Thursday 25th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    30-Jul-2021

إضاءات نسوية في المجموعة القصصية «قبل الأوان بكثير» لبسمة النسور

 الدستور-نايف النوايسة

 
لا يشك أحدٌ بأن القصة فنٌ جميل ويحمل جانباً من مسؤولية الأدب في رفد الحركة الأدبية بكثير من الألق والأهمية، وقراءة القصة القصيرة تحديداً يحتاج إلى شيء من الحذر والدقة. أردت أن استهل الحديث عن حركة المرأة في قصص الأديبة بسمة النسور في مجموعتها( قبل الأوان بكثير) بمثل هذه الإشارة، فمن يقرأ قصص هذه المجموعة سيدرك أنه بحاجة إلى يقظة تامة وإحاطة دقيقة بلغة القاصة وأسلوبها ودلالات ما ترمي إليه..
 
ومهما كانت المرأة ذات شان، ولها اعتبارها في المجتمع إلاّ أنها تبحث عن نوافذ ما لتعبّر عن همومها بالتفاصيل الدقيقة التي قد يراها الرجل غير ذات أهمية، وقد يصرّح بتفاهتها، هذا الأمر بالذات لفت نظر القاصة النسور في مجموع قصصها، فنثرت رؤاها ضمن ناظم سردي دقيق حول انشغالات المرأة وما يؤرقها في الحياة، وعالجت ذلك كله بنكهة جمالية خاصة أميز ما فيها هي قدرتها على التوغل إلى مكامن النفوس وبعثرة ما يعتمل فيها من تشوهات واعتلالات ثم الانعطاف إلى بؤرة العقل مما يجعلني أقول بصراحة: إن الأديبة النسور تلتزم موقفاً فكرياً تقدمه بثوب جمالي قشيب.
 
ففي قصة (خسارات) تبثّ الشخصية الرئيسة همومها لصديقتها وكل ما تعرضت له من مصادرة إلى حد المؤامرة في بيتها ومكان عملها، وتؤكد أنها مستهدفة، وتريد أن تقنع صديقتها بأن ألمها من هذه المؤامرة مضاعف، فأفراد أسرتها صادروا خصوصياتها حتى أحالوها إلى كائن استثنائي، ومثل ذلك بعد أن استقالت من عملها ولم تعد تملك سلطة خارج البيت.. هذه خسارات متلاحقة جعلت منها امرأة مأزومة قلقة غير متوازنة فهرعت إلى صديقتها تلتمس عندها السكينة وبعض التعاطف والنصرة لخصوصياتها المسلوبة.
 
أما المرأة في قصة (مواجهة) فهي مسكونة بالرعب وتسعى جاهدة لتتمكن من جلاء صورتها حين قفزت داخل سيارة الأجرة وطلبت من السائق بأن يطارد السيارة الزرقاء المندفعة أمامهما لتكشف كُنهَ امرأة داخلها، ويمتثل السائق لطلبات المرأة مع إحساسه بأنها تعيش أزمة ما.. وحين تحاذت السيارتان وطلب السائق من المرأة بأن تتمعن من شعر امرأة السيارة الزرقاء اكتشف أن هذه قد أغمضت عينيها ولم تعد مهتمة بالأمر..
 
هي قصة المفارقة والدهشة والغرابة، فالمرأة فيها إنسانة مضطربة وضائعة.
 
أما حين يعيش الإنسان الوهم ونراه ينصت إلى ما تقذفه النفس من أوجاع فعلينا أن نتوقع العجب، ففي قصة (الأنين) نجد الرجل مختطفاً لصراع خفي يعصف به علي شكل أنين ينبعث من مكان ما، واحتار كثيراً، أهو من داخل غرفته ام من خارجها أم من داخل نفسه، وأطل من النافذة تحت وطأة القلق ورأى جارته وأراد أن يورطها معه بهذا الأمر، واشتبك معها في لغط من أجل الإمساك بخيوط هذا اللغز؛ هذه المرأة الفاتنة مثيرة ومقلقة، فسألها عن الأنين فلم تجبه لأنها منشغلة بعالم غير عالمه، فأغلق نافذته واستلقى على سريره وفوجئ بأن الأنين قد أختفى، فأسرع إلى النافذة وفتحها مرة ثانية ليتواصل من المرأة.. لم تكن موجودة حينذاك فناداها لكنها اختفت نهائياً فشعر بالخيبة، فعاد الأنين مرة أخرى..
 
ونعلم أن نفوسنا تنطوي على عوالم غامضة وأسرار دفينة، وما المرأة هنا إلا عمل تحريضي محفّز على سطح النفوس المسكونة بالقلق والوهم.. المرأة هنا هي نظير الوهم الذي انبعث مع الأنين.
 
وبين كلمتي: (كفى وكفن) مشترك لغوي، وتحملنا القاصة النسور على أجنحة هذا المشترك في قصتها (كفى)، لتضعنا مع زوجين وجدا نفسيهما أمام فجوة خطرة فقدا عندها دفء الحياة الزوجية، وفتحت القاصة سجلاتها كشاهد لتقييد رواية الرجل ورواية المرأة وبعد ذلك الرواية الرسمية، ووضعتنا بعد ذلك أمام العقل لنكتشف الحقيقة من خلال المقارنة بين الروايات الثلاث، وتحمل القصة معنى الإدانة لكل طرف، وبالمجمل كان الرجل والمرأة هما الضحية حين فقدا الحرارة الزوجية فماتا حرقاً... لكنني أقول أن الضحية/هي المرأة لأنها ماتت ثلاث مرات، أولاها موت المؤسسة الزوجية حين فارقها الدفء والسكينة، وثانيهما حين ماتت خنقاً على يد زوجها، وثالثهما هو موت جثتها حرقاً عند اشتعال البيت بالنار النار التي تسببت بها المدفأة حين قلبها الرجل لحظة خلافه مع امرأته، بحيث ضاعت الحقيقة وعُمّي ذلك على الرواية الرسمية.. حالة فزع عاشتها المرأة وأبدعت القاصة بتصويرها بأسلوب تفرّدتْ به وهي تنقلنا على حبل التوتر إلى النهاية المؤلمة.
 
وفي بعض التفاصيل ما يثير الضحك، إلاّ أنها تفاصيل فاضحة لا بل قاتلة، فما حصل بين الزوجين في قصة (كي لا يأتي الازدحام) يثير موجة من الأسئلة، لكنها وإن بدت تفاصيل تافهة فإنها فعلت فعلتها في تعميق الفجوة بين الزوجين اللذين اختلف منذ عشر سنوات على أحقية من ينام على الجهة اليمنى للسرير، فتنازل الرجل لزوجته راضياً كي تستمر الحياة الزوجية.. ذات زمن استيقظ من نومه ولم يجد زوجته ناداها وبحث عنها، لكنها قبل المغادرة تركت بصمتها على أشياء كثيرة يختلفان عليها دائماً.
 
اختفت المرأة تماماً، وبدأت الأسئلة تجتاحه ليصل إلى سر اختفائها، وتذكر أنه في الليلة الفائتة انتقد بطنها المتدلي وانتفاخ وجهها بشكل قبيح، وقرأ في تقاطيع وجهها عدم الرضا.. ربما يكون هذا النقد جرح مشاعرها..
 
وهو غارق في هذه الدوامة هاتفته بحنان وسألها عن مكانها، فقالت إنها في البيت.. وذُهل الرجل، وذكرته بأمور كثيرة قذفته إلى عمق المتاهة، وما تبع ذلك من أحداث يكشف عن مأساوية النهاية التي أدت إلى هذا الفراق..
 
الأديبة النسور تتقن فن التوتير وتوريط المتلقي بالمتابعة والاندماج مع تراتيب الحدث والمشاركة بطرح الأسئلة السابرة.
 
ويجلد الرجل ذاته في قصة (ما بعد الغياب)، إذ أنه كلما ينظر إلى صورة زوجته التي ماتت قبل أشهر يواجه بنظرة التأنيب ذاتها التي تشعره بالغباء، ثم يعيد النظر في الصور جميعها ليكتشف ذات النظرة، فغادر الحجرة إلى المطبخ ليقرأ رسالة ابنته التي وجهته لطعامه في الثلاجة وأنها سوف تتأخر.
 
وبدا الألم واضحاً على تصرفات الرجل الضائع بين امرأته المتوفاة وابنته المنصرفة إلى شؤونها، فيحس بالوحدة تنهشه فتعصف به الذكريات وتحاصره حركات زوجته وحضورها الطاغي فيحزن ويبكي لأنه أحس بالفقد عندما خنقته الوحدة. والأنكى من ذلك هو تسامحها معه حين علمت بأنه يخونها، فيُظهر ندمه على تلك الفعلة وإنْ بررها بحياته الزوجية التي اعتراها الملل، وحين جاء ابنه من الخارج واستأذنه لاستقبال أصدقائه في البيت وقد كانت أمه تأذن له فوافق الأب..
 
ويحاول الاتصال مع أصدقائه فلم يجد أرقامهم في هاتفه ولم تسعفه الذاكرة برقم أحد منهم، حتى أنه لم يجدها في الدفتر.. بمعنى أنه مات بعدها وإن بقي حياً..
 
وفي القسم الثاني من كتاب الأديبة النسور تُطل علينا المرأة من بين سطور قصصها القصيرة جداً، وكأنني ألمح قدرة القاصة على صناعة الفرح على سطح البراءة وعدم تحطيم الطفولة على صخرة الكبار، ففي قصة (جِنّيّة) أجد استخداماً ذكياً للميثولوجيا لتزرع الفرح داخل نفس الطفلة التي فقدت سنها اللبني. ومثل هذا فعلت في قصتها( حزم) حين قررت الزوجة مغادرة بيتها نهائياً، فحلّقت بعيداً في أجواء حرة لا رقيب عليها ولا حسيب، لكنها أحست بالاختناق من هذا الانفلات فوجدت علاجها الوحيد هو العودة إلى زوجها، فالبيت هو الحياة.
 
وتريد كاتبة القصة في قصة (تواصل) أن تستمع لرأي صديقتها الوحيدة بقصتها قبل إرسالها للجريدة، فتعيش مع الصديقة لحظات حميمة وبقفزات سريعة داخل الناظم الحكائي للقصة..
 
أما مرض التسوق وسيطرته على عقول البعض فأخذ الأديبة النسور إلى بؤرة الضوء الكاشفة، فالسيدة في قصة (تسوق) تشتري من المتجر الكبير حاجات لا ترغب بها.. إنه دافع الضجر من الحياة، وإن الرتابة في التعامل معها يقود إلى مثل هذا الاسترقاق القاتل..
 
وتمثل قصة (مطر أبيض) معاني الهامشية في العلاقة بين رجل غريب الأطوار وامرأة رضيت لنفسها أن تكون بمثل هذه الصفة حين سمحت لهذا الرجل بأن ينثر زهر الياسمين عليها، وعندما انشغلت بإزالة الزهور عنها فتشت عن الرجل فلم تجده.. علاقة سريعة تدل على عبثية اللقاء ووضاعته.
 
ومن الدارج في مجتمعاتنا أن النساء إذا كنّ في لقاء فلا نحصد من جراء ذلك إلا الثرثرة، وتكشف لنا قصة (صمت) ما دار بين ثلاث سيدات في مقهى، الأولى ستكف عن الحب حتى لا تقع في الخيبة مرة أخرى، وتفلسف الثانية موضوع الحب فتلح على أن حالة الحب أهم من الحب نفسه، كي لا ترتبط برجل تعيش معه الملل طوال العمر، وأما الثالثة فلاذت بالصمت واكتفت من حرارة اللقاء بالتمتع بحرارة القهوة.. هي هموم تقفز من باطن الشعور النسائي كما تقفز الموجة من عمق البحر لتتكسر على الشاطئ.. هو الفراغ وفائض الوقت يحيلان حياة هؤلاء النسوة إلى كرات متدحرجة على رصيف الملل.
 
وتوصلت القاصة إلى أن حياة المرأة والرجل لا تستقيم على نحو مثالي إلاّ إذا عاشا دفء الحياة الزوجية بوعي وسمو، وتكشف لنا قصة (مدى) أن المرأة التي عاشت الحرية بكل مدياتها ستتورط في كابوس الملل وستحاصرها الوحدة، فلا مناص بعد ذلك من العودة للرجل الذي ينتظرها وقد عاش الكابوس نفسه.
 
وفي (أيلول) نرى الرجل متسامحاً مع زوجته حين منحها الحرية الكاملة لتكون سيدة نفسها عند غيابه، وهذا ما يضاعف حبه لها، ويتكشف لنا أن المرأة لا يمكن أن تعيش بدون رجل، تماما كالأشجار التي نثرت أوراقها احتجاجاً على غيابه.. ربط جميل بين المرأة والشجرة، فهما كائنان مرتبطان بالثمر والربيع والحياة.
 
وتبني القصة/ الوصمة حائطاً أمام براءة الطفلة في قصة (عند عتبة ما) حين ظلّت الطفلة مسكونة بمقولة أخوتها العابثين بأنها ليست أختهم وإنما هي مجرد ابنة ألقتها المتسولة عند عتبة بيتهم واحتوها وأرضعتها أمهم، وكانت أمهم ترد مقولتهم العابثة، وتؤكد لابنتها بأنها ابنتها حقيقة، وتموت الأم ويكبر الأولاد ويتفرقون ولكن البنت تظل حبيسة قفص الوصمة الذي ظل ملازماً لها..
 
ومن الثابت أن التسلط يحرف الحقائق عن مسارها، فتتشكل العقد داخل النفس جراء ذلك، وفي رصد القاصة النسور لانفجار الأنوثة في قصة (أنوثة) نرى تتبعاً سريعاً وذكياً لفوران النمو وكيفية الانعتاق من أكمام البراءة إلى فضاءات البحث عن إجابة.. و‘ن بزوغ مظاهر الأنوثة هي بداية تسلم مفاتيح الحياة وحيازة بطاقة الخصوصية..
 
وخلاصة الأمر..
 
تتسم قصة الأديبة بسمة النسور بسرعة انصبابها بدون تعثّر في لغة القص وفنياتها، كما تتميز في قدرتها على محاصرة خبايا النفس بدون تلكؤ.. لتضعنا أمام وجع المرأة وقلقها وخوفها من الملل والوحدة ورغبتها المطلقة في الانعتاق من أية قيود ثم انعطافتها الحادة نحو الرجل لتصحيح مسار الحياة المشتركة دون أن ينفرد أحدهما بقراره الأحادي..
 
قصة الأديبة النسور نقش متقن على جدار الأدب في الأردن وتكشف لنا فيه المخفي في النفس، والمختفي وراء أستار المسلمات وهاجسها.. بمعنى، أن نقشها يذهب إلى تفكيك هياكل نظنها ثابتة وتبدو مستقرة على السطح فتطيح بها وتعيد ترتيبها من جديد وفق رؤيتها الفكرية.