Thursday 28th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    17-May-2022

التنافر المعرفي لإسرائيل

 الغد-جوزيف دانا* – (ذا أراب ويكلي) 11/5/2022

ترجمة: علاء الدين أبو زينة
 
وفقًا لاستطلاع أخير للرأي أجرته صحيفة “جيروزاليم بوست”، يعتقد ما يقرب من نصف الإسرائيليين أن هناك “محرقة” أخرى مقبلة. ووجد الاستطلاع أن الشباب الإسرائيليين والحريديم كانوا قلقين بشكل خاص من حدوث محرقة أخرى بينما كانت الأجيال الأكبر سنا أقل قلقًا بشكل ملحوظ. وقد أشار الكثيرون إلى أن تصريحات إيران المستمرة حول تدمير إسرائيل كانت دافعًا للقلق بشأن التعرض لمحرقة أخرى. وكان هذا المسح كاشفاً ويقول الكثير عن إسرائيل على مستويات عدة.
 
* *
لا بد أن تكون كل دولة مبنية على أسطورة تأسيسية. وتعمل هذه القصص، أو التواريخ المشتركة، على خلق الترابط في المجتمعات وبنائها. لكن أسطورة تأسيس إسرائيل تظل فريدة من نوعها بين الدول المعاصرة. إنها تدفع بنوع من التنافر المعرفي الذي يمكّن المجتمع من إدامة واحد من أكثر الاحتلالات العسكرية طولاً في التاريخ الحديث، بينما يتقمص وضع الضحية. ويمنحنا الاحتفال الأخير بيوم “ذكرى المحرقة”، (الهولوكوست) فرصة مميزة لمواصلة استمرار هذا التنافر المعرفي والأساطير التأسيسية للمجتمع الإسرائيلي.
وفقًا لاستطلاع أخير للرأي أجرته صحيفة “جيروزاليم بوست”، يعتقد ما يقرب من نصف الإسرائيليين أن هناك “محرقة” أخرى مقبلة. ووجد الاستطلاع أن الشباب الإسرائيليين والحريديم كانوا قلقين بشكل خاص من حدوث محرقة يهودية أخرى بينما كانت الأجيال الأكبر سنا أقل قلقًا بهذا الشأن بشكل ملحوظ. وقد أشار الكثيرون إلى أن تصريحات إيران المستمرة عن تدمير إسرائيل كانت دافعًا للقلق بشأن التعرض لمحرقة أخرى بشكل خاص.
كان هذا المسح كاشفاً ويقول الكثير على مستويات عدة. على سبيل المثال، تركز مزاعم إيران بشأن إسرائيل، على الرغم من أنها بغيضة، على إسرائيل نفسها ولا تقول أي شيء عن الشعب اليهودي المنتشر في جميع أنحاء العالم. وبينما تُعرِّف إسرائيل نفسها على أنها دولة يهودية، فإن ملايين اليهود الذين يعيشون في جميع أنحاء العالم ليست لديهم –عن طيب خاطر- أي صلة بإسرائيل ولا هم مواطنون إسرائيليون. وليست الانتقادات التي توجه إلى إسرائيل والدعوات إلى استخدام العنف ضدها، مهما كانت قاسية ومتطرفة، هي هدف هتلر المعلن نفسه المتمثل في إبادة الشعب اليهودي أينما كان. ويبدو أن الإسرائيليين غير قادرين -أو غير راغبين في فصل أنفسهم هم ودولتهم القومية عن بقية يهود العالم.
بل إن الأمر الذي ربما يكون الأكثر كشفاً في مخاوف الإسرائيليين بشأن حدوث محرقة أخرى هي العلاقات السياسية التي تقيمها إسرائيل مع السياسيين المعادين للسامية في جميع أنحاء العالم. من فيكتور أوربان المجري إلى العناصر المتحالفة مع دونالد ترامب، أقامت إسرائيل علاقات وثيقة مع سياسيين معادين للسامية علنًا في جميع أنحاء العالم. في ظل إدارة ترامب، تصاعدت مشاعر معاداة السامية إلى درجة ملحوظة في جميع أنحاء الولايات المتحدة والعالم -حتى أن دونالد ترامب، الذي يعتقد الإسرائيليون أنه كان صديقاً عظيماً لبلدهم، أشار إلى المتظاهرين الذين شاركوا في تجمع قاتل للنازيين الجدد في شارلوتسفيل بولاية فيرجينيا بأنهم “أناس طيبون للغاية”. فإذا كان الإسرائيليون قلقين للغاية بشأن حدوث محرقة أخرى، فلماذا لا يعبرون عن المزيد من الغضب ويتخذون إجراءات أكثر شدة لدعم المجتمعات اليهودية من بودابست إلى بيتسبرغ؟ على الأقل، يمكن للحكومة الإسرائيلية أن تنهي علاقاتها الحميمة مع السياسيين المعادين للسامية في جميع أنحاء العالم، أو يجب أن يكون هناك بعض الحضور لضغط شعبي يطالب بعكس وجهة هذه التحالفات.
