Wednesday 24th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    17-Sep-2020

جنِّي الهندسة الوراثية خرَج من القمقم

 الغد-فيفك وادوا – (فورين بوليسي) 11/9/2020

 
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
 
يجب أن نتعامل مع جائحة كورونا باعتبارها تمرينا كاملا على ما سيأتي، بما في ذلك الفيروسات التي يصممها البشر عن عمد.
 
* *
اقترح الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي عادة ما يكون مفيدا للاستشهاد بنظرية مؤامرة أو اثنتين، أن الفيروس المسبب لـ”كوفيد 19″ إما تمت هندسته عن قصد، أو نتج عن حادث في معمل في معهد ووهان لعلم الفيروسات في الصين. ويمكن تصوّر أن يكون إطلاق الفيروس مصحوبا بحادث، لكن العامل الممْرِض في هذا الفيروس ليس خليطا من الفيروسات المعروفة التي يتوقعها المرء في شيء مصمم في المختبر، كما يوضح تقرير بحثي في مجلة “طب الطبيعة” Nature Medicine بشكل قاطع. وقال الباحثون: “لو كان أحد يسعى إلى هندسة فيروس كورونا جديد بحيث يكون عامِلا مُمرِضا، لكانوا قد صنعوه من العمود الفقري لفيروس معروف بأنه مسبب للمرض”.
ولكن، إذا لم تكن الهندسة الوراثية (الجينية) وراء هذا الوباء، فإنها يمكن أن تطلق الوباء التالي. فمع إجبار “كوفيد 19” الاقتصادات الغربية على الركوع على ركبها، أصبح جميع الديكتاتوريين في العالم يعرفون الآن أن الجراثيم المسببة للأمراض يمكن أن تكون مدمرة مثل الصواريخ النووية. بل إن الأكثر إثارة للقلق هو أن الأمر لم يعد يتطلب وجود معمل حكومي مترامي الأطراف لهندسة فيروس. بفضل الثورة التقنية في الهندسة الوراثية، أصبحت جميع الأدوات اللازمة لإنشاء فيروس رخيصة جدا وبسيطة ومتاحة بسهولة بحيث يمكن لأي عالم مارق أو متسلل بيولوجي في سن الكلية استخدامها، مما يخلق تهديدا أكبر بكثير. ويمكن الآن إجراء التجارب التي كان يمكن إجراؤها ذات مرة فقط خلف الجدران المحمية للمختبرات الحكومية والشركات، على طاولة المطبخ باستخدام معدات موجودة على موقع “أمازون”. لقد خضعت الهندسة الوراثية -بكل إمكاناتها للخير أو للشر- للدمقرطة.
لتصميم فيروس، فإن الخطوة الأولى للباحث البيولوجي هي الحصول على المعلومات الجينية لمسببات الأمراض الموجودة -أحد فيروسات كورونا التي تسبب نزلات البرد على سبيل المثال- والتي يمكن بعد ذلك تغييرها لخلق شيء أكثر خطورة. في سبعينيات القرن الماضي، استغرق أول تسلسل جيني لبكتيريا، هي “الإشريكية القولونية” Escherichia coli، أسابيعا من الجهد وكلف ملايين الدولارات فقط لتحديد 5.836 زوجا أساسيا، وهي اللبنات الأساسية للمعلومات الجينية. واليوم، يمكن إجراء تسلسل أزواج القواعد البالغ عددها 3.000.000.000 التي تشكل الجينوم البشري، والتي تملي بناء الإنسان وصيانته، في غضون ساعات قليلة مقابل حوالي 1.000 دولار في الولايات المتحدة. وأخبرني زن زو، الرئيس التنفيذي لشركة أبحاث الجينوم الصينية BGI Group، عبر البريد الإلكتروني أنه يتوقع عرض تسلسل الجينوم البشري الكامل في محلات السوبر ماركت وعلى الإنترنت مقابل 290 دولارا تقريبا بحلول نهاية هذا العام.
الخطوة التالية في هندسة فيروس هي تعديل جينوم الفيروس المُمرض الحالي لتغيير آثاره. وتعمل إحدى التقنيات بشكل خاص على تسهيل هندسة أشكال الحياة تقريبا كما هو الحال في تحرير مستندات “ميكروسوفت وورد”. ويستخدم نظام تحرير الجينات “كريسبر” CRISPR، الذي تم تطويره منذ بضع سنوات فقط، نفس الآلية الطبيعية التي تستخدمها البكتيريا لقص أجزاء من المعلومات الجينية من جينوم وإدخالها في جينوم آخر. وقد تحولت هذه الآلية، التي طورتها البكتيريا على مدى آلاف السنين للدفاع عن نفسها من الفيروسات، إلى طريقة رخيصة وبسيطة وسريعة لتحرير الحمض النووي لأي كائن حي وتعديله في المختبر.
