Thursday 28th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    21-Nov-2020

فرنسوا بورغا والعالم العربي… سيرة ألف باب وألف إسلامي

 القدس العربي-محمد تركي الربيعو

في السنوات الأخيرة، كانت كتابات فرانسوا بورغا وغيره من الباحثين الفرنسيين من أمثال أوليفيه روا قد غدت مرجعا رئيسيا لفهم تجربة الإسلاميين والجهاديين المعولمين. وقد ترجمت معظم كتب هذين الباحثين للعربية، ما أتاح تفاعلاً واسعاً معها، لفهم كثير من الأحداث والتحولات الدينية والسياسية، وبالأخص مع تحول المنطقة إلى ملاذ للبداوة الجديدة، وفق تعبير روا، التي أخذت تضرب وتؤسس لولايات هنا وهناك، وتتبنى أحيانا عمليات في العواصم الأوروبية. وقد دفع هذا الاهتمام دار الساقي اللندنية، التي كان لها فضل كبير في تعريفنا بالعديد من الباحثين الفرنسيين في عالم الإسلاميين، في السنتين الأخيرتين إلى ترجمة السير البحثية أو الميدانية، لكل من فرانسوا بورغا وأوليفيه روا، ما وفر لنا معرفة أدق بالأجواء والظروف وخلفيات بعض الكتب التي كتباها عن العالم الإسلامي.
في سيرة روا، التي عرضناها في وقت سابق، كنا أمام مشهد سندباد آسيا الوسطى وهو يروي لنا يومياته في أفغانستان وطهران وتركيا وطاجيكستان قبل أن تتنتهي به الدروب مؤقتاً في دير مسيحي سابق، في إحدى المدن الإيطالية، ليبقى قريبا من رياح الشرق. أما مع فرنسوا بورغا، فإننا سنتعرف هذه المرة على سندباد آخر، ولكن ليس في آسيا الوسطى، بل في العالم العربي. ففي كتابه الأخير «فهم الإسلام السياسي» يعود بنا بورغا إلى ذاكرته قليلا، خلافا للعنوان الذي لا يوحي بذلك، ليروي لنا جزءاً من سيرته الميدانية، إذ يؤكد أن هذا الكتاب لا يضم قصصا شخصية عنه، بل عن تجربته البحثية في العالم العربي.
تشكلت عائلته، كما يذكر، وفق طبقات تراكمية ذات طبيعة متنوعة، ففرع من عائلة أبيه كان قد هاجر إلى الجزائر في القرن التاسع عشر، وهناك جمع قسم منهم ثروة كبيرة، وكان أحدهم مسؤولا عن هندسة مدينة الجزائر.. كانت العائلة قد انقسمت بين من يؤيد قمع الجزائريين، وجيل آخر وجد من الضرورة التكفير عن أخطاء أجدادهم، وهنا يقول: «أما أنا فانتميت إلى هذا الفرع الأخير في صباح خريفي 1973».
كان لقاؤه الأول بالعالم العربي في السادسة عشرة من عمره، عندما زار القدس برفقة عمته. ولم يفهم في هذه الزيارة، وكما يذكر، الكثير عن هذا المشرق العربي. سيقال له يومها إنّ الإسرائيليين نجحوا في زرع الورود وسط الصحراء.. بعد ذلك بسنوات، سيعاود هذا الشاب التجوال في أوروبا، قبل أن يقرر السفر مرة أخرى إلى الشرق: بغداد هي وجهته الجديدة. لا يذكر أسباب اختياره لهذا البلد، وربما كانت الأحلام الشرقية التي دفعت أوليفيه روا، كما يذكر في سيرته، للبحث عن الشرق المفقود الرومنطيقي هي ذاتها التي دفعت بورغا للسير في هذا الدرب. في طريقه، أخذ يعبر عشرات البوابات والمخافر الحدودية الجديدة، التي تشكلت قبل قدومه بعدة عقود، كان حراس الحدود يفتحون علب المربى والفول لفحصها، وفي طريقه سيزور حي الحريقة في مدينة دمشق، وهو الحي التي تعرض لقصف فرنسي خلال العشرينيات من القرن الماضي، وفي إعادة تذكره، سيعيدنا إلى مقولة للمؤرخ الفلسطيني طريف الخالدي، في إحدى مقابلاته الأخيرة عندما عرّف الذاكرة والسير بوصفها عملية اختيارية وحمالة وجوه عديدة؛ ولذلك سيتناسى بورغا باقي الأحياء الدمشقية التي زارها، وبدلاً من ذلك، ركز على قصة الحريقة، وظلم الاستعمار ليدعم سرديته التي بناها لاحقا في كتبه حول صعود الإسلام السياسي، فهؤلاء لم يأتوا من فراغ، بل جاؤوا كردة فعل على الاستعمار، والدول الوطنية اللاحقة لهم. وصل إلى أمام بوابات العراق، لكنه لن يتمكن من الدخول بسبب انتشار الكوليرا، ومن المفارقات أنّ الكاتب سيعود لهذا البلد بعد 44 عاماً على مقعد خلفي من سيارة مصفحة برفقة عناصر مسلحين من السفارة الفرنسية.. بعد أن خاب ظنه، أخذته قدماه إلى حلب، وهناك سيتنبه إلى أنّ قسما كبيرا من أهالي حلب، بشقارهم وعيونهم الزرقاء، لا يختلفون كثيراً عن أهالي فرنسا، ولو أنّ أحدهم سار في مدينته بعد تغيير ثيابه لما جرى تمييزه..
في السبعينيات، سيجول هذا الباحث في بلدان عديدة في الشرق والغرب، قبل أن يعمل نادلاً في أحد المطاعم في أمريكا.. كان من الضروري اكتشاف هذا العالم الجديد، كما يقول، أو ربما كانت الأقدار تقوده إلى الرحلة ذاتها التي قام بها سيد قطب، أحد أبطال كتاباته، في فترة الخمسينيات إلى الولايات المتحدة الأمريكية.. هناك سيرى بورغا أنّ الأمريكيين لا يعرفون شيئا عن أوروبا العجوزة، كانوا يسألونه إن كانت هناك تمديدات مياه للشرب في مدينته. ما لاحظه في هذه الزيارة هو النظرة العنصرية الأمريكية تجاه العالم الآخر بمن فيهم الأوروبيون.. قرر الشاب دراسة الحقوق، وبعدها بسنوات وجد نفسه أستاذا في جامعة القسنطينة في الجزائر، وإلى هنا، لم يكن الإسلام السياسي قد لفت نظره.
 
