Friday 26th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    08-May-2020

المقامة الكُورُونيّة

 الدستور-نايف النوايسة

 
تَواصلَ معي ممرور بن مسرور على (الواتس) وقال: أنا قادم إليك. فلما أطَلَّ بعد غياب، فرحتُ وأي فرح بالأحباب، دخل عليّ يتصبب عرقاً، وتقاطيع وجهه ترتعش فَرَقاً، وكأنه هارب من جُبٍّ عميق من أمر جلل، وسكوته في أمر كهذا لا يُحتمل.
 
لكنني أجد له ملي عذرا، وقد كنتُ أردد هذا الشعرَ:
 
ولئن ندمْتُ على سكوتٍ مرةً
 
فلقد ندمتُ على الكلامِ مِرارا
 
بششتُ بوجهه لأُخفف عنه، وخففتُ من روعه لأسمعَ منه، وأعطيته سمعيَ كلَّه، فاطمأنت روحه حين وجهتُ حواسي إليه، فمصمص مراراً بشفتيه، وأثار فضولي حين راح يفرك بيديه، فتذكرت قول ديستوفسكي:
 
ظل يخشى أن يكون تحت الأزهار أفعى
 
فقلت: ما بك يا رجل؟ لقد قتلتني مليون مرة وعُقدة لسانك لم تُحَلْ. ابتسم ومن روعه أفاق، قال: لا تخفْ إنه النصّات بن لقلاق، قلت: وما لهذا المأفون؟ قال: رأيتُه اليوم يستحلُّ الأسواق. وكأنه طائر خرافي وُلد من خوابي الأوراق، يحمله جناح ويحطه آخر، فتمثلتُ قول الشاعر مخاطباً ممرور:
 
وَدَعْ كلّ صَوْتٍ غَيرَ صَوْتي فإنّني
 
أنَا الطّائِرُ المَحْكِيُّ وَالآخَرُ الصّدَى
 
فأكدتُ عليه: دعْك منه وأخبرني ما الأمر يا ممرور بن مسرور؟ فأطرق ممرور هنيهات وكأنها دهور، حتى بات صامتاً كليل القبور. ثم قال: الكورونا أخرج النصّات من صمته المعتاد، وطفِق يذرع الشوارع طولاً وعرضاً بلا ارتعاد، وكأن بين عينيه فراشة وديعة تحوم من شجرة إلى شجرة ومن زهرة إلى زهرة بتقاسيم بديعة. كان يسأل الناس ولا مجيب، ولاذ بجدار يرقب المشهد العجيب. فانحاز له من أصدقائه اثنان، هما من شاكلته، الأول يُدعى سَلع بن سرحان يعشق الليل ولا ينام، والآخر يدعى(فَلْحان) هو من أهل الله ويُعد من أعاجيب الزمان.
 
قال ممرور بن مسرور: ما فارق الصديقان اللقلاق لحظة لقياه، قال له الأول وفي لسانه حُبسة: يا يا يا نصّات أما عععععلمت ودريت، ال ال ال الكورونا غزت كـلْ كُلْ بيت.. اِج اِجْ اجتاحت كل مكان، وأنت وِنْت تتت منها(مثل الأطرش في الزفة)، لا بل (عرس عند جيران)، وسأله النصّات وهو يقلده: وما وما وما هي ال الكورونا يا السِسٍسٍسلِع؟ فبادره صديقه فَلْحان وهو يرتعش من الضحك من قدميه حتى أذنيه، على شكل الغناء: كورونا لا يرى لا يسمع، الصين هي المنبع.
 
ثم انتفض فلحان واقفاً وواصل وهو يرقص: يطاردونه من مكان إلى مكان فيشتد سُعاره، ويتوحش فيأكل عن يمين وشمال ومثل (الطَلَق) بآثاره، صرخ النصّات: الله حي الله حي وهو المتكفل بكل حي. التفت لهما وسأل: وما بال الناس يلهثون من حي إلى حي؟ قال فلحان: يتمونون خوفا. فصرخ بأعلى صوته ليسمعه الناس: ألم يقل الله، عزّ في علاه: (الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف). فما هذا اللهاث واللامبالاة..
 
