Thursday 18th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    16-Feb-2021

أبحاثنا النقدية والأمانة العلمية

 القدس العربي-نادية هناوي

لا عجب أن نجد لدى الباحث الدارس في الجامعات الغربية اهتماماً باستقصاء كل ما كُتب في الموضوع، أو المجال الذي يروم دراسته في بحث ينال به شهادة عليا. وإذا كان هذا الباحث متخصصاً بالأدب العربي ونقده، فستجده لا يتوانى من الوقوف على آخر ما يستجد من أبحاث حول هذا الأدب باللغة العربية أو بلغة أخرى.
يدلل على ذلك ما في المنتج النقدي العالمي من كتب كانت في الأصل أطاريح ورسائل معدة لنيل درجة علمية عليا، وقد يُترجم بعض منها إلى العربية بعد وقت قصير من ظهورها في لغاتها الأم؛ بيد أننا لا نجد مثل هذا الاستقصاء لدى باحثنا، وهو يسعى إلى نيل شهادة عليا من إحدى جامعاتنا العربية العريقة منها والفتية، إذ غالباً ما يكون غير مكترث ولا حريص على الإلمام أو الاطلاع على ما كُتب عالمياً، وحتى عربياً أحياناً في الموضوع الذي يتخصص فيه. وإذا حصل أن استقصى الباحث العربي المصادر الحديثة أبحاثاً وكتباً عربية وغربية، وبذل جهوداً حثيثة في الترجمة والإفادة مما فيها؛ فإن ذلك لا يأتي بغاية إغناء واقعنا الأكاديمي وفتح طريق للباحثين من بعده؛ وإنما قبل ذلك يأتي بقصد الإفادة الفردية من الأفكار الجديدة، وربما الإغارة عليها وتحويرها لتبدو كأنها من عنديات هذا الباحث، فلا هو ذاكر صاحب تلك الأفكار في بحثه، ولا هو مدرج اسم المصدر، وقد يذكر اسمه لكنه لا يدلل على المصدر بنزعة حيازة الأفكار وعدم تمكين الآخرين من بلوغها. والامثلة على مثل هذا التوجه البحثي كثيرة وليست جديدة، وقد بدت واضحة منذ ثمانينيات القرن الماضي، حين كان التيار البنيوي قوياً، وكانت دراسة السرديات تجذب الباحثين في الأدب العربي نحوها، فكانت الإغارة ترجمةً وتحويراً تحصل بشكل متدارٍ كنوع من البحث عن الجدة، وحيازة السبق التحديثي في الخروج على معتادية مشهدنا النقدي، الذي ما زال أغلب المشتغلين فيه لا يتقنون لغة أخرى. ولو بقي باحثنا العربي متقوقعا في برجه على ما لديه من مصادر ومراجع عربية، لكان خيرا له، من تدليس أمر الإفادة من أطاريح ورسائل غربية مستجدة في مجالها والإغارة عليها، أما تغافلا عن ذكر أصحابها أو تغييبا لمظانها عن القراء، وعلى الرغم من ذلك؛ فإن الزمن يظل كفيلاً بأن يظهر التدليس والإغارة.
وكان لدرسنا الأكاديمي العربي أن يتطور، كما تطور الدرس الأكاديمي الغربي، لو اهتم الباحثون عندنا بمواكبة ما يستجد في العالم من دراسات بقصد الإفادة والانتفاع والتأثر. ولا خلاف أن جامعات العالم قبيل عصر النهضة كانت قد أفادت مما كان يجري في بغداد، أو مراكز الثقافة الأخرى في القرون الوسطى من حركة علمية كبيرة، فاستطاعت تلك الجامعات من ثم أن تحمل لواء هذه الحركة عنا، وتبني عليها لتكون اليوم متقدمة بكثير علينا. ولكن أنّى يحصل هذا وباحثنا المتخصص بالأدب العربي لا تعنيه الجدة ولا المواكبة، وهو واثق مما ينجزه بقدراته مقيداً نفسه بحثيا بما أوصله السابقون إليه من منتوج نقدي. وإذا واظب محاولاً أن يتعدى هذا المنتوج العربي إلى آخر عالمي، فوقعت يداه على مصدر جديد لم يترجم بعد إلى العربية، فإن ذاتيته ستدفعه على الأرجح إلى ضرورة التكتم عليه كي يحوز الحسنيين: أولا الجدة التي يدخلها إلى بحثه بادياً للآخرين مفكراً مبتكراً ومنظراً أصيلاً.
 
ادراك أهمية المواكبة والتمتع بالنوعية هو ما يوصلنا إلى مقصدنا الأساس، أعني تطوير واقعنا الجامعي العربي، بعيداً عن مظاهر الكم والعدد التي صارت تطغى على النوعي والعلمي الذي هو بالتأكيد منزه في تحصيله عن التدليس والإغارة.
 
وثانياً السبق الذي به يناكف من يعارضه، أو ينافس فيه من يكافئه أو ينافح به أمام من يناقشه، مظهرا تميزه الفردي وغير متوقع أن المصدر سيُقرأ من قبل أحدهم بلغته الأصل أو أنه سيترجم ويُنشر يوما ما باللغة العربية. وإذا كانت سياقاتنا الأكاديمية تفرض على الباحث أن يستقصي النتاج العربي، مطلعا على ما له علاقة بموضوعه المبحوث كي تحق له دراسته؛ فإن هذه السياقات لا توجب ضرورة استقصاء ما كتب غربيا أيضا. وهو ما ينبغي أن يفرض على الباحث فرضاً، فمرحلتنا لم تعد كما كانت قبل عقد أو عقدين، ثم إننا أصلا بحاجة الى أن نطور قدراتنا كي نكون في مصاف من تقدموا علينا ونفيد من العولمة وما يسرته من متاحات بها دمجت المسافات وقلصت الحدود وقاربت الأبعاد لا بالمعنى الاستراتيجي، وإنما بالمعنى الكوسموبوليتي. وهذا الحال يجعل كثيرا من الأبحاث والكتب والدراسات متوفرة في مواقع الجامعات العالمية كلها العلمية البحتة منها والإنسانية. ومن ثم لا عائق أمام الباحث وهو يسعى إلى استقصاء كل ما له صلة بموضوعه ويخدم تخصصه مساعدا إياه على بلوغ مراميه المعرفية. ولا يصح لباحث أن يدعي ضيق الحال البحثي، وهو ينجز دراسة أكاديمية ينال بها شهادة عليا مثل الماجستير أو الدكتوراه، معتذرا بصعوبة تلبية مقتضيات وحيثيات الموضوع عالميا، غير مدرك أو لا يريد أن يدري ما يجري في مجال تخصصه من متغيرات وتطورات وأين وصلت آخر الأبحاث والدراسات. ولأن هذا الادعاء والاعتذار طاغيان على واقعنا الحالي يغدو طبيعيا جدا رجحان كفة المنتوج الكمي، الذي فيه تعاد الأبحاث اجترارا وتكرارا على كفة ما هو منتج نوعي.
والسبب ما قد يرافق المنتج النوعي من مآخذ ومؤشرات تجعل هذا النوعي مشكوكاً فيه، وربما توضع عليه علامات استفهام، سواء في أحقية نيل هذه النوعية، أو في الدقة والصحة في ما رجع إليه الباحث من مصادر ومراجع؟ وهل كانت له فيها حيازة منحته التميز؟ أو هل تغافل أو غيب مصدرا كان قد ترجمه بنفسه، أو ترجمه له أحدهم، فأفاد منه بشكل كبير في إنجاز بحثه؟
لا ريب أن الأبحاث والدراسات التي أجيزت أكاديميا بتقديرات عالية كثيرة، ومنها ما تم التأشير عليها بأنها أبحاث نوعية، لكن هذه النوعية لا تتحقق إلا إذا توفرت مجموعة مقتضيات علمية ومسائل موضوعية، مثل قدرة الباحث على الإلمام بموضوع دراسته بحثا وتقصيا وتحليلا ورصدا، عارفا كيف ينتقي المصادر والمراجع ويوظفها توظيفا يكسب بحثه جدة ورصانة، ناهيك من المنهجية العلمية التي اتبعها، فبينت له مسارات جديدة وكشفت له عن منعطفات غير منتهجة سابقا، معتمدا في ذلك على حسه المعرفي وغنى خلفياته وثراء قراءاته، وما استوعبه من مسائل أكاديمية تخدم مجاله البحثي. وقد يجتمع كل ما تقدم مع بعضه بعضا مؤكدا هذه (النوعية) وهو ما نراه نادر الحصول بالعموم.
والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو كيف تكون لبعض أبحاثنا ودراساتنا الأكاديمية هذه (النوعية) وهي لم تواكب بعد ما يستجد في مجالها عالميا، إن كانت فعلا قد واكبت مستجداته على الصعيد العربي؟ وكيف لباحثنا العربي أن يواكب المستجد وبغيته ليست تدعيم المعرفة وإغناءها، بل كسب السبق وإظهار التميز على الآخرين؟ وهل يصح أن تتقزم النوعية عندنا في حدود سعي باحثنا العربي نحو تلبية الجوانب الكمية، التي لا تتعدى في مجملها لجان الإشراف والمناقشة والنشر، كي تقر له بالأولوية ولا تؤاخذه على أي مثلبة أو نقص، وعندها يكون (التقدير امتيازا) غاية هي بمثابة تحصيل يتباهى به على رؤوس الأشهاد.
إن ادراك أهمية المواكبة والتمتع بالنوعية هو ما يوصلنا إلى مقصدنا الأساس، أعني تطوير واقعنا الجامعي العربي، بعيداً عن مظاهر الكم والعدد التي صارت تطغى على النوعي والعلمي الذي هو بالتأكيد منزه في تحصيله عن التدليس والإغارة. وهذا الأمر هو ما يتطلب قولا فصلا ووقفات نقد نقدية ترصد الملابسات والمآخذ، وتدلل على مواطن القصور إزاء ما يُعد أصيلا ومبتكرا وهو ليس كذلك، متسائلين: أهي في تقديراتنا لتلك الأبحاث بوصفنا قراء ودارسين؟ أم هي في الأبحاث نفسها؟ وما مدى التزلف والفذلكة التي يتبعها أصحابها مقدمين أبحاثهم، التي ستصير كتبا وهي ملأى بعبارات (دراستي الأسبق/ موضوعي لم يُسبق/ كتابي هو الأول..) التي تجعل المتن لامعاً بالنوعية، بينما هذا اللمعان هو في الظاهر فقط وسرعان ما يخفت لتكون العتمة حالكة في العمق؟
بالطبع لا يتاح لنا أن نجيب عن هذين السؤالين ما لم نحدد الذي نرمي إليه من ناحية المجال والموضوع والغاية المراد تحصيلها.
 
كاتبة واكاديمية من العراق