هذا الوضع غير العادي يتحدث عن التنافر المعرفي القائم في قلب المجتمع الإسرائيلي. وأعني بالتنافر المعرفي عدم القدرة على حمل أفهام متضاربة لمكانة إسرائيل في العالم وسلوكها بالنسبة للآخرين. يعتقد الإسرائيليون أنهم ضحايا وأنهم على وشك التعرض للدمار بينما لديهم جيش مدهش وقوي، ويديرون احتلالًا ضد شعب آخر. وقد فهم الإسرائيليون دائمًا أن بلدهم تحت الخطر وعلى وشك الدمار. وينبع هذا الخوف من تعرض يهود أوروبا للتدمير والإبادة في “الهولوكوست”، ومن الحروب التأسيسية المحفوفة بالمخاطر للبلد، والتاريخ الطويل لمعاداة السامية في التاريخ اليهودي. وهو أحد الأسباب التي تجعل إسرائيل قادرة على إدامة التجنيد الإجباري لشبابها وشاباتها وعلى تأكيد مركزية الجيش كمؤسسة في المجتمع الإسرائيلي. فمن دون خوف دائم، كيف يمكن للجيش أن يهيمن على المجتمع؟
لقد وُلدت إسرائيل بالفعل وخرجت إلى وجود خطِر، لكنها خرجت أيضاً من حالة انعدام الأمن تلك. الآن، يتفاخر البلد بامتلاك واحد من أقوى الجيوش في تاريخ البشرية. ومن دون تأكيد أو إنكار وجودها، تمتلك إسرائيل ترسانة ضخمة من الأسلحة النووية. حتى أن الحكومة الإسرائيلي تمضي الآن قدماً في إبرام اتفاقيات تطبيع مع العديد من الدول العربية في الشرق الأوسط من دون الحاجة إلى تقديم تنازل واحد للفلسطينيين. ولا يعني هذا أن إسرائيل ليست لديها مخاوف جيوسياسية جادة، لكن الفكرة القائلة إن وقوع محرقة ثانية بات وشيكاً لا تتوافق مع الحقائق على الأرض.
هذا هو المكان الذي يظهر فيه التنافر المعرفي بكامل تجليه. يعتقد الإسرائيليون أنهم يواجهون معاداة السامية بدرجة غير مسبوقة في حين تقيم حكومتهم علاقات دافئة مع المعادين المتشددين للسامية. وهم يعتقدون أنهم يواجهون الدمار على الرغم من امتلاكهم واحداً من أقوى الجيوش التي بُنيت على الإطلاق. ويتحول هذا كله إلى مجتمع أقنع نفسه بأنه الضحية لدرجة أنه لا يستطيع أن يرى متى يكون هو المعتدي. وقد أشرت إلى استمرار الاحتلال العسكري للأراضي الفلسطينية. ولعل المظهر النهائي لعقدة الخوف التي تميز المجتمع الإسرائيلي هو أنها تمكّن شبابه من تبرير الحفاظ على الهيمنة على الفلسطينيين.
وهذه الفكرة موجودة، ولكنها مختلفة قليلاً في حملات العلاقات العامة الإسرائيلية في جميع أنحاء العالم. لا شك في أن الشعب اليهودي عانى واحدة من أعظم المآسي في التاريخ خلال الهولوكوست. وإذا كانت الدولة اليهودية التي عرّفت نفسها بأنها كذلك على وشك التعرض لمحرقة أخرى، فإن المجتمع الدولي لا يستطيع أن يركز على احتلال فلسطين. وما يزال استخدام وإساءة استخدام الهولوكوست بهذه الطريقة مستمراً منذ تأسيس البلد.
ليس حمل معتقدات وروايات متنافسة بالأمر غير المعتاد في الأساطير التأسيسية للدول القومية الحديثة. ومع ذلك، فإن النسخة الإسرائيلية تتفوق في عقلنة اعتناق عقلية الضحية لتبرير الأعمال العدوانية ضد الفلسطينيين. في كل عام، تتذكر إسرائيل أولئك الذين لقوا حتفهم في الهولوكوست. وبدلاً من التركيز على الحيلولة دون معاناة الناس جميعاً في المستقبل، يستخدم البلد هذا الحدث لدفع عقلية الضحية لتبرير عدوان جيشه وعلاقات حكومته مع المعادين للسامية في جميع أنحاء العالم.
*جوزيف دانا Joseph Dana: هو رئيس تحرير “إميرج 85″، وهو مختبر يستكشف التغيير في الأسواق الناشئة وتأثيره العالمي. شغل سابقًا منصب مدير مكتب مونوكل في إسطنبول، من بين مناصب كتابية أخرى شغلها في الشرق الأوسط. ظهرت أعمال دانا في “لوموند دبلوماتيك”، و”نيوزويك”، و”بلومبيرغ بيزنس ويك” و”ذا نيشن” ومطبوعات أخرى. تركز تقاريره وتحليلاته على تصادم الثقافة والعمران والاقتصاد والسياسة. حاصل على درجة الماجستير في التاريخ والفلسفة الأوروبية من جامعة أوروبا الوسطى في بودابست.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Israel’s cognitive dissonance