إلى البحث عن التكسّب السريع بغض النظر عن الموانع الأخلاقية التي تنص على تحريم السطو على جهود السابقين، وإلى الاحتيال الظاهر والمبطن على القارئ والمثقف، حدّ أن الدكتور يحيى مراد لا يجد مانعًا – بعد الإقرار بكل ما أقدم عليه – من الاجتراء على القول: (ولا بد من الاعتراف بأنه قد يشوب هذا العمل بعض القصور، وترد فيه بعض الأخطاء، فذلك شأن كل عمل يعمله البشر، فالكمال لله وحده سبحانه)! وهي آلية تفكير ومنهجية بحث فتح بابها الدكتور عبد الرحمن بدوي وتابعها الدكتور ميشال جحا والدكتور عبد الحميد صالح وختمها الدكتور يحيى مراد، جرّاء السّعار الذي أطلقه كتاب (الاستشراق) لإدوارد سعيد، مع ضرورة تبرئة إدوارد سعيد من الآثار السلبية المعرفية والأخلاقية، التي ترتبت على صدور كتابه باللغة العربية في الوطن العربي.