Friday 19th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    20-Feb-2021

التأريخية السرديّة في «أجراس القبّار» لمجدي دعيبس

 الراي-إبراهيم خليل

 
(ناقد من الأردن)
 
إحدى النقاط التي لا بد من التذكير بها، والتنبيه اليها، عند الحديث عن رواية تاريخية لكاتب ما، هي وضع الرواية التاريخية في المرتبة الثانية بعد الرواية غير التاريخية. لسبب بسيطٍ، معروف، وهو أن كاتب الرواية غير التاريخية يستعين بخياله الخلاق في اختراع الحوادث، والوقائع، والأماكن، وربما الشخوص، بصفة عامة، والعلاقات التي تنتظم هاتيك الشخوص، فهو إذن مسؤول مسؤولية كبرى عن جل ما في روايته من حكاية تقع في زمن، لأشخاص جلهم من اختراعه، وابتكاره، في مواقع كلها من اختياره، ووصفه، وتصوره، في الحدود القصوى التي تسمح بها أداة التعبير وهي اللغة.
 
الرواية والتاريخ
 
أما الرواية التاريخية، فثمة أمكنة لا يدَ له في اختراعها، وقد يكون الهيكل العام للحكاية، بما فيها من متتاليات مَحكية، وسرود مرويّة، مما تجود عليه به المصادرُ، والمراجعُ التاريخية، والحوليات، والمدونات التي يمكنه أن يعود إليها من وقت لآخر، مثلما يجد القارئ في آخر رواية «أجراس القبار» لمجدي دعيبس (الآن ناشرون وموزعون، عمّان، 2020) من إشاراتٍ لما استعان به من مراجع في مقدمتها كتاب محمود العابدي «عمان في ماضيها وحاضرها» (1971)، وما نشره أرسلان رمضان في عام 2002، وما كتبه المطران سليم الصايغ عن «الآثار المسيحية في الأردن»، علاوة على إفادته من كتاب ترجمه مرقس داود عن تاريخ الكنيسة بعنوان (يوسابيوس القيصري).
 
لذا كانت الرواية التاريخية –بهذا المَعْنى- ليست من مُتخيَّل الكاتب وحده، بل ثمة عناصر كثيرة تحتل موقعا كبيراً، ومساحة أكبر، في الرواية، ليست من تخيلاته. وتبعاً لذلك، إذا كنا نشهد لكاتب الرواية غير التاريخية بالابتكار المَحْض، فإن كاتب الرواية التاريخية لا يطمع، ولا يحق له أن يطمح -أساسا- لمثل هذه الشهادة.
 
سرد كرنفالي
 
فرواية «أجراسُ القبّار» لمجدي دعيبس تتألف من فصول بعضها يمثل تمهيدا، أو عرضا لإطار الحوادث التي تتألف منها حكاية زينون، وتابعه زيناس. ففي الفصل الأول، وعنوانه «الحامية» يوطئ لذكر المكان زيزياء (زيزيوم) وفيلادلفيا (عمان) الذي تقع فيه المجريات. ويذكر فيه بعض الشخوص، وبعض الطرق التي تؤدي للمدن التي تقع، مثلما يتراءى لنا، في الأردن، وعلى امتداد بادية الشام كبصرى، ودميسكو (دمشق) وأنطاكيّة (أنطوخيوس) فضلا عن جراسيا (جرش). ولا يفوته أن يشير لحاكم المدينة الروماني مكسيموس، وبعض القادة العسكريّين. وعلى الرغم من أن القارئ لا يتوقع العدول عن السارد العليم للسارد المشارك، إلا أن المؤلف في الفصل الذي يتلوه، وهو بعنوان «الجارية»، يعهد إلى فتاة بمهمة السارد، مستخدماً ضمير المتكلم. تقول مثلا: «اقترب موعد الاستقبال الذي تنظمه سيدتي» (ص35) في إشارة لزوجة الحاكم مكسيموس. وفي الفصل الذي يتبعه، الموسوم بعنوان (عيد هرقل) تغيب هذه الساردة، ويعود بنا المؤلف للسارد العليم الذي يحدثنا عن مكسيموس وعن المدينة وعن تلالها السبعة، وعن النهر -السيل- الذي يزودها بالمياه، وعن الحمامات، وسبيل الحوريات، وعن الجنود، والجمهور الذي يحتشد احتفالا بالعيد، ولكن ما إن تصل بنا الإشارة لزينون، وتابعه زيناس، حتى يختلف السرد اختلافا مثيرا؛ إذ يتضح أن الاثنين لا يأنسان لمثل هذه الاحتفالات، ولا لمثل هذا الكرنفال الذي هو في نظرهما بعيد عن إرادة الربّ، وعن دين المسيح، بعداً شديداً.
 