إذا كان التجريب في الحمض النووي يتطلب سنوات من الخبرة، وتوفر مختبرات متطورة، وملايين الدولارات، فإن “كريسبر” غير كل ذلك. لامتلاك قدرة تحرير “كريسبر”، يحتاج الذي يريد التجريب فقط إلى طلب شذرة من الحمض النووي وشراء مواد كيميائية وإنزيمات جاهزة، بتكلفة قليلة فقط، على الإنترنت. ونظرا لكونها رخيصة للغاية وسهلة الاستخدام، يقوم آلاف العلماء من جميع أنحاء العالم بإجراء تجارب على مشاريع تحرير الجينات المستندة إلى تقنية “كريسبر”. والقليل جدا من هذا البحث مقيد باللوائح والقوانين، فيما يعود إلى حد كبير إلى حقيقة أن المنظمين لم يفهموا بعد ما أصبح ممكنا فجأة.
حققت الصين، بتركيزها على التقدم التقني قبل السلامة والأخلاق، أكثر الإنجازات إذهالا في هذا المضمار. في العام 2014، أعلن علماء صينيون أنهم نجحوا في إنتاج قرود تم تعديلها وراثيا في المرحلة الجنينية. وفي نيسان (أبريل) 2015، قامت مجموعة أخرى من الباحثين في الصين بوضع تفاصيل أول جهد على الإطلاق لتعديل جينات جنين بشري. وفي حين فشلت المحاولة، فإنها أصابت العالم بالصدمة: لم يكن من المفترض أن يحدث هذا بهذه السرعة.
وفي نيسان (أبريل) 2016، أفادت مجموعة أخرى من الباحثين الصينيين أنهم نجحوا في تعديل جينوم جنين بشري في محاولة لجعله مقاوما لعدوى فيروس نقص المناعة البشرية (الإيدز)، على الرغم من عدم ترك الجنين يكتمل. ولكن بعد ذلك، في تشرين الثاني (نوفمبر) 2018، أعلن الباحث الصيني هي جيانكوي أنه ابتكر أول “أطفال كريسبر” -وهم أطفال أصحاء تم تعديل جينومهم قبل ولادتهم. وتدفقت صحيفة “الشعب اليومية” بالحماسة حول “الاختراق التاريخي”، ولكن بعد ضجة عالمية، قامت السلطات الصينية -التي يدّعي أنها دعمت جهوده- باعتقاله وحكمت عليه فيما بعد بالسجن ثلاث سنوات بتهمة السلوك غير الأخلاقي. لكن هذا الحد في العلوم الطبية الحيوية تم تجاوزه بطريقة لا رجعة فيها.
من المؤكد أن مجموعة العلماء المارقين في الصين تثير القلق. لكن تكنولوجيا تحرير الجينات أصبحت متاحة للغاية بحيث يمكننا تصور مراهقين يجربون مع الفيروسات. في الولايات المتحدة، يمكن لأي شخص يريد البدء في تعديل الجينوم في مرآبه أن يطلب “مجموعة كريسبر- أفعلها بنفسك” على الإنترنت مقابل 169 دولارا، على سبيل المثال. وتأتي هذه المجموعةت مع “كل ما تحتاجه لإجراء تعديلات دقيقة على الجينوم الموجود في البكتيريا في المنزل”. ومقابل 349 دولارا، تقدم نفس الشركة أيضا مجموعة أدوات للهندسة بشرية، والتي تأتي مع خلايا جنينية للكلى من زراعة أنسجة مأخوذة في الأصل من جنين مجهض لأنثى بشرية. وتقول الإعلانات أن وصول الشحنة لن يستغرق أكثر من ثلاثة أيام -ليست هناك حاجة لحاويات خاصة أو أكياس ثلج.
مكنت شذرات من الحمض النووي تم طلبها عبر البريد فريقا في جامعة ألبرتا، في العام 2017، من إحياء أحد الأقارب المنقرضين لفيروس الجدري -فيروس جدري الخيل- من الصفر عن طريق تجميع الأجزاء معا. ومن غير المعروف أن جدري الخيل يؤذي البشر، لكن الخبراء حذروا من أن نفس الطريقة يمكن أن يستخدمها علماء لا يمتلكون الكثير من المعرفة المتخصصة لإعادة تكوين فيروس الجدري -وهو فيروس مروع تم القضاء عليه أخيرا في العام 1980 -في غضون ستة أشهر وبتكلفة حوالي 100.000 دولار. ولو أن العلماء الكنديين استخدموا “كريسبر” لكانت التكلفة ستنفخض إلى جزء صغير من هذا المبلغ.
