Thursday 28th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    14-Feb-2020

تجليات الإبداع في رواية «حكايات المقهى العتيق»

 الدستور-د. عماد الضمور

 
أجدّ نفسي مرّة أخرى في مواجهة جديدة مع رواية» حكايات المقهى العتيق» التي أبدعها تسعة كتّاب من مأدبا، هذه المواجهة التي تتجدد كلما قرأت في صفحات الرواية، أو أنهيت قرأتها مرّة بعد الأخرى، ذلك أن فكرة الصراع الحضاري الذي تتبناه الرواية تتصاعد تدريجيّاً في ذهن المتلقي أثناء عملية القراءة، بل ومن خلال الشخصيّة الرئيسة (الدكتور مؤاب) الذي انبعث السرد الروائي من خلاله منتصراً لرؤاه الفكريّة، وعمقه الحضاري، وكأن الرواية تضعنا أمام أسئلة لا تقل عمقاً عن فكرتها: مَنْ هي مأدبا؟ ومَنْ هو الدكتور مؤاب؟ ومَنْ نحن؟ سؤال حضاري عميق يهزّ كيان الرواية، ويزلزل وجدان القارئ لها، إنّه سؤال الهوية والإرث والبحث عن الجذور.
 
لعلّ انبثاق فكرة السرد الروائي من نص مؤسس، وشخصية مركزيّة أتاح للسرد الروائي بالانبثاق والامتداد في فصول الرواية، فلولا الموقف الاستفزازي المحرج الذي واجه الدكتور مؤاب في بلاد الغربة (أمريكا) وأمام الآخر السالب لحضارة أمته وإنجازاتها وكينونتها، لما كانت الرواية، وتتابع المشاهد السرديّة في حقب زمنيّة مختلفة.
 
فالدكتور مؤاب هو من أحفاد عائلة  تعود جذورها إلى مأدبا ، هاجرت إلى أمريكا؛ لتجد نفسها في حالة حصار فكري، وصراع حضاري مباشر مع بيئة لا تعترف إلا بذاتها، ومع فكر لا يسمح لسواه بالانتشار.
 
لقد جاء السرد الروائي منبثقاً من الفصل المعنون بنبوءة مؤابية؛ ليسرد من خلالها الدكتور مؤاب حضارة بلاده ناهلاً من إرث تاريخي خصب لا يمكن تجاوزه، ممّا شكّل حافزاً للساردين في الفصول اللاحقة بمواصلة سرد المدّ الحضاريّ الذي تحياه الأمة.
 
لعلّ ممّا يُسجّل للرواية أنها خرجت عن مألوفيتها بأن يبدعها روائي واحد، وهذا المعتاد في كتابة الرواية، وإن كان عبدالرحمن منيف وجبرا إبراهيم جبرا قد كتبا روايتهما المشتركة « عالم بلا حرائط» بما أثارته من آراء متفاوتة بين مؤيد ومعارض لكتابة الرواية بالاشتراك في إبداعها، إلا أننا نجد أنفسنا في رواية « حكايات المقهى العتيق» أمام تسعة كتّاب نجحوا في إحكام البناء الفني للرواية، وصياغة تراكيبها اللغويّة المنبثقة من مشاعرهم، ومعاناة شخوصها.
 
لقد نجح تسعة كتّاب في إبداع رواية تتناول مأدبا(المكان والإنسان) في تسع حقب زمنيّة بدءاً من العصر المؤابي وانتهاء بعهد إمارة شرق الأردن، فكان المكان (مأدبا) جامعاً للرؤى الفكريّة، وباعثاً للقيم النبيلة التي تمثلها هذه المدينة التاريخية، ممّا سمح لشحصية (الدكتور مؤاب) بالتناسل في أجيال تاريخية، وحقب زمنيّة انبثقت من خلالها فكرة الرواية، واكتسبت قوتها التأثيريّة في المتلقي، فضلاً عن قدرتها على توحيد الوجدان الجمعي لمبدعي الرواية الذين وجد كلّ واحد منهم نفسه أمام زمن لا يقل عن السابق في مدّه الحضاريّ ، وإرثه العميق، وهذا ينسجم مع فكرة الفن الروائي في تعدد أصوات الساردين، واستكمال الشخوص لدورهم الحضاري المنوط بهم في الرواية.
 
من هنا فإن الكتابة الإبداعيّة يمكن أن تكون انصهاراً في الأفكار وانسجاماً في الرؤى واسترسالاً في السرد المنبثق من قيمة حضاريّة، وبخاصة أن المكان نفسه هو مَنْ أنبت شخوص الرواية وصاغ أفكارهم، وأمدهم بما يحتاجونه من أدوات فكريّة وحضاريّة قادرة على مواجهة الآخر المستبد.
 
لقد خرج إبداع رواية «حكايات المقهى العتيق» عن مألوفيّة الإبداع الفردي للرواية؛ لينسجم مع الذات الجمعيّة، بل والذوبان فيها، وبخاصة عند التعبير عن بعد حضاريّ موغل في التاريخ، يُسهم في صياغة الهوية الوطنية والاجتماعية استناداً إلى تاريخ متجذر في الوجدان، يحتوي الذات الإبداعية ويعيد تشكيلها في قالب حضاريّ معاصر، ممّا سمح بنضوج البناء السردي، ووضوح المشاعر التي بثتها الشخوص.وعند الحديث عن التقاليد الروائيّة، فإن رواية « حكايات المقهى العتيق» لم تخرج عمّا عرفه الفن الروائي من تقاليد وأسس فنية ،الأمر الذي سمح للرواية القيام بوظيفتها الفكريّة خير قيام، ومن ثم انتقال هذه الفعالية إلى المتلقي.
 
إنّ تقنيات الرواية الفنيّة ورؤاها الفكريّة لا تنمو من فراغ، ولا تنبثق من عدم، بل ترتبط جميعها بموقف المبدع من الواقع، فليست كتابة الرواية هي الهدف، ولو كان ذلك، فليس ما يمنع كلّ كاتب من كتّاب رواية « حكايات المقهى العتيق» من كتابة رواية بمفرده، والانفراد بجعل روايته في حقبة زمنيّة لا تغادرها، لكن خصوصية (حكايات المقهى العتيق) انبثقت من وضوح موقف مبدعيها من حركة الزمن في الرواية، ووضوح الموقف الفكريّ لديهم وقدرتهم على ضبط تجربتهم الروائيّة التي تنهل من معين حضاري مشترك ووعي روائي واضح، ممّا رفد الفكر بمقومات وجوده، والسرد بقدرته على الاستمرار.
 
لقد توافرت في الرواية التقنيات الفنيّة الكفيلة بإبداع رواية؛ فالتخييل ، والسرد، والشخوص، والزمان، والمكان كلها عناصر واضحة في الرواية فضلاً عن وضوح المنظور السرديّ والمعمار الفني فيها.
 
جاءت الرواية رحلة في الزمان بدءاً من العصر المؤابي وانتهاءً بالعصر الحديث؛ لتصيغ الوجدان الجماعي للشخوص في رحلتها لاستعادة هويتها من جديد بعدما تقاذفتها أمواج مضطربة، وهذا يؤكد سطوة الزمن في الرواية، الذي قام بوظيفة توصيلية ساعدت المتلقي في ربط أجزاء الرواية وبالتالي تحديد زمن الكتابة أو الإبداع، حيث يضرب كلّ سرد بجذوره في زمن مختلف،إذ لا يمكن للقارئ الولوج إلى عالم الرواية إلا من خلال الاستمرار الزمني وصولاً إلى الواقع الذي يحتضن زمان التلقي.
 
إنّ نجاح كتّاب الرواية واضح في الاقتراب أكثر من روح مأدبا النابض بالحضارة، وذلك برصد حركة الشخوص من خلال الزمن الذي أصبح مرئيّاً ومجسّداً يتكشّف من حقبة زمنيّة إلى أخرى؛ ليضيء المكان تدريجياً بوهجه الحضاريّ.
 
لقد أظهرت الرواية في مجملها زمناً عظيماً تغيب فيه الحدود الحقيقية للزمن؛ ليتشكّل الفضاء الروائي من وعي عميق بحضارة المكان وبعده التاريخي غير المحدود؛ مّا عمّق من أهمية الزمن الحضاريّ الذي احتوى فصول الرواية، أو حقبها الزمنية المكتنزة بقيم روحيّة سامية قادرة على مواجهة تناقضات الواقع، وماديّة الحضارة المعاصرة.