Friday 26th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    13-Mar-2020

قراءة في «ديوان الغجر» للأديب هاشم غرايبة

 الدستور-مجدي دعيبس

يبدو أن الأديب هاشم غرايبة قد طرح قلم الروائي جانبا وبرى قلم الباحث والدارس فخرج علينا بهذا الكتاب الجميل؛ (ديوان الغجر) مع أن العمل الروائي يحتاج في أغلب الأوقات إلى بحث ونبش وتنقيب وقراءات مستفيضة لخدمة البناء الفني للرواية وتحديد ملامح الزمان والمكان، ولكن ليس البحث بغرض تدوين النتائج والملاحظات في كتاب للدراسات الاجتماعية أو الإنسانية مثلا. وما زلت أقول إن الجمال من أبهى الصفات التي يمكن أن تُنسب إلى الكتاب لأنه حينئذ يشتمل على حلاوة اللغة وطرافة الموضوع وغزارة الإفادة بالإضافة إلى الشخصية التي تكون –برأيي- من خلال تصميم الغلاف والإخراج الفني. ربما –وهذا من باب التخمين وحسب- أنه في خضم تحضيره لكتابة رواية عن الغجر قد تجمّع لديه ملاحظات جمّة وعندما قام بإعادة تبويبها وتصنيفها ظهر أمامه ما أسماه (ديوان الغجر). ولعل هذه القصة تتكرر مع الباحثين على اختلاف مللهم ومذاهبهم؛ يدرسون أمرا ما ويخضعونه لفحوصهم وأدواتهم، وفي ظنهم أنه سيقودهم إلى نتيجة محددة لكن البحث يأخذهم في اتجاه آخر، وعند الإتيان بحركة غير مقصودة، يتحرك الحجر الكبير وتنفتح أمامهم مغارة علاء الدين.
وليس هذا بالأمر المستغرب على هاشم غرايبة الذي كتب في الزمن الصعب واستمر على أسلوبه ونهجه وكتب عن الإنسان وأسئلة الوجود وحيرة العاقل في الزمن اللاحق الذي كشّر عن صعوبة أكبر ووعورة أشد. كتب للطفل وللمسرح وكتب بالنقد والرواية والقصة وها هو يطرق باب الدراسات الاجتماعية ويضيف للمكتبة العربية كتابا يقوم جُلّهُ على العمل والتحقيق الميداني و القليل منه على البحث من خلال نفض الغبار عن أرفف المكتبات العامة أوالتقصّي من خلال الشبكة العنكبوتية كما هو مبين في قائمة المراجع التي أوردها الكاتب.
وإذا كان العنوان العتبة الأولى التي نلج منها إلى النص فإن العنوان الذي اختاره الكاتب يفتح الباب على مصراعيه أمام المتلقي حتى يستبق النص ويشكل انطباعاته الأولى عنه. وعلى الأغلب جاء (ديوان الغجر) على منوال الشعر ديوان العرب، أي أن الشعر قد دوّن تفاصيل حياة العرب في ذلك الزمان وفصّل الحوادث المشهودة التي مرت بهم وبيّن مفاتيح شخصية العربي في تلك الصحراء الغارقة برمالها وكثبانها، وكذلك فعل غرايبة في كتابه الأخير ودوّن ما شهده وسمعه في خرابيش النور من خلال عملية التحقيق المقصودة لأغانيهم وأشعارهم وحكاياتهم ونقلها من المشافهة إلى التدوين وهذه ليست عملية سهلة وخاصة الجزء المتعلق بالأشعار لأن ما يصلح للمشافهة قد لا يصلح للتدوين ومن هنا جاء دور الكاتب بتجويد المفردة وإبراز الصورة ولملمة الموضوع، وفيما يبدو لي فإن الكاتب قد حشد كل أدواته من لغة وخيال وثقافة ورؤية بالإضافة إلى الكثير من الصبر والأناة حتى تمكن من إخراج هذه النصوص الشعرية بالشكل التي هي عليه.
تم تقسيم الكتاب إلى مقدمة وتسع ديوانيات واشتملت كل ديوانية على عدد متفاوت من الأشعار والحكايات وهذا ما صرّح به الكاتب على الغلاف من خلال العنوان الفرعي (حكايات وأشعار عن مجتمع الغجر).ونبدأ من حيث انتهى الكتاب وهو القسم الأخير من ديوانية الوصايا والذي حمل عنوان (الوصايا العشر) لأنها ترسم شخصية الغجري المتحرر من الضوابط والمغامر وتُظهر نوازعه وهواجسه فتصبح أفعاله وردود أفعاله متوقعة ومفهومة. تكشف هذه الوصايا الروح التي تسكن الغجري وتبين فلسفة الحياة لديه وهي في مجملها دعوة للتحرر من الوقت والمكان والبحث عن لذة اللحظة وعيشها حتى الثمالة (المتعة ضالة الغجري أنّى وجدها قطفها، ص 199)، وهذه الفلسفة تشتمل أيضا على نزعة بوهيمية كما هو واضح في الوصية الثالثة أو ثالث هام (النار والماء والطعام والجنس مشاع بين الغجر، ص 198).يمكن أن نقول إن هذه الوصايا تصلح لأن تكون مفتاحا للتصرفات والسلوكيات التي تظهر في معظم الأشعار والحكايات.
في المقدمة نبش الكاتب ذاكرته وعرض مشاهداته وما اختبره من مجتمع النّور عندما كان صبيا وفتى صغيرا يتفرج على عروضهم عندما ينزلون شرق قريته حوارة. واشتملت هذه العروض علىالرقص والغناء وخفة الحركة والتوازن والمبارزة وغيرها. كما تعرّض المؤلف لهيئة النّور وملابسهم والحرف التي يتقنونها بالإضافة إلى بعض المواويل وحكاية طريفةللأطفال بعنوان السحلية والفأر. الأغاني وصوت الربابة جزء من حياة الغجر وأسلوب عيشهم. ربما كان بعض هذه الأغاني من تراث بعيد ومتوارث عبر الأجيال وربما دخل التحديث على بعضها بفعل الزمن واستعاراته الجديدة (واحد اثنان ثلاث وعشرون مرة خنتك/ وتبقى رائحتك في ثيابي/ مثل نكهة العشب في اللبن/ لا تزول، ص25).
من نص بعنوان شمسنا من ديوانية الشمس أورد المقطع التالي الذي يفضح المنهج الغجري (نحن كالماء نأخذ شكل المكان/ الحياد اليقظ فطرتنا/ أينما رمت بنا المقادير نعيش/ نغني فتألفنا القلوب/ نرقص فتتمايل معنا الكائنات، ص61). وفي مملكة الحب والنسيان وهي حكاية من الديوانية ذاتها وفي غيرها من الحكايات تظهر روح السرد وخط الدراما فتبدو وكأنها إحدى قصص ألف ليلة وليلة بشخصيات ووقائع مغايرة وربما يقودنا هذا للتفكير بأن ألف ليلة وليلة ما هي سوى مستودع لحكايات الشرق القديم من أقصاه إلى أقصاه بكل حضاراته وثقافاته.جاءت الأشعار في مجملها لتعبر عن الضمير الجمعي للغجر غير أنني وجدت هذا المقطع من الغزل الرقيق (لو أنني صانع نبيذ/ لما بعت منه شيئا/ وأهديته كله لأبيك/ لو أنني وردة/ لاندسيت بين نهديك والثوب/ حتى أذوي)، ومن المناجاة أورد المقطع التالي (يا رب/ أنت عظيم/ وأنا غجري بائس/ كيف أوصل كلماتي إلى سمائك)، ومن قصيدة بعنوان (ارقص يا حزين) تقول الغجرية (تعال إلي أيها الحزين/ تعال وارقص معي/ لك في صدري نار/ وزوج حجل/ ضع ذراعك القوية حول خصري/ ضمني إلى صدرك/ لأسقيك خمرتي/ وأنسيك حزنك الثقيل).
وعند محاولة تبرير نمط عيش النّور وموضوعة الترحال من وجهة نظر مثيولوجيّة تظهر مرويات كثيرة منها أنهم من نسل قابيل قاتل هابيل فأُجبروا على السفر والتنقل كعقاب لهم، ورواية أخرى تقول إن الحداد الذي صنع المسامير التي دُقت في يدي وقدمي المسيح كان غجريا. وهناك من يقول إنهم من نسل جساس قاتل كليب، فشتتهم الزير في الأرض ومنعهم من إشعال النار، هذا بالإضافة إلى مقولات أخرى لا مجال لذكرها هنا. ولكن ربما – وهذا مجرد رأي- أن الترحال هو الذي اختارهم وليس العكس بمعنى أنهم أي الغجر مجموعةمختلفة من الناس تمثل نظاما اجتماعيا واقتصاديا متكاملا، وأن الجانب الاقتصادي يفرض عليهم التجوال بحكم أن السلعة التي يقدمونها -والمنبثقة من التكوين الاجتماعي- وهي أعمال السيرك وقراءة الكف وبعض الحرف اليدوية مرتبطة باللامكان أي تغيير المكان كل حين لتنشيط الدورة الاقتصادية والوصول إلى أناس جدد قد تهمهم الخدمات والسلع المعروضة.
وفي الختام لا بد من المرور على مسألة أشار إليها المؤلف وهي خيانة الأصل (ص 57). لا شك أن النقل من ثقافة مختلفة ولغة أشبه ما تكون بالرطانة عملية يعتريها الكثير من المحاذير والمزالق الأمر الذي يستدعي جهدا كبيرا ومثابرة لا تنضب؛ تحرير النص وتركه لعدة أيام ثم إعادة تحريره وتكرار العملية حتى يصبح النص أقرب ما يكون إلى روح النص الأصلي. ولا ننسى القول المعروف في الترجمة وخيانة النص (أيها المترجمون، أيها الخونة!). وهي خيانة قسرية لا فرار منها لأنه لكل لغة خصوصيتها وشخصيتها التي تبرز من خلال المفردات والصور والتراكيب، على أن الأستاذ هاشم غرايبة قد بذل في هذا الكتاب ما بذل حتى خرج بهذه الصورة البهية وله كل التقدير على هذا العمل الجميل والجهد السخي.
ومما يذكر أن الكتاب يقع في 207 صفحات من القطع المتوسط وهو من اصدارات وزارة الثقافة لعام 2019 ولوحة الغلاف للفنان السوري رامي صابور، أما كلمة الغلاف فهي نص من متن الكتاب ومما جاء فيه (الغجر يميلون إلى المحو والنسيان، والكتابة تدوين وتذكير، وإذا كانت الملل البشرية قد قدّست مدوناتها المثيولوجيّة، فإننا لا نجد لدى الغجر نصا مقدسا، ولا حكاية مركزية تمجّد الأجداد والجدات، لكننا نجد حكايات وأشعارا وأمثالا وسلوكيات وقيما وعادات وتقاليد مشتركة، تشكل نمط عيش مقدسا عندهم ... ).