في كتابي، “السائق في السيارة ذاتية القيادة”، الذي نُشر قبل بعث جدري الخيل وقصة الأطفال الصينيين الذين تم تعديلهم جينيا، حذرتُ من مخاطر تعديل الجينات، وتوقعت أنه سيتعين علينا اتخاذ خيارات صعبة بشأن تقييد تقنيات البيولوجيا التركيبية. عند استخدامها لأغراض خيّرة، يمكن أن تساعد هذه التقنيات في حل مشاكل البشرية -من خلال إيجاد علاج سريع للأمراض، على سبيل المثال. أما عند استخدامها للشر، فإنها يمكن أن تعيث فسادا على مستوى العالم من النوع الذي نقاتله الآن. وهذا هو السبب في أن الكثير من الناس، بمن فيهم أنا، دعوا إلى وقف تعديل الجينات البشرية.
ولكن، ليس مجرد وقف مؤقت: كان ينبغي أن تكون هناك معاهدات دولية لمنع استخدام “كريسبر” لتعديل الجينات على البشر أو الحيوانات. وكان من المفترض أن تمنع إدارة الغذاء والدواء الأميركية الشركات من بيع مجموعات أدوات تعديل الجينات من نوع “افعلها بنفسك”. ويجب أن تضع الحكومات قيودا على المعامل مثل مختبر جامعة ألبرتا. لكن أيا من هذا لم يحدث، ولم تكن هناك أي ضوابط أو قيود أخرى. وقد فات الأوان الآن على وقف الانتشار العالمي لهذه التقنيات -لقد خرج الجني من القمقم.
الآن، أصبح الحل الوحيد هو تسريع الجانب الخيِّر لهذه التقنيات أثناء بناء دفاعاتنا. وكما نشهد مع تطوير لقاحات لـ”كوفيد 19″، فإن هذا ممكن. في الماضي، كان صنع اللقاحات يستغرق عقودا. والآن، نحن على الطريق الصحيح للحصول عليها في غضون أشهر بفضل التقدم في الهندسة الوراثية. وقد استغرق تطوير لقاحات شركات “موديرنا ثيرابيوتكس” و”فايزر”، التي هي الآن في المرحلة الثالثة من التجارب السريرية، مجرد أسابيع فقط. ويمكن تصور إمكانية تقليل هذا الوقت إلى ساعات بمجرد إتقان التقنيات.
كما يمكننا أيضا تسريع عملية اختبار اللقاحات والعلاجات، والتي أصبحت أبطأ جزء من دورة التطوير. لاختبار أعداد أكبر من أدوية السرطان المحتملة بسرعة أكبر، على سبيل المثال، تقوم المعامل في جميع أنحاء العالم بإنشاء مزارع خلايا ثلاثية الأبعاد تسمى “العُضيّات المشتقة من المريض” patient-derived organoids من خزعات الورم. وتستطيع الشركة الرائدة في هذا المجال، “شركة سينغن للأدوية الدقيقة”، اختبار أكثر من 100 دواء على هذه العُضيات، مما يلغي الحاجة إلى استخدام البشر كحقل تجارب. وأعلن باحثون في معهد “ويس” التابع لجامعة هارفارد في كانون الثاني (يناير) 2020 أنهم طوروا أول نموذج بشري لـ”عضو على شريحة” للرئة، والذي يقلّد بدقة فسيولوجيا العضو البشري وتطوراته المرَضية. ويعمل المهندسون في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا على تطوير منصة ميكروية للموائع، والتي تربط الأنسجة المهندَسة من ما يصل إلى 10 أعضاء، ويسمح بتكرار تفاعلات الأعضاء البشرية لأسابيع في كل مرة، من أجل قياس تأثير الأدوية على أجزاء مختلفة من الجسم. ويتم تطوير العديد من هذه الأنظمة التي يمكن أن تسرِّع الاختبار والعلاج. وسوف تقوّي كل هذه التقنيات دفاعنا البيولوجي بشكل كبير.
في الحقيقة، ليس ثمة عودة إلى الوراء لتصحيح أخطاء الماضي. لم يعد بالإمكان إعادة الجني إلى القمقم. ويجب أن نتعامل مع جائحة فيروس كورونا باعتبارها تمرينا كاملا على ما سيأتي –والذي، لسوء الحظ، لا يشمل الفيروسات التي تنفجر من الطبيعة فحسب، وإنما أيضا تلك التي سيقوم البشر بتصميمها عن عمد. ويجب أن نتعلم بسرعة كبيرة بناء نفس أنواع أنواع الدفاعات التي تمتلكها أجهزة حواسيبنا ضد غزاتها. وسيكون الخير الذي قد يأتي من هذا في النهاية هو إيجاد العلاج لجميع الأمراض. أما الشر، فمجرد تصوره مروِّع بما يكفي.
*Vivek Wadhwa زميل متميز في برنامج العمل والحياة العملية التابع لكلية الحقوق بجامعة هارفارد، ومؤلف مشارك لكتاب “من التدريجي إلى المتضاعِف: كيف يمكن للشركات الكبيرة رؤية المستقبل وإعادة التفكير في الابتكار”، الذي سيصدر في تشرين الأول (أكتوبر).
*نشر هذا المقال تحت عنوان: The Genetic Engineering Genie Is Out of the Bottle