لكن بورغا لن يقف عند حدود الأهرامات، بل ستدفعه هواياته في الأسفار إلى زيارة السودان، واللقاء بمؤسس الإسلام السياسي هناك، الراحل حسن الترابي، الذي سيخبره أنّ «الناس في القرية يسألوننا: هل يمكننا الصلاة بالبنطلون؟ يرفض الصوفيون ذلك، أما نحن، فكنا نقول إنها مجرد شكليات».
 
إذ يذكر أنّ قدومه هذه المرة لم يكن شغفا بالشرق، بل هربا من الخدمة العسكرية.. في تلك السنوات، ستقوده الدروب إلى بوابة أفكار مالك بن نبي، لتنضج معه أفكاره حول الهيمنة الثقافية والعنف الرمزي الذي يقوده الغرب تجاه هذا العالم، كان مالك بن نبي يرى أنّ المجتمع المسلم في زمنه قد غدا مبتذلاً في الأعلى، وفقيراً في الأسفل، حتى لباس الرجال كان يتأثر ويتراجع أمام الألبسة الأوروبية من مخازن اللباس المستعملة في مرسيليا.. بعد سنوات، ستساعده هذه الملاحظات حول البعد الهوياتي للهيمنة في تشكيل منطلق تأويله لظاهرة الإسلام السياسي، وربما إلى يومنا هذا.. سيقرر، بعد سنوات، السفر إلى ليبيا بعد قدوم القذافي.. وفي أحد الأيام، سيلتقي بهذا القائد، صاحب الكتاب الأخضر، الذي سيطلب منه دراسة المجتمع الليبي، وأن يكون طبيب المجتمع الليبي، الذي يدرسه ويكتب علاجاً لمشاكله، لكن بورغا بدا أحيانا وكأنه يخشى مصير موسى الصدر، الذي غاب نتيجة جدال مع القذافي، ولم يخرج ليومنا هذا. كما سيتمكن بورغا في هذه الفترة من زيارة تونس، وهناك سيلتقي براشد الغنوشي. كان رؤيته عنه في البداية، كما صورته الصحف الفرنسية، رجلا متشدداً، لكن بعد ساعات من اللقاء، سيعيد النظر في فكرة التشدّد والأصولية، لتغدو لاحقا منعرجاً في رؤيته هو وبعض الباحثين الفرنسيين، الذين ما عادوا مقتنعين بمصطلح «الأصولية» وفضلوا عليه مصطلح «الإسلام السياسي».
 