دنا منه فلحان فقال بملء فيه: ضع الكمامة يا نصّات مثل الناس، الكورونا أعمى لا يميز راساً من راس، ألا ترانا لا يُرى منا آلاّ العينان أنا والسلع ، فقال النصّات: ألهذا الحدِّ صار الهلع، ومن حقكما والشاعر قال:
 
وَسِرْتُ عُمْرِي إِلَى قَبْرِي عَلَى مَهَل وَقَدْ دَنَوْتُ فَحُقَّ الْخَوْفُ وَالْهَلَع
 
ها هو شماغي سأتكمم به، وهل تظنان بأنه يقترب ممن عرف ربه؟ صاح السلع وفلحان بأعلى صوتيهما: ما خاب من خشي ربه.
 
يقول ممرور بن مسرور: الأمر لم يقف عند هذا الحد، فالنصّات (عن جد)، ذو ملاحظة لا مثيل لها ولا ند، أجال بنظره في المكان، فرأى من الناس العجب العُجاب، فاق حد الوصف والاستغراب، أصوات تعلو هناك، وملاسنات بين الهائمين وعراك. ورأى عند أحد الأفران عجوزين خائفتين، ومن الوهن والبؤس ترتعدان، وحال بينهن وبين الفرن تدافع الرجال، فقال النصّات للسلع وفلحان: ألا تلاحظان؟ ألا تريان؟ فقال السَلع بدون تعتعة: هيّا لنفعل شيئاً في هذه المعمعة، قال النّصّات: كيف؟ فردّ فلحان وهو يخبط الأرض برجليه: نعلنها خلية أزمة. فتح النصّات عينيه فرِحاً طرِبا، فقال: (يخرب بيتك يا فلحان) لولا أنك مجنون لقلت شربا، قرّبْ لي العرَبَة فقد آن آوان الملحمة.. هيّا بنا نبدأ من الفرن فمعركته محتدمة.
 
يقول ممرور بن مسرور: ومثل االبرق كان النصّات ورفيقاه عند العجوزين، فسألهما: ماذا بكما؟ قالت إحداهن: حال بيننا وبين الفرن الرعاع، ونحن على الحسنات نعيش لا قرش معنا لنشتري ونبتاع.. وغلبت النصّات الدمعة، فرفع بوجه الرعاع إصبعه، وقال:
 
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا
 
متى أضع العمامة تعرفوني
 
وعدّل شماغه على رأسه وقال بما يفوق الوصف، يا ناس اسمعوا يا قوم، مَنْ عَاشَ مَات، وَمَنْ مَاتَ فَات، وَكُلُّ مَا هُوَ آتٍ آت.. تباعدوا الآن قبل فوات الأوان. فالموت الزؤام في هذا التهافت، والله العظيم والله العظيم إن لم تسمعوا، سترون منا ما سيرويه العربُ والعجمُ، وما يعجز عنه القلم، فضحك منه شابٌ وتبعه كبار السن، وقالوا: النصّات جُن.
 
قال ممرور بن مسرور: فحمي الوطيس. فأعلن النصّات ناصحاً ومستعطفا، وقال بدون تدليس:
 
وَلَم أَرَ فَضلاً تَمَّ إِلّا بِشيمَة
 
وَلَم أَرَ عَقلاً صَحَّ إِلّا عَلى أَدَب
 
للمرة الأخيرة أقول لكم: تباعدوا، وليدفع كل منكم بعض القروش، فهناك أُسرٌ خاوية منهم الكروش. فارتفع مستوى الهزء من النصّات وصحبه إلى الخط الأحمر، فقال لهم منذراً، وتوعد كل واحد منهم محذرا، في كلامه نعومة ظاهرة، ومن عينيه تتطاير نظرات زاجرة، فدنا من شاب كان أكثرهم عباطة وعبارة ساخرة وقال:
 
أترضى أن تكون رفيق قوم
 
لهم زاد وأنت بغير زاد
 
فما استوعب الشاب المقالة، ودفع النصّات فأوقعه أرضاُ فكان في أسوأ حالة. فنهض كالمارد الجبار، وانتضى صوته الهدّار، ونادى السِلع وفلحان: يا أيها الصديقان، جهزا أسلحة العطس، فهؤلاء القوم لا يرعوون ولا يسمعون، فدنا منه الصديقان وقد انتفخ منهما المنخران، وقالا: نحن بأمرك يا أمير، ورهن إشارتك حين تُشير.
 
يقول ممرور بن مسرور: فنظر النصّات في وجوه القوم نظرة فيها الموت الزؤام، وقال: ستندمون حين لا ينفع ندم، ولا فلوس ولا حشم ولا خدم. فقال شاب أرعن لم يفتر شاربه: أعلى ما في خيلك اركبه. فهدّأ النصّات من غضبه، وهذه هي من أطايب شيمته، وابتسم لهم من فائض أدبه، فهذه واحدة من طبيعته. ثم قال للشاب وسواه، ستعضون أصابعكم ندماً إن لم تستوعبوا كلامي بأناه. فوضع عباءته أمامه: وقال للعجوزين: ابشرا بخير الله وإكرامه ونادى: يا السِلع يا فلحان جهزا خراطيم الكورونا، وعند الإشارة وزعا على القوم ألف عطسة وعطسة، وادخلا إلى الفرن ولا تتركان شوال طحين ولا عجانة ولا رغيف خبز إلاّ وأخذ حقه من العطس، فتجهّز الصديقان واقتربا من الجميع، وقال لهم: من لم يسمع الكلام؟ دقائق وتكونوا حطاماً تحت الأقدام، هيّا اخرِجوا ما في جيوبكم من نقود وضعوها على العباءة، ومن أخذ خبزاً فليدع نصفه في العربة وغادروا سراعا، قبل أن تروا مصارعكم تِباعا.
 
ويواصل ممرور بن مسرور وصفه للمقام: وقف النصّات بن لقلاق رهن الانتظار، فتقدّم رجل خائف فترك المحفظة والخبز وطار، وتبعه الجميع وتقلّص الدور على أطفال صغار، فقال لهم النصّات، هيّا يا أبنائي خذوا حاجتكم وغادروا وظلّوا في الدار، فالأمر خطير ويحتاج إلى وقاية واحتراز وتدبير، فالكورونا لا ترحم من يعاند ويستكبر. وصار يردد:
 
قــِــفْ.. لا تـُـعانـِــــــــــــدْ
 
يا هــذا الفاسـِـدُ.. قـِـفْ وَ فـَـكـِّـرْ.
 
لا تـُـعـانـِـدْ
 
لا تـُـكـابـِـرْ.
 
قال ممرور بن مسرور: أقفرت الحارة إلاّ منهم ومن العجوزين، فقال النصّات لهما: تعالا وخذا من الخبز ما تشاءان، ومن النقود ما تحتاجان، وانصرِفا إلى البيت بأمان.
 
حمل النصّات في عربته مئات الأرغفة وطاف وصديقاه على بيوت الفقراء المتعففة، الذين لا يسألون الناس إلْحافاً، ووزعوا عليهم ما لذ وطاب أضعافاً.
 
وحين انطلقت صفارات الإنذار، وأدرك النصّات ورفيقاه خطورة التحوام لاذا بالفرار، ولزموا دورهم سعداء بعد أن قدموا للفقراء فضل أموال الأغنياء، ولسان حالهم: (إحنا اللي علينا سويناه والباقي على رب جلّ وعظُم في عُلاه)، وردد النصّات:
 
ومن يعتصم بالله يسلم من الورى ومن يرجـه هيهات أن يتندماً
 
وختم ممرور بن مسرور: واختفى صوت العربة، وبالكاد تسمع في الحارة جلبة. وتلفّع بعباءته النصّات بن لقلاق، واختفى السِلْع وفلحان من الأسواق.