عقدة الرواية
 
وهنا تبدو لنا عقدة الرواية، وتظهر، بوضوح، وهي اضطهاد الرومان للمسيحيين في ذلك الزمان. ويؤدي كلٌّ من زينون وزيناس دورا بارزا على الرغم من أن المؤلف أوحى لنا عن طريق الراوي المشارك تارة، والعليم غير المشارك تارة أخرى، بما في الحكاية من شخصياتٍ أخرى قد يكون لها من الأثر ما لهاتين الشخصيتين. بيد أنه، وعلى الرغم من إشاراته المتكررة لكل من سبيروس ويوليانوس وأرتاليا وساوروس، يظل الضوء منصباً على كل من زينون وزيناس؛ فهما يحتلّان بؤرة اهتمام السارد. وهذا الأخير، على الرغم من أنه تابعٌ لا أكثر، إلا أن أثره في الرواية أكبر من تأثير كثير من الشخوص. فهو الوسيط، بصفة عامة، ودائمة، بين زينون والمؤمنين بالمسيح. وهو النموذج المساند الذي يضطلع بدوره في تحرير الخدم والعبيد. وهو الذي كشف عن شغف برميدوس بصوفيا، وعن توقه لإقامة علاقة غرامية بينهما. وهذه الإشارة وما تبعها من حوار مع برميدوس توحي للقارئ بأن برميدوس وصوفيا سيكون لهما شأن كبير في الرواية. بيد أن هذا التوقع لم يتحقَّق. وما جاء من وصف جمالي لها (ص93) ذهب أدراج الرياح. غير أن الشيء الذي يتوقعه القارئ، ويتحقق، هو تحرير زينون لخدمه وعبيده. وهو ما أوغر صدور الآخرين عليه، وترتب على ذلك أن ارتسمت علامات الاستفهام الكبرى حول علاقته بالمسيحيّين.
 
الجارية
 
وقبل أن تتَّضح هذه الإشكالية يعود بنا المؤلف ويرجع للجارية. ولا ندري لماذا تختصّ هذه الجارية برواية ما يجري بضمير المتكلم، لا الغائب: «كان الوقت ظهراً عندما سمعتُ صوت ديرمانا» (ص114). وهو في هذا الفصل يشير إلى ما يتصف به بيراتو من وقاحةٍ تتجلى في نظراته الشبقة لصوفيا، ومع ذلك لا تنكر الجارية، في موقع آخر، هيام جواري القصر به، وتغنيهن بوسامته (ص117). ولا يتضح أنّ لبيراتو وبرميدوس دوراً يتجاوز مثل هذه الإشارات العابرة. ففي الفصل الموسوم بعنوان «ليس بعد اليوم»، وهو عنوان خطابيٌ إلى حدٍّ ما، يتخذ زينون قراره النهائي بتحرير عبيده. وهذا لا يحدث بصورة مفاجئة بل جرى التمهيد له سابقا. ووطأ الراوي له بلقاء جمع زينون بزيناس والراهب، وجرى الحديث عن الأناجيل، وعن الأباطرة الذين أمروا بإتلاف الإنجيل، وإحراقه، واضطهاد المسيحيين، الذين ما فتئوا يتداولونه سراً. تلت ذلك كله رحلة زينون، ومن معه، إلى أنطاكية، واللقاء ببعض المؤمنين بالمسيح. وأخيراً يتخذ زينون قراره الذي يتلوهُ على مسامع الخدم، والعبيد، قائلا: «هذه الرُقعُ الممهورة بخاتمي تعيد لكم حريتكم التي سُلبت لسنوات طويلة» (ص147).
 
المحاكمة والسياف
 
أوغر هذا القرار صدر سبيروس، الذي ساءَه أن يطلق زينون عبيده، وخدمه، ويحررهُم من التبعية لسبب غير واضح، ولا مقنع (ص149)، وهو موقف يبعث على القلق، إذ يخشى أن تتعاظم شعبيته بين الجنود تعاظماً يشجعهم على التمرد. وها هنا تلتقي شكوك سبيروس ويوليانوس. وبعد كل النسيان الذي أحاط بصوفيا يكتشف القارئ أن المؤلف لم ينسها، ففي (ص152) فصل بعنوان برميدوس، وبرميدوس هذا سبقت الإشارة إليه، فهو أحد أتباع زينون، وهو يحلم بلقاء تلك الفتاة، يقول في مونولوج: «بعد أيام سأذهب إلى فيلادلفيا للقاء صوفيا. آهٍ صوفيا، كم أنت جميلة، ورقيقة، وطيبة!» (ص155). ومن دون أن يتيح لنا المؤلف توقع ما سيجري بعد هذا، فاجأنا بفصل آخر بعنوان (روزاريو). وهذا من الشخصيات التي تعادي زينون وزيناس والمسيح. ولذلك سرعان ما شاع أن روزاريو لديه معلوماتٌ خطرة عن الرجلين. فاستدعاه يوليانوس في الحال، وطلب منه أن يكرِّر على مسامع الحضور ما سمعه من زينون، وهو الشيء الذي يدينه، ويؤكد علاقته بالمسيحيين، بل إيمانه بالمسيح لا بآلهة روما. وما عتمت الأمور أن سارت في الاتجاه المأساوي الذي ينشده يوليانوس، وهو أن يُقدَّم زينون وتابعه زيناس للمحاكمة أمام مكسيموس: «سنقدمه للمحاكمة، فإن ثبت ما تدّعيان فحسنا، وإن ثبت العكس فالويلُ لكما مني» (ص161). ويعود بنا المؤلف مرة أخرى، في إشارة لعشوائية السرد، للجارية، فهي تفضي للأخريات بالخبر الصاعق: «زينون.. يقولون إنه في سجن المدينة. وسيقدم للمحاكمة غداً» (ص163). وفي نهاية الأمر ينفذ حكم الإعدام بالرجلين في مشهد يتصدَّرُه السياف.
 
مَلاحِظ
 
يُظهر سياق الأحداث في الرواية القليل من العشوائية في السرد، فهو يطيل مثلا في في العرض الخاص بالحامية، وفي التحضير للاحتفال بعيد هرقل. وفي بعض الفصول لا تخدم الإطالة الأحداث وتؤدي إلى إيجاد إيقاع بطيء يترتب عليه الشعور بالملل، ومثال ذلك الفصل الذي تطرق فيه للخدم والعبيد (ص79-114) ففيه مواقع إنشائية عن الربيع، وعن الصحراء، وهو حديث فائضٌ عن الضرورة، ولا يؤدي لشحذ ميكانيكية السرد. علاوة على أن للمؤلف طريقةً في تقديم الشخوص لا تسمح للسارد بالغوص عميقا في النفوس، والتوغل بعيداً في رصد ما تحسّ به، وتشعر، وما يتداعى في أذهانها من أفكار، وما تخفيه في أغوارها من هواجس وأسرار. فالوصف الخارجي، التقريري، للشخوص جعل منها شخصياتٍ باهتة، شاحبة، إلا ما كان من تركيزه على شخصية زينون، فهو النموذج الفريد الذي سعى المؤلف من البداية لاستثنائه من ظاهرة التنْميط المُتكرّرة.
 
على أنَّ المؤلف -في هذه الرواية- يقتصر على رؤية الماضي منفصلا عن الحاضر، إذ ليس ثمة ما يشير إلى ارتباط ما يرويه بدلالاته، وتأويلاته، بحاضرنا؛ بحيث نجد في «أجراس القبار» تطبيقاً عملياً لما يقوله جورج لوكاش. فالرواية التاريخية لديه هي الرواية التي تروي الحاضر وكأنه شيءٌ قد مضى. وقد كنا نأمل أن يذكر الكاتب في إضاءة من فقرة واحدة شيئا عن الحدث التاريخي الذي تناولته روايته، وفي أي حقبة من الزمن وقع، لأن هذا بلا ريب يساعد القارئ على استعادة الأجواء، وملء الفجوات، بما يستذكرهُ من ارتباطات بذلك الحدث، وذاك الزمان. وهذا ما دأب عليه مؤلفو الروايات التاريخية، أمثال أمين معلوف، وباسكال كينيارد، وديفيد براون، وأنطونيو غالا، وقبلهم والتر سكوت، وجرجي زيدان، وآخرون.