Thursday 25th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    25-May-2018

وبالوالدين إحساناً - د. أحمد ياسين القرالة
 
الغد- بداية، وحتى نفهم الآية على وجهها الصحيح، يجدر بنا أن نبين ما هو الإحسان وما الفرق بينه وبين العدل؟ فالعدل هو إعطاء كل ذي حق حقه ومعاملة الآخرين بمثل أفعالهم ومحاسبتهم على أعمالهم. أما الإحسان فهو التنازل عن الحق أو إعطاء غير المستَحق عن طيب نفس ورضا خاطر، فهو فعل ما ليس بواجب، فالإحسان فوق العدل، ولا يكون الإنسان محسناً إلا إذا كان عادلاً، فهو أول عتبة من عتبات الإحسان.
والفرق بينهما أن العدل واجبٌ وهو الحد الأدنى المطلوب من المسلم الذي إذا تركه الإنسان خرج على دائرة العدل وحدود الحق إلى الظلم، والظلم ممنوع ومحرم، لقوله تعالى "وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا".
أما الإحسان فليس له حد معين، وهو ليس واجباً على الجميع، وهو يختلف باختلاف قدرات الناس وأحوالهم وأوضاعهم، فليس كل الناس قادرين عليه، وهو ميدان فسيح للتنافس في الخير والفضل الذي عبر عنه القرآن الكريم بقوله: "وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ".
وقد أمر الله تعالى بالعدل والإحسان وطلب من المسلم يراوح في فعله بينهما، فقال تعالى: "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ" وجعل مرتبة المحسنين في أعلى المراتب وأرفع الدرجات، فقال تعالى: "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ"، وقال تعالى: "وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ".
ولأن الإحسان فوق الواجب وهو يتجاوز دائرة رد الحق إلى مستحقه، جاءت كل الآيات التي تأمر ببر الوالدين مقرونة بالإحسان إليهما وكان ذلك في ستة مواضع من القرآن الكريم، وليس ذلك إلا للدلالة على أن الوالدين لا يجب أن يكون التعامل معهما بالعدل وحده؛ أي بمعيار الحق والواجب، فقال تعالى: "وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا".
وإذا تأملنا هذه الآية، وجدنا الأبناء عاجزين عن معاملة الوالدين بالعدل، فكيف يطالبون بالإحسان الذي هو فوق العدل؟ أي أن من كان عاجزاً عن الأدنى كيف يطالب بالأعلى؟
فالأبناء عاجزون عن رد المثل ومعاملة الوالدين بالعدل، لسبب بسيط وهو أن ما قدمه الوالدان مرتبط بالزمان، والزمان مضى وانتهى لا يمكن الرجوع فيه، فكيف لنا أن نعوض شخصاً حكمنا عليه بالسجن عشرين سنة ثم بعد ذلك تبين لنا بعد ذلك براءته؟ كيف لنا أن نعوضه عن تلك السنوات التي مضت من عمره، وعن الألم والعناء الذي مر به طوال تلك السنوات؟ فذاك غير ممكن أبداً وهو مستحيل عادة.
كما أنه لا يلزم من كون الشيء مكافئاً لغيره في الكمية والمقدار أن يكون مكافئاً له من الأثر والنتيجة، فذاك يختلف باختلاف الظروف والأحوال، فكوب الماء لمَن يشرف على الهلاك عطشاً لا تعدله أنهار الدنيا وبحارها، واللقمة لجائع يصارع الموت لا تعدلها لقيمات الدنيا، فالأمور لا تقاس دائماً بالمعيار الكمي، بل إن المعيار الكيفي هو الذي يحدد قيمتها وأثرها، فقطرة الحليب التي قدمتها الأم لوليدها، كانت تساوي الحياة، فلا تعدلها أنهار من الحليب بعد ذلك، والقرش الذي حرم الأب نفسه منه وقدمه لولده لا يعدله ذهب الدين وفضتها، هكذا تقاس الأمور.
وإذا كان الإنسان عاجزاً عن رد المثل للوالدين؛ أي العدل، فكيف تطالبه الآية بالإحسان؟ وللإجابة عن ذلك، نقول إن الله تعالى طالب العاجز عن العدل بالإحسان في هذه الآية لأمور عديدة: أولها الإشارة إلى أن التعامل في إطار العلاقات الاجتماعية وخاصة مع الوالدين لا ينبغي أن يخضع لمعيار الحق والواجب والمعاملة بالمثل، فالحياة الأسرية لا يمكن أن تدار بهذا الأمر وإلا أصبحنا مجرد موظفين، وصارت أسرنا عبارة عن شركات كغيرها من الشركات ولم تعد أسراً.
والأمر الثاني هو دعوة الأبناء إلى البحث عن أحسن الأساليب وأرقاها في التعامل مع الوالدين، فهم في سن الكبر تختلف نفسياتهم وأحوالهم ويحتاجون إلى نوع خاص من الرعاية البدنية والنفسية، لذلك أمرنا الله تعالى بالصبر عليهما والإحسان إليهما والتطلف في الحديث معهما عند مخاطبتهما، فقال تعالى: "إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا".
فالتعامل مع الوالدين ليس كالتعامل مع أي أحد آخر؛ لذلك أمر الله تعالى بالتذلل لهما والعطف عليهما، فقال تعالى: "وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا".
والأمر الثالث، وهو الأهم من ذلك كله، هو أن يبقى الأبناء ومهما قدموا لآبائهم من خير وفضل يشعرون بالعجز والتقصير عن مكافأتم ورد الفضل إليهم، لذلك أمرنا الله تعالى بالتوجه إليه معترفين بعجزنا وتقصيرنا عن الوفاء بدين ثقيل لهم في أعناقنا، فنطلب منه سبحانه أن يجبر تقصيرنا وأن يستر عجزنا، فهو وحده القادر عليه، فيبقى دعاؤنا الدائم والخالد لهم "وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا".