Thursday 25th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    09-Jan-2021

المثول أمام الجمال… وتذوق الفن

 القدس العربي-جمال العتّابي

الإحساس بالجمال قدرة مشتركة يتمتع بها الناس جميعاً، الإحساس بالتناسق الممتع، بل الإحساس بالرغبة في التعبير عمّا تتضمنه الطبيعة من هذا الجمال، والإنسان منذ بدائيته الأولى حتى عصرنا الرقمي، توارثَ الإحساس بالفن والجمال، واشترك مع تفاوت درجة المشاركة في الإبداع فيهما، لأن الإحساس ظاهرة اجتماعية عامّة وتلقائية، بل ملزمة للإنسان في المجتمع، إلا أن المجموعات البشرية المتعاقبة لم تتفق على نمط واحد للإحساس بالفن وتذوقه، وتراوحت مذاهبه بين التداخل والتضاد، حتى صارت الضرورة تحتم على كل محترفٍ أو هاوٍ في الفنون وأنواعها، أن يلمّ بكل جوانب ما ينوي التعمق فيه ويستوعبه، ليتمكن من التذوق الذي يشتد حسه، من خلال كل هذه النماذج العالمية، وأسرار تقبل مجتمعاتها لها.
التذوق الجمالي الذي يقارن بين المضمون والشكل والمستوى، يصنف ويؤصّل، بمعنى الرصد الأفقي لكل تفنن حسي، نوعه ومستواه ثم ربطه بجذوره التراثية التي أنبتته، سواء أكانت مباشرة، أم عن طريق التهجين من عدّة أصول، باعتبار أن الفلسفة مقدمة ضرورية لتعميق الإحساس الفني، وربط نظرة الفنان المتذوق بأرضية مجتمعه النابع منه، ليتوافر عنصر الصدق المتبادل بين المبدع وملهمه، أو بين المتفنن ومحيطه الموحي، فلو تذوقنا عملاً معمارياً مثل بناء بابل، وحللنا فلسفته كعمل فني معبّر بلغته الخاصة عنها، لوجدناها متمثلة في الاستمرار والخلود، وهي بدورها نابعة من طبيعة الأرض الرابضة تحته، فيكسبها هذا العنصر القوي عنصر الثبات والاستقرار بعملية التجديد، ومن ثم انطبع الإحساس الفني بهذه الفلسفة، فاستقرت قاعدة ضخمة لبناء آخذ في التسامي نحو السماء.
إن دور الناقد الجمالي يتحدد في أن يضع نصب عينيه النظر إلى عناصر الإبداع بعقله الواعي، ويتحسس العمل الفني بكل مداركه، وأن لا يقتصر الإحساس بالجمال على مقياس الفكر ووسيلة العقل، بل لا بد ان نعطي للفنان حق الانطلاق بأحاسيسه وانفعالاته كلها.
ما الجمال إذن؟ منذ أن أطلق إفلاطون هذ السؤال، تبدو فكرة الجمال على ما سماه بالجمال الخالد أو المطلق، تلاحقت الأسئلة وتواصلت عن المسائل الجذرية في علم الجمال، أهمها ماهية الجمالي وطبيعته، ويعد علم الجمال الكانتي نسبة إلى الفيلسوف الألماني عمانوئيل كانط ( 1724-1804) أحد المنعطفات الكبرى في التطور العام للفكر الجمالي، واعتبر هيغل إن كانط أعطى نقطة الانطلاق من أجل فهم حقيقي لما هو جميل في الفن، لقد فسّر كانط اللذة التي يوفرها الجميل، بالتطابق والانسجام ما بين الخيال والعقل النظري، واللذة التي يوفرها السامي بعدم التطابق، أي بالتناقض بين الخيال والعقل العملي.
الحياة تحمل في جوهرها شكلها الجمالي، كما يرى بيلنسكي (1811-1848) أحد علماء الجمال الروس، ومن أبرز منظري الأدب الروسي، وكلامه عن الفن أسمى من الطبيعة لا يشهد على ميتافيزيقية المقارنة، بل يؤكد فقط منشأ الوعي على اللاوعي، الفن برأيه أكثر شبها بالواقع مما هو في الواقع نفسه، ويدرك الفيلسوف الألماني هيردر(1744-1803) أن للجمال أساساً موضوعياً طبيعياً يتفاعل معه الانسان، فالجمال إنساني، والإنسان هو مبدع الجمال، وهو فنان أبدا، وفيه مقياس الجمال.وتجاوزت عملية التذوق الجمالي الاستجابة الفسيولوجية إلى الاستجابة النفسية لدى المتلقي، ليس فقط من حيث مزاجه، بل من حيث حالته الانفعالية لحظة مشاهدته لموضوع الجمال، الذي يكشف عن نفسه عندما يكون مزاج المتلقي (رائقاً) فيما تغطي العتمة الضبابية موضوع الجمال عندما يكون مزاج المتلقي كدراً. ومن بين العوامل التي تحدد نوعية التذوق الجمالي، الخبرة الجمالية، وما يميز هذه الخبرة عن الأخرى، هو تآلف العناصر التي تتركب فيها بواسطة الجمال، الذي يحول فوضى الدوافع المنفعلة إلى استجابة منظمة، يمكن القول إن لكل فرد يمتلك قيمه الخاصة في التذوق، وأخرى يشترك فيها مع الجماعة، وهذا يقود إلى الاستنتاج، بأن اختلاف الأفراد في تذوقهم الجمالي ناجم عن اختلافهم في تشكيلة منظوماتهم الفكرية.
مع هذه المعطيات تبدو فكرة التذوق في حد ذاتها ما تزال بحاجة إلى تمرين وعناية، وغير مألوفة لدى فئات واسعة في المجتمع، هل بالإمكان وفق هذا إقامة معهد متخصص للتذوق الجمالي، ربما تبدو الفكرة مثيرة للدهشة فينا، في الأدب العربي أحكام عامة، بدون تفصيل، عن أشعر العرب، وصنّاجة العرب، كنا نستسلم بدون أدنى تساؤل، عن كيفية الوصول إلى مثل هذه الأحكام، ما هي الخطوات التي سبقتها من معاناة ومتابعة في القراءة والحوار والتحليل، حول استكناه نواحي الجمال والقبح في العمل الإبداعي، ومن ثم صارت هذه الأحكام تقليداً متوارثاً، فضلاً عمّا فيها من تحيز، أو عدم موضوعية، ولدى البعض من لا يتفق مع أن يكون الذوق الجمالي مَعلَماً.إن منطق الأشياء يدعونا إلى وقفة تأمل ومراجعة بعقلية نيرة منفتحة، على أفاق إبداعية متسعة، توفر القناعات لقبول هذه الفكرة، إذ لا تحتاج إلى حجة أو برهان، لندع سلطة الذوق مفهوماً للبناء وتربية وتعميق الحس البصري.
 
كاتب عراقي