القاهرة.. كلام الأفلام
 
مع نهاية الثمانينيات، حطت طائرة في القاهرة وعلى متنها هذا الباحث، كانت الصدمة هي أول شعور اختبره في هذا البلد، فالكثافة السكانية كبيرة، والناس يتحدثون كما الأفلام، لكن الأثر الاستعماري في هذا البلد لم يكن واضحاً، وفي هذا البلد، سيتأثر أيضا ببعض مفكريها من أمثال اليساري عادل حسين وطارق البشري، الذي كان يبوح له أحيانا بهواجسه، (وهي هواجس بقي بورغا مولعاً ومشتاقاً لسماعها) حيال أسباب عدم فهم الغرب للآخر.. لكن بورغا لن يقف عند حدود الأهرامات، بل ستدفعه هواياته في الأسفار إلى زيارة السودان، واللقاء بمؤسس الإسلام السياسي هناك، الراحل حسن الترابي، الذي سيخبره أنّ «الناس في القرية يسألوننا: هل يمكننا الصلاة بالبنطلون؟ يرفض الصوفيون ذلك، أما نحن، فكنا نقول إنها مجرد شكليات»، ويبدو بورغا، في هذا الاستشهاد، وكأنه يود أن يقول بأنّ ما جعل هذه الحركات ذات نشاط وفعالية، أنها بدت في الثمانينيات والتسعينيات أكثر مؤامة لقيم الحداثة ، مقارنة بالحركات الدينية التقليدية.
 
أبواب اليمن
 
بعد ذلك بسنوات، ستقلع طائرة أخرى، وعلى متنها هذا المولع بعوالم السياسيين وبوابات العالم العربي، وهذه المرة إلى اليمن الذي بدا له مهمشا على صعيد البحث والاهتمام. في هذه السنوات، سيلعب دورا في تنشيط البحث الفرنسي حول هذا البلد، من خلال إدارته للمعهد الفرنسي للدراسات اليمنية، لكن بورغا، وربما هذا ما يميزه، لن ينسب جميع الجهود له في تعريف الفرنسيين بهذا البلد وتاريخه، بل يذكر اسماء فرنسية أخرى في هذا الشأن، وربما أهمهم، كما يذكر، الأنثروبولوجي الفرنسي فرانك ميرمييه مؤلف كتاب «شيخ الليل وأسواق صنعاء»؛ كان اليمن يقدم مثله مثل السعودية، كما يقول، سمة خاصة تتمثل في غزارة المصادر والمخطوطات غير المقروئة، ورغم أن البلد لم يخضع للاستعمار، كما يذكر إلا في فترة قصيرة، لكن هذه التجربة ستساعده بلا شك على الخوض أكثر في تاريخ هذا البلد، وأيضا في فهم تنامي ظاهرة القاعدة في الجنوب اليمني، غير أن بورغا في هذا الجانب، سيبقى يصر على زاويته «ما بعد الاستعمارية» إن صح التعبير، رغم أنه لا يحبذ عالم المابعديات، إذ وجد أنّ سبب هذا الظهور ناجم عن وجود استعماري بريطاني قصير في جنوب اليمن، وأنّ هذا الوجود هو الذي شكل لاحقاً أو أسس لتراتبيات سياسية، أدت لظهور الجهاديين اليمنيين، ولعله لم يتوقع يومها وهو يقدم هذا التحليل، أنّه بعد قدومه بسنوات، سيأتي باحث بريطاني يدعى جيمس سبنسر ليدرس هذه الظاهرة مرة أخرى، من خلال الاستفادة من الوثائق العديدة التي تحدث عنها بورغا، ولكن هذه المرة، ليس عبر ربطها بالاستعمار، بل بسلسلة من المقاتلين والسيوف اليمنية العابرة للحدود منذ القرن الثامن عشر.
 
 
يخصص بورغا فصلا واسعا لبوابات بلاد الشام، وبالأخص تجربته في سوريا عندما أدار المركز الفرنسي للشرق الأدنى الواقع في بدايات شارع أبو رمانة الدمشقي الشهير، الذي شكل في السنوات السابقة للثورة منطقة يحج إليها الدمشقيون الباحثون عن سلع وأجواء حداثوية، وبالأخص في شارع الشعلان القريب من هذا المركز.. في هذا البلد، كان الأمن يحكم سيطرته بشكل كبير لدرجة أنهم كانوا يستجوبون خادمة منزله، مع ذلك أتيحت له فرصة اللقاء بسوريين كثر، والذهاب أيضا إلى بعض شوارعها وأبوابها القديمة مثل باب الصغير، وتذوق الشاورما السورية في مطعم الصديق، الذي لم يكن مطعما للجميع، بل كانت تزوره فئات محددة، كما تمكن من زيارة مخيم اليرموك. ومما سجله بورغا في جولاته، أنه «ثمة تصدعات اقتصادية واجتماعية في هذا البلد»، وهنا يرى أنّ التصدعات الطائفية كانت موجودة، وأنّ المسيحيين السوريين كانوا يعبرون عن تخوفاتهم من قدوم السنة للسلطة، وربما هذا ما أدى برأيه لاحقاً إلى وقوفهم بجانب النظام؛ وعلى الرغم من وجود هذه الصور التي ذكرها، إلا أننا نرى أن بورغا قد بالغ قليلاً في هذا التصور للمجتمع السوري، بوصفه مجتمعا منقسما طائفياً، وهذا ما وقع به كثيرون ممن سبقوه ومن بينهم ميشيل سورا، التي بقي صائغ النسخة الخلدونية الجديدة/ارنست غلنر مرشده في رسم صورة المدينة العربية، الأمر الذي لم يتح لهم أحيانا قراءة العلاقات البينية واليومية بين هذه الجماعات، وبالأخص في السنوات العشر الأخيرة ما قبل الثورة، إذ كنا نعثر على ولادة رؤى وتصورات مختلفة حول العلاقة بين الطوائف، وأيضا حيال علاقة الدين بالحياة اليومية، ولذلك نرى أنّ الإنقسامية الطائفية التي حكمت رؤية بورغا للمجتمع السوري تبقى رؤية غير مكتملة، أو لم تكن بتلك الحدية، أو ربما عززت الأحداث اللاحقة من هذا التصور. وبغض النظر عن هذه القراءة، ومدى حديتها، تبدو دمشق بالنسبة لبورغا بمثابة غصة وحرقة كبيرة في القلب، صحيح أنه لا يذكر ذلك بشكل مباشر، لكن مشاعره ومشاهداته وألمه حول ما حدث، كلها تقول إنه قد أصيب بهوى دمشقي، كما أصاب كثيرين من قبله.
 
الغريمان التقليديان
 
في باقي فصول الكتاب (تقريبا الثلث الأخير) يخصص بورغا الحديث عن المسلمين في فرنسا وأحداث «شارلي إيبدو»، وما قيل حولهما، وبالأخص ما قاله غريماه التقليديان أوليفييه روا، وجيل كيبل.. كان روا في كتابه «الجهاد والموت» قد لمح حول قصور تحليلات بورغا حول الجهاديين وربطها بالاستعمار وأزمة الشرق الأوسط، بينما وجد أنّ «الهجمات التي شهدتها فرنسا لا علاقة تذكر لها بنزاعات الشرق الأوسط». وفي هذه الفصول يبدي بورغا تقديراً كبيرا لروا، بعكس كيبل، لكنه يرى أنّ تحليل روا وقع أيضا في التعميم للإسلاميين أحياناً، من خلال إسقاط نتائج دراسته حول الإسلاميين في بلدان آسيا الوسطى على باقي التجارب الإسلامية، بينما لم تتشكل لديه معرفة ميدانية موازية في العالم العربي، ليتفحص مثلاً مدى صحة استنتاجاته السابقة، ولعل ما يدعم رأي بورغا هنا هي مذكرات روا نفسها، إذ نكتشف في هذه المذكرات أنّ معرفته بالعالم الإسلامي قد تركزت على آسيا الوسطى، بينما لم يزر العالم العربي إلا في مرات نادرة وقليلة، مع ذلك بقي يعمم نتائجه، ولذلك يبدو بورغا هنا على حق فعلا، وصاحب خبرة أو شرعية أوسع في تحليل العالم العربي بحكم تجربته الميدانية الطويلة. مع ذلك، لا يرى تناقضا كبيرا مع روا، خلافا لجيل كيبل، والذي برأيه يجيد العلاقات العامة والقدرة على تأليف الكتب، لكن رؤيته بقيت تنطلق من فكرة تحليل النصوص الإسلامية ونتائجها العنيفة، بدءاً بسيد قطب ومقتل أنور السادات، مروراً بكتابات أبو مصعب السوري والجهاديين الفرنسيين، وهو تحليل يراه بورغا غير صائب، فالإسلاميون لا ينطلقون فحسب من النصوص، بل تحركهم أيضا الوقائع والأحداث الاجتماعية والاقتصادية، كما يشكك في مكان آخر بنزاهة كيبل الميدانية، فهو في زيارته للعراق مثلاً، كان يركب سيارات دبلوماسية، ولم تستغرق جولاته الميدانية سوى ثلاثة أيام فحسب، خلافاً لما يتوهمه القارئ وهو يقرأ عن رحلاته. وإن كانت هناك من فضيلة لكيبل، كما يؤكد بورغا، فهي تمكنه من تأهيل عدد من الباحثين الشبان من أمثال توماس بيريه وستيفان لاكروا ولولوة الرشيد.
يختتم بورغــــا كتابه بسؤال ذو نكهة شامية «وهلأ لوين/إلى أين الآن» في إشــارة لكيفية التعامل مع الإسلاميين، وضرورة الانفتاح عليهم بدلاً من القطيعة، وفسح المجال لمزيد من الرعب في فرنسا والمنطقة عموما.
 
٭ كاتب سوري