Wednesday 24th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    26-Jun-2020

أوهام المثقف المدحور

 القدس العربي-علي حسن الفواز

بشيءٍ قريب من الهوس يواجه المثقفُ الوقتَ، إذ يخشى من سيولته، مثلما يخشى إحساسه بالاندحار الشخصي أمامه. تمثيل الهوس يدفعه لاصطناع أفكارٍ قد لا يستعملها، أفكار تسكنها الأشباح والأوهام، وقد يندفع هذا الكائن المُبتلى بالقلق، لاقتراح مواقف من الصعب الثبات عندها، ليس لأن ما يجري حوله يبدو ضاغطا، أو طاردا، بل لأن تلك الأفكار ستكون مُضلَلة، أو متعالية، أو ربما تُزيد من شعوره بالخيبة والخذلان والعجز والضياع، وقد تصنع له مآزق كبيرة، أو تضعه في صراعات استيهامية مع الآخرين/ الجحيم على طريقة سارتر، أو ما يشبه «طواحين الهواء» على طريقة الدون كيشوت، أو مع أعداء دوغمائيين بالمعنى القياسي- الأيديولوجي، أو الفقهي- القامع، والذين لا يملك إزاءهم هذا المثقف أي طاقة للحياد في مواجهة ضواغط ما يفترضه النصّ اليومي، نص المرض، والشيخوخة والسلطة، أو نص الفقيه والزعيم والجنرال، بوصفه صاحب أقنعة السياسي أو النفسي، أو الاجتماعي أو الديني.
صورة المثقف الحالم هي ما تكرست كثيرا في ثقافتنا الاجتماعية، بوصفها صورة للهروب، أو للنفي، أو للتعالي، حتى بدت وكأنها الصورة المثالية، بوصفها تعبيرا عن امتلاك ذاتٍ هاربة، او موهومة أو مستلبة، مثلما هي الصورة الافتراضية للمثقف الصعلوك، والمثقف العبثي والمتمرد، التي تسعى دائما لترسيم أنموذج الإيهام بالتجاوز على فكرة الانتماء، مقابل نزوعها لممارسة الهوس السلوكي والتعبيري، ولتبدو وكأنها تستعيد صورة الصعلوك في التاريخ، تلك الصورة المثالية للبطل الفقير، والحالم والثوري والمطرود والخارج عن القياس العصابي، رغم أنّ هذه الصورة – في الجوهر- تدور حول فكرة البحث عن تعويض، أو إشباع، أو عن المغالاة في الميل إلى استعراض نرجسيته، حيث تموضعها في سياق اغترابي، يتعالق مع ما يستغرقه من أوهامٍ للقوة، أو إحساس بالتعالي والاختلاف عن الآخرين، أو بما يجعل تمثلّه لها، وكأنها دعوة لإباحة اللذة وشبق الامتلاك والثبات في لعبة الوقت، تلك التي تفضح فرادته واختلافه، وعلاقته غير السوية مع الآخرين، فإذا كانت جان بول سارتر قد قال بأن أولئك «الآخرين هم الجحيم» فإن هذه النظرة الفلسفية قد لا تعني مثقفنا المدحور، أو المهزوم في السياسة، والأدلجة، أو في الثