Saturday 27th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    13-May-2022

عتبة التقديم والعنوان القصصي

 الدستور-د. مولود مرعي الويس

 
تعدّ عتبة التقديم من العتبات المهمة في النص الأدبي عموماً، حين يضع الكاتب مقدمة معينة لكتابه أو يكلف آخر لكتابتها بحسب الحاجة والمناسبة، وتحاول هذه العتبة أن تقدم رؤية تربط بين العنوان والمتن بشكل من الأشكال، ويمكن النظر في المجموعة القصصية الموسومة (ذلك النهر الغريب) للقاص نجمان ياسين وقد وضع لها مقدمة لها علاقة وطيدة بعتبة العنوان، حتى لتبدو عتبة التقديم وكأنها خريطة عمل لعنوان المجموعة وعناوين قصصها أيضاً.
 
القاص نجمان ياسين من القصاصين الذين يعطون أهمية خاصة لعناوين قصصهم كون العنوان عتبة أساسية تكشف عن فضاء القصة، وفي هذه المجموعة المهمة يضع عنوان (ذلك النهر الغريب) في توّجه واضح نحو (النهر) بصفته (الغريب)، وعلى الرغم من أن لفظة (النهر) من الألفاظ التي تتكرر كثيراً في أجناس الأدب جميعاً، غير أنها في هذا العنوان القصصية ومن خلال الصفة (الغريب) تكتسب بعدا جديدا له معانٍ كثيرة، حاول القاص في مقدمته التي وضعها لهذا الغرض توضيح هذه الرؤية العنوانية من خلال مجموعة من الوحدات التي وردت في عناوين قصص هذه المجموعة.، وأبرز هذه المعاني تتأتى من أبرز هذه الوحدات التي يمكن إجمالها في (النهر/الطفولة/المدينة/الموروث الشعبي).
 
وسنحاول إظهار قيمة عتبة التقديم في علاقتها بعتبة العنوان، وهو قد قسّم المقدمة على شكل فقرات بحيث تقوم كل فقرة بتوضيح جزء من الرؤية العنوانية للمجموعة، فهو في الفقرة الأولى من المقدمة يصف علاقة القصص بالطفولة وكل ما يحيط بها من تفاصيل، وما أكثر التفاصيل في رؤية الطفل للأشياء:
 
(قصص تحاول أن تستوحي الرؤية الطازجة والبكر لعالم الطفولة والمراهقة الأولى، من خلال عين الطفل أو الصبي الذي يتعامل مع الأشياء بكل حرارة ودهشة الأعماق بعيداً عن تصورات ورؤى وقوانين عالم الكبار المفروضة قسراً من الخارج.)
 
إذ هو يركّز على (الرؤية الطازجة والبكر) المرتبطة بعالم الطفولة والمراهقة الأولى حيث تدور كل قصص المجموعة حول هذه الرؤية، ويركّز على (عين الطفل أو الصبي) كأنها عدسة كاميرا ترصد الأشياء بشغف ورغبة وحرارة ودهشة، حيث يبقى هذا المناخ حاضراً بعيدا عن عالم الكبار الذي يعزل كل مفردات دهشة الأعماق، فلو نتابع شخصيات القصص سنجد أنها شبه مسحورة أو مندهشة بما ترى وتلاحظ من مشاهد ومرئيات وصور، وتتعامل مع ما ترى تعاملاً قائما على حرارة الإعجاب والاندهاش والغرابة، بحيث تتحول المدينة إلى مصدر هائل من إنتاج الصور لا ينتهي ولا يتوقف أبداً.
 
تشرع عتبة التقديم في تكبير صورة شخصية الطفل والكشف عن خصوصية هذه الشخصية وطريقة تعاملها بما يناسب طبيعة المواقف:
 
(الأطفال والصبية هنا يجلبون معهم قواعدهم الخاصة ويرحلون في الأسطورة، الخرافة والأمثال الشعبية، يحطمون صوت المنطق البارد، ويتآلفون مع بعضهم عبر أحاسيسهم الصادقة، يكشفون زيف وتراخي عالم الكبار، ويكتشفون مدن الحلم والرحيل إلى المستقبل.)
 
فتبرز هنا المفردات الحاضرة في كل قصص المجموعة تقريباً (الأطفال/الصبية/الأسطورة/الخرافة/ الأمثال الشعبية)، وتحضر أفعال الأطفال الجمعية (يحطمون/يتآلفون/يكشفون/يكتشفون) لبناء صورة تخص عالمهم، ويمكن حصر نشاط الشخصيات (الأطفال) بين الفعلين (يكشفون/يكتشفون) وهما فعلان يعمل أحدهما بعكس الآخر، فالفعل (يكشفون) يتعلق بالكشف عن نموذجهم الخاص بالآخر (زيف وتراخي الكبار)، في حين يعمل الفعل الثاني (يكتشفون) على التوجه نحو (مدن الحلم والرحيل إلى المستقبل)، والفعلان على هذا الأساس يقدّمان عملين مزدوجين خارجي وداخلي يؤسس لعالم الطفولة في التعامل مع الآخر والذاتي معاً.
 
ثم في فقرة أخرى تظهر (المدينة) التي تحول شخصيات الأطفال إلى (أبطال) في تعاملهم من مفردات الموروث الشعبي والديني والسحري:
 
(الأبطال هنا يعيشون في مدينة واحدة، في منطقة غنية بالموروث الشعبي والديني والسحري. بقدر ما هي مدينة تعاني من اختناق سياسي واقتصادي واجتماعي، المدينة والمناخ هما البطل الأساس، والأبطال يظهرون في أكثر من قصة من خلال زاوية التقاط مختلفة.)
 
لهذا يقول القاص في هذه الفقرة من عتبة التقديم (الأبطال يظهرون في أكثر من قصة من خلال زاوية التقاط مختلفة)، فتصبح عملية الطفولة بطولة قصصية يقول عنها القاص (الأبطال يظهرون في أكثر من قصة من خلال زاوية التقاط مختلفة)، يظهرون في عتبات العناوين وفي متون القصص ليصوروا مشاهداتهم ذات القدرة على الالتقاط من زوايا نظر مختلفة، ومن ثمّ ينتقل إلى وصف الحالة القصصية للبطل الطفل لاستعادة ما أخذته المدنيّة من براءة وعفوية وفولكلور تمثل الينبوع الأول:
 
(ثمة محاولة في هذه القصص، تستهدف العودة إلى البراءة الأولى، إلى الينبوع الأول، محاولة تسعى من أجل تقييد المعالم الأثرية والقيم الشعبية والفولكلورية التي بدأت تندثر بفعل هجوم المدنية التي تجهز وبخشونة على معطيات مهمة تدخل في تركيب الشخصية الوطنية والقومية.)
 
للوصول إلى تقويم أولي لهذه المجموعة القصصية في طرافتها وجدّتها، وهي تقوم بمشروعها في تقديم الطفل كبطل حقيقي لهذه القصص ممثلاً لهذا النهر الغريب:
 
(لعلّ -ذلك النهر الغريب- أول مجموعة قصصية تقدم الطفل والمراهق كبطل ضمن مناخ عام شديد التعقيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي المرتبط بإشكالات الموروث الشعبي والأسطوري.)
 
لتكون هذه القصص في عناوينها المختلفة استجابة موضوعية ومكانية وشخصانية لما قدّمته المقدمة من بيانات وملاحظات وتوصيفات، تحت أجواء العنوان الكلي للمجموعة القصصية (ذلك النهر الغريب) وتفرع إلى عناوين صغيرة جاء كل عنوان على رأس قصة من القصص، داخل ثلاثية (النهر/المدينة/الطفل) التي تسيطر على الأجواء السردية العامة للقصص في إحالتها على هذه العوالم والمناخات.
 
العنوان في قصة (جوار قصر شاهق) يتحدث عن المكان المضاد بالنسبة للوضع الذي يعيشه الأطفال الفقراء، لذا تأتي العنونة بهذه البهرجة الوصفية (قصر/شاهق) حيث تعبر (شاهق) عن صورة التكبير الحاصلة في ذهن الطفل الرائي حول القصر، في إشارة واضحة إلى حجم الفرق الكبير بين البيوت التي يسكنها هؤلاء الأطفال وهذه القصور الشاهقة.
 
وفي قصة (نداء الريش والحليب) تبدو الإحالة واضحة إلى وعي الطفل وحلمه في الصوت الصادر من بعيد (نداء)، والمضاف إليه (الريش) الذي يحيل على الطيور وحريتها في التعبير عن نموذجها، وكذلك المعطوف عليه (والحليب) في إحالته على منطقة لها علاقة وثيقة بالطفولة من حيث المعرفة والتناول.
 
عنوان (المنارة) أيضا يعمل على صورة المكان الذي يحتل مكانية مميزة في ذاكرة الأطفال الأبطال من حيث العلو والتأثير والقيمة الاعتبارية، أما عنوان قصة (مملكة المعجزات) فيحيل على عالم الطفولة الزاخر بالأساطير والخرافات والموضوعات الخاصة بالموروث الشعبي في مدينة (الموصل) التي هي المحور المكاني لهذه القصص.
 
عنوان قصة (البكاء) مكونة من اسم معرفة يصور إحدى الحالات الإنسانية التي تخص البشر جميعاً ولا سيما مجتمع الأطفال، وهي وسيلة من وسائل الدفاع عن النفس لدى الأطفال كما تحاول القصة أن تلمح إلى ذلك من خلال حدثها الخاص، ويعمل عنوان قصة (اللصوص) على الصيغة العنوانية نفسها في هيمنة مفردة واحدة اسمية على العنوان القصصي، وهو عنوان جميع يتحدث عن عالم الطفولة الفقيرة من خلال تكبير الدلالة العنوانية وتوسيع حدود عملها، وتدخل العنونة في قصة (الطائر يا صديقي) بصورتها الحوارية إلى عالم الطبيعة الحر وعلاقته بفضاء الطفولة، حيث يأتي العنوان هنا على درجة عالية من الألفة التي تعكسها لفظة (يا صديقي) على مستوى حرف النداء والمنادى معاً.
 
يعود عنوان قصة (في الظل.. تحت الأشجار) إلى المكان في المدينة بحضور ذلك النهر الغريب كي يقدم الشخصيات (الأطفال/الأبطال) بشكل آخر، ويعود عنوان قصة (الحدث) إلى الحالة العنوانية المفردة التي أخذت حصة كبيرة في المجموعة، وتحيل على الحكاية التي يقوم بها الأطفال كما حاول التقديم أن يصورها في عتبة التقديم التي فسّرت أشياء كثيرة.
 
إن العلاقة بين عنوان المجموعة الذي يحتوي عناوين القصص والتقديم الذي قرّب بين هذه الوحدات البنائية القصصية هي علاقة وثيقة، من خلال عالم الطفولة الذي هو العالم الأساس في قصص المجموعة، وتحضر بقوة مفردات النهر والمدينة والطفل وما يتصل بها من فضاء مكاني وموروث شعبي وخرافات وأساطير، بحيث استطاعت قصص المجموعة بعناوينها ومتونها أن تعكس عالماً طفلياً متكاملاً على مستويات كثيرة، ولهذا نجد أن العنوان الكبير (ذلك النهر الغريب) هو عنوان خاص احتوى عناوين القصص وفتح لها مجالات كثيرة للحركة والحرية، وقد اكتملت الصورة في هذه العلاقة السردية المتعددة الأطراف.
 
(*) ذلك النهر الغريب، نجمان ياسين، دار غيداء للطباعة والنشر والتوزيع، عمّان 2021.