Friday 19th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    14-Oct-2020

التصالح الشعري مع نزار قباني

 القدس العربي-باسل عبد العال

يتصالح القارئ عادةً مع كاتبه، إذا اختلف معهُ على المعنى والمضمون في مشهدٍ أو قضيةٍ ما، أو وجد ما يختلف مع ذائقته أو مبادئه أحياناً، لكنني في علاقتي الشعرية مع نزار قبّاني الساحر في لغتهِ الشعرية الغزلية، في حضرة الأنثى، وجدتُ بأنّهُ كان على حق حين نظر إلى الحياة بنظرة العاشق الهائم في حب الأنثى، وهذه النظرة جعلتني يوماً ما، أعيد النظر في شعر نزار، بعدما هجرتهُ منذ ما يقارب 20 عاماُ، في زمن المراهقة، ونحن الشباب (وهي حالة بيولوجية) لا نستمتع بشعره بالقدر التي تستمتع به كل أنثى تقرأ نزار قباني، لكن في هذا الزمان الصعب، الذي لم يجد فيه القارئ ولا الشاعر متعة ما، كي يشبع ذائقته بالجمال، وأين الجمال؟ أين هو؟ في زمن كورونا والحروب والصراعات هنا وهناك، والظروف الاقتصادية التي تغزو العالم، وفي ظل التطبيع والخيانة العلنية للقضايا الكبرى، أين هو الجمال الذي يبحث عنه كل إنسان في هذا العالم القفص؟ لكن يبقى شعر نزار(الغزلي) في نهاية المطاف، وما وصلنا إليه، يرى العالم بمنظور آخر، بمنظور الأنثى التي تعني الكثير، حيث ينبع الجمال المتجدد فيها، وهذا الجمال إذ ينبع من الرماد، فهي حالة نادرة، هي حالة الأنثى التي إذ تقتحم النار المشتعلة هنا وهناك، تُخمد وتصبح النار ماء الأرض، والأنثى هي الأرض، وهي الشجرة التي تهدي الطبيعة بلسم الثمار الشهي، وعند نزار الذي لم يعش في هذا الزمان، لكنّهُ عرف كيف يداوي المستقبل الذي كان يتوقعهُ أكثر جنوناً من الأمس.
نزار قباني العاشق كان أقرب لمداواة جراح الزمن بصورة الأنثى الجميلة، وهذا برأيي ليس بشعاً بقدر ما هو لجوء إلى الجمالي الذي يناقض الوحشي في هذا الزمن، ومن حق الشاعر اللجوء إلى حضن أنثاهُ، كلما اشتدت الحرب على كينونته النفسية، التي تساهم بشكل كبير في صناعة قصيدته السحر، والقصيدة عليها أن تصطاد السمك، حتى إن كان الماء عكراً، لم أقصد هنا السمكة هي الأنثى، بل هو ما يدافع عن صورتها في الماء/ المرايا، وإن اتّهمهُ البعض بالتخصص والمبالغة بتوظيف صورة الأنثى لإغراءات واشتهاءات أخرى، قد تعيق تقبّلها في قيم مجتمعاتنا الشرقية المحافظة.
 
لم أعد على خــــلافٍ شــعريٍّ مع نزار قباني، وهذا التصالح ليس مع الشعر فقط، بل ما تركهُ الواقع الراهن فينا من ألم، جعلنا نخرج من دائرة الدخان الأسود إلى دائرة الضوء الأبيض/ الأنثى، ونداوي الخشونة بالرقّة/ والبشع بالجمالي/ والخوف بالطمأنينة/ والحرب بالحب.
 
الحب وحدهُ يُحيي الشعر عند قبّاني، وليس عند قبّاني فقط، بل عند كل شاعرٍ يُدرك التعامل الشعري مع الحب، الحب الذي هو نفسه القصيدة، وهو ملجأ الشاعر الوحيد، إذا وقعت المعركة مع ما يخالف تطلعات الشاعر الحسية أو الحدسية في الواقع، يجب على الشاعر أن يمزج بين العاطفي والوطني إذا صحَّ التعبير، والكثير هناك، في بعض الملاحم الوطنية، فيها من التراجيديا العاطفية ما يشحنها بالدراما المؤثرة، مثل «الإلياذة أوديسة» لهوميروس، وحروب طروادة التي كان سببها خطف ابنة ملك إسبرطة من قبل ابن ملك طروادة، وهذا سبب وقوع مجازر طروادة، وكان المزج واضحاً جدّاً بين الوطني والعاطفي، رغم أنّ العاطفي هو مُشعل نار الحرب هنا، لكنّه في الوقت ذاته كان بلسماً للشفاء من داء القتل، وصورة الأنثى الضحية (هيلين) التي لا ذنب لها سوى أنّها عشقت ابن ملك (باريس) مملكة أخرى، وهنا نسأل: هل يصير الحب شرارة الموت الأول؟ يبقى الجواب للشاعر الذي يبحث عن الحب بين ركام المعركة كالباحث عن قطرة الماء في زمن القحط، ولعلّهُ الشاعر الوحيد نزار قبّاني مَن وجد أنثاهُ على الورق المبلل بالدم والدمع، أنثاهُ التي لا تشبه أي أنثى أخرى، هي مدرسة الحب، وهي تدور حول سؤال القصيدة الكبير: «هل تسمعين صهيل أحزاني؟» فهذه الأسئلة والعبارات الشعرية الرقيقة كالأنثى، تجعل الحب على بعد قبلة، لمن يحترف مهارة الغزل السري الذي يوشوشُ في أذن مَن يُحب، وتكاد لا تجد في رسائل العشّاق إلا اقتباساً من شعر نزار، ولا تخلُ قصة حب إلا ونزار قبّاني شاعرها الأسطوري، لأنّ شعره ملاذ الأنثى الوحيد، وصانع معجزة الاصطياد الماهر في الطقس العاصفي، وأيُّ اصطيادٍ بلا سلاحِ الكلمة التي هي مفتاح القلوب إلى نعمةِ الحب، فالأنثى بطبيعتها هي أسيرة تلك الكلمات التي تجعل شِباكها مشرعة لحبٍّ محتمل، فالغريزة كالطريدة في غابات الروح، والسؤال مفتوحٌ للغبش الوحشي الذي سقطنا في خضمّهِ اليوم، هل نحن في حاجة للتمسك بشعر قبّاني اليوم أكثر من الأمس؟ لأنّ الموت حليف اللحظة، اللحظة / الغصّة، التي يعجز الشاعر عن تفسيرها، ويتيه على بساطٍ لا يطير، ويتّهم المرحلة بأنّها ليست كما يريد، إلا عند قبّاني الذي يختصر كل المراحل، بمقولة: «أنا أحب يعني أنا موجود». وعلى الشاعر الجديد أن يكمل هذا الوجود المتجدد في الحب/ الحب الصعب الذي ينساب كالحبر على الورق، كي يألف مديحاً عاطفيّاً سهل المتخيّل، ربّما رومنسياً وملحميّاً في آن، حينها سيكمل ما انتهى عنده قبّاني بالمعنى الواقعي: «أنا أحب يعني أنا موجود».
لم أعد على خــــلافٍ شــعريٍّ مع نزار قباني، وهذا التصالح ليس مع الشعر فقط، بل ما تركهُ الواقع الراهن فينا من ألم، جعلنا نخرج من دائرة الدخان الأسود إلى دائرة الضوء الأبيض/ الأنثى، ونداوي الخشونة بالرقّة/ والبشع بالجمالي/ والخوف بالطمأنينة/ والحرب بالحب.