Thursday 25th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    22-May-2020

يسار محافظ: هل سنشهد ثورة ثقافية بعد كورونا؟

 القدس العربي-محمد سامي الكيال

تعقب الكوارث الكبرى عادة، تغيّرات جذرية على كافة المستويات، خاصةً على المستوى الثقافي، فوعي البشر لعالمهم وعلاقاتهم الاجتماعية وقيمهم الأخلاقية والجمالية يتبدّل بشدة، مع انقلاب ما هو اعتيادي ومألوف في حياتهم، وتبرز أسئلة عديدة عن ماهية «الخطيئة» في نمط الحياة القديم، التي أدت إلى انهيار كل شيء بشكل مفاجئ. الجواب بالعادة يكون غضبَ كيان متعالٍ ما على البشر الخطاة، الذين ابتعدوا عن القيم الصحيحة في تعاملاتهم وممارساتهم الحياتية.
إلا أن فكرة الخطيئة والعقوبة هذه لم تعد مسيطرة بشكل كبير في الشرط الحداثي، فالمنظور العلمي والسياسي السائد جعل التعامل مع الكوارث مسألة تقنية، تتحملّ جهات معيّنة مسؤولية مواجهتها، وأصبحت الأكلاف الباهظة للكوارث خطأ تحاسب عليه الحكومات والمؤسسات، التي لم تقم بإجراءاتها بشكل ناجح، وليس خطيئة يتحمّل المجتمع بأكمله عبئها. على مستوى آخر اختلف شكل المراجعات لنمط الحياة القديم، فبدلاً من اتهام البشر بالابتعاد عن قيم متعالية معينة، صارت الحركات الثقافية والسياسية الثورية والطليعية، تساءل القيم الاجتماعية السائدة وتسعى لتفكيكها: ليست المشكلة في الابتعاد عن القيم، بل في القيم نفسها.
ولعل المثال الأبرز عن هذا هو الحراك الثقافي الكبير بُعيد الحرب العالمية الأولى، حين حاول الفنانون الدادائيون ومن ثم السيرياليون تحطيم مفهوم الجمال التقليدي نفسه، وناضلت الحركات العمالية ضد القيم السياسية والأخلاقية للبورجوازية، التي تخلّت عن وعودها التحررية، كما استفاد المفكرون من الأفكار الماركسية والفرويدية والنيتشوية، لقلب معظم التصورات القائمة عن الحق والعقل والحقيقة. اعتُبرت الحضارة القائمة بأكملها، بكل قيمها، مسؤولة عن المجازر الكبرى التي خلّفتها الحرب، والمهمة كانت الهدم وليس الوعظ الأخلاقي. ورغم أن هذه الفترة، وما أعقبها من تطورات في القرن الماضي، مازالت تطبع ثقافتنا المعاصرة، إلا أن تغيّراً كبيراً طرأ على نقد الحضارة في أيامنا، خاصة لدى ما يُصنف يساراً. فبدلاً من نقد القيم السائدة يستعيد كثير من المفكرين الأسلوب الوعظي في خطابهم: توجد خطايا ترتكبها الرأسمالية أو النيوليبرالية، أو المجتمع الصناعي، أو الثقافة الاستهلاكية، تبعدنا عن قيم صحيحة معروفة سلفاً. الأكثر إثارة للانتباه إعادة الاعتبار لكثير من أنماط الحياة التقليدية، بوصفها أقرب للقيم التي ضيّعتها المجتمعات الحديثة. فما هي النتائج الثقافية الممكنة لهذا النمط من التفكير، مع أزمة كورونا الحالية؟ وهل يمكن انتظار تطورات ثقافية ملهمة بعد الكارثة الحالية، تذكّر بالثورات الثقافية الكبرى التي عرفها القرن الماضي؟
 
نقد الحياة الاعتيادية
 
هنالك لازمة متكررة في حديث أغلب الكتّاب والمفكرين النقديين، حول أزمة كورونا: الانقطاع المفاجئ في سيرورة الحياة الاعتيادية له بعض الفوائد، وعلى رأسها دفعنا للتفكير بأسلوبنا المألوف في التعامل والسلوك، وأنظمتنا الاجتماعية والاقتصادية. وإذا كانت إعادة التفكير ضرورة لكل طرح نقدي، فإن ربطها بتوقف الحياة نفسها يحرمها من حمولتها النقدية، ويجعلها أقرب للتأمل والوعظ.
سعت معظم الفلسفات الاجتماعية الحديثة إلى تفسير ظهور الأفكار والثقافات وأشكال الوعي الفردي والمجتمعي بالتفاعل اليومي بين الأفراد والمجموعات، فسواء تحدثنا عن علاقات الإنتاج، التواصل في الحيز العام، تقنيات السلطة، أساليب عمل البنى والأنظمة الاجتماعية، فإن تصورات البشر عن أنفسهم وعالمهم، والقيم التي يتبنونها أو يتمردون عليها، تنشأ وتتغير دوماً نتيجة علاقة أو نسق ما. بعبارة أخرى تنبني اجتماعياً، ولا تُستَخلص من أصل معين، تحضر به بشكل قَبْلي. عندما تتوقف الحياة وتفاعلاتها، فإن التأمل والوعي الذاتي، لن يتوصلا إلى أكثر من البحث عن قيم فوق اجتماعية، تدين ما كان قائماً، بوصفه انحرافاً عمّا يجب أن يكون. بهذا المعنى لا يأتي التغيير من ديناميكيات وتناقضات موجودة في الواقع الاجتماعي نفسه، بل من وحي مفارق يدفع البشر للعودة للقيم الصحيحة.
 
يبدو الموقف المحافظ لجانب كبير من اليسار المعاصر واضحاً من تعامله مع الاحتجاجات الاجتماعية المقبلة من خارج التيار الرئيسي، مثل حركة «السترات الصفراء» في فرنسا مثلاً، والتي تمّ استقبالها بكثير من الشك والنفور، على الأقل في أوساط «اليسار» غير الفرنسي.
 
لم تسع التيارات النقدية في ما مضى لإدانة حياة البشر نفسها، أو مطالبتهم بالتوقف عن ممارسات غير صحيحة، بل انتقدت الظروف والبنى التي تستغلّهم أو تقمعهم، ورأت أن التغيير المأمول لن يأتي إلا من علاقات وتفاصيل الحياة الاعتيادية نفسها، بكل «قذارتها» ولا عقلانتيها وذنوبها. المشكلة بالنسبة لهم لم تكن مثلاً في الصناعة، ولكن في استغلال العمال. ليس الاستهلاك سيئاً بحد ذاته، بل «فتشية السلعة» التي تغطي على العمل والعلاقات الاجتماعية المنتجة لكل السلع. اللغة العادية لا تؤسس لبنى تمييزية، ولكن الحد من إمكانياتها التعبيرية والتواصلية، وفرض المحرمات على القول والتعبير، هو الأساس لكل قمع وتمييز. الرغبة ليست مدانة، ولا معنى لثورة أو تغيير بدون تحرير الرغبة. كل هذا أصبح مُتجاوزاً في خطاب معظم اليسار في أيامنا، فيبدو نمو الحياة وإعادة إنتاجها مداناً في كل المجالات، الإنتاجية والثقافية والاجتماعية، ويسعى الناشطون «اليساريون» لفرض القيود والمحرمات حيثما حلّوا. الأهم أن القيم التي يطالبون بفرضها جاهزة وواضحة للغاية، ولا تسامح في نقاشها أو التشكيك بها، بعد أن أُخرجت من كل سياق سياسي وأيديولوجي، متعلق بالتفاعل والصراع الاجتماعي، وصارت مستمدة على ما يبدو من الحقيقة والأخلاق بحد ذاتهما، بوصفهما قيمتين متعاليتين. وربما كان هذا المنظور الأساس لإفراغ «الراديكالية اليسارية» المعاصرة من معناها.
 
يسار رجعي
 
تتسم القيم، التي يطالب جانب من اليسار الناس بإعادة تبنيها، بسمات كانت عادة من الخصائص الأساسية لقيم اليمين المحافظ، فهي أولاً قيم مترسخة في المؤسسات الاجتماعية القائمة: قليلة جداً هي الدول أو الأجهزة الحكومية التي ترفض قيم «الاستدامة» و«التنوع» و«تمكين الفئات الضعيفة». وعلى الأغلب تموّلها عبر «المؤسسات غير الحكومية». حتى على المستوى الاقتصادي لا تبدو المطالب الأساسية لـ«اليسار»، مثل تعميم التأمين الاجتماعي والصحي، مختلفة كثيراً عمّا هو سائد بالفعل في كثير من الدول الأوروبية، مثل فرنسا ودول شمال أوروبا. هذه القيم ثانياً باتت دلالة على الانتماء للفئات الاجتماعية الأكثر تنوراً ووعياً، أي المتن الاجتماعي أو التيار الرئيسي، الذي يصنّف كل ما خارجه بوصفه هوامش منبوذة. بعبارة أخرى باتت قيم اليسار المكوّن الأساسي للثقافة البورجوازية المعاصرة. من جهة ثالثة لم يعد لدى اليسار مشكلة جذرية مع المؤسسات التقليدية، مثل العائلة والكنيسة والطائفة ومجموعات الهوية، بل بات يسعى لدعمها وتمكينها.
يؤسس اليسار المعاصر، وليس اليمين، المجال الأساسي لازدهار القيم المحافظة، المرتبطة بجهاز الدولة القائم، الذي يتم الاعتماد عليه دوماً لفرض التقييدات والتغييرات، التي يطلبها الناشطون اليساريون. والمشكلة الأساسية لدى هذا النوع من اليسار نفاق الدول في تطبيق القيم التي تدّعي تبنيها، وليس في القيم ذاتها. هنا يبدو ذمّ الحياة الاعتيادية غير نابع من رغبة فعلية في التغيير الراديكالي، بل من تأففٍ لابتعاد المجتمعات عن قيمها المترسخة، وهذا من السمات الأساسية للفكر المحافظ، بل والرجعي أحياناً.
 
إمكانيات الثورة الثقافية
 
يبدو الموقف المحافظ لجانب كبير من اليسار المعاصر واضحاً من تعامله مع الاحتجاجات الاجتماعية المقبلة من خارج التيار الرئيسي، مثل حركة «السترات الصفراء» في فرنسا مثلاً، والتي تمّ استقبالها بكثير من الشك والنفور، على الأقل في أوساط «اليسار» غير الفرنسي. كذلك الأمر في التظاهرات المحدودة ضد إجراءات التباعد الاجتماعي، التي تم نسبها، بدون تدقيق كبير، لأنصار نظرية المؤامرة، ولحركات يمينية ويسارية متطرفة. لا يمكن لتغيير راديكالي فعلي أن يبرز من التيار الاجتماعي والثقافي الرئيسي، وهذا كان مبدأ أساسياً لكل الحركات الطليعية في القرن الماضي، التي احتفت بالثقافات المضادة والبديلة والفرعية. فكرة العمل من داخل التيار الرئيسي، التي تم التنظير لها بكثافة منذ ثمانينيات القرن الماضي، بالاعتماد على تأويل معين لكتابات بعض المفكرين النقديين، مثل فالتر بنيامين، انتهت في أيامنا بأن يصبح «الأندر غراوند»، والثقافات الفرعية نفسها، علامة تجارية، متفقة مع القيم البورجوازية السائدة، إلا أن الاحتجاجات المقبلة من خارج التيار الرئيسي في عصرنا تفتقر للخطاب والحد الأدنى من القدرة على التنظيم، ما يجعل التعويل على ثورة ثقافية فعلية، تفكك القيم السائدة، أمراً غير مجدٍ. ربما كان الأجدى، في الشرط السياسي والثقافي الحالي، الدفاع عن الحياة الاعتيادية نفسها في وجه النقّاد المتحمسين: البشر ليسوا مجرّد كائنات آثمة أو جشعة أو ملوثة للبيئة، رفاهيتهم وفرص عملهم ورغباتهم وأنماط تواصلهم ليست ذنباً، والمجتمعات البشرية تستحق مزيداً من النمو والازدهار والحريات. يمكن مماثلة هذا بالنزعة الإنسانية في عصر النهضة الأوروبية: بينما كان الوعاظ الكنسيون يدينون حياة البشر ولغاتهم غير المقدسة وعلاقاتهم المدنّسة، قام المفكرون الإنسانيون بـ«مديح الحمق»، والاحتفاء بكل ما اعتبرته القيم الدينية السائدة مخالفاً لما هو إلهي في «الروح البشرية». وربما يكون هذا وحده الثورة الثقافية الممكنة في عصرنا.
 
٭ كاتب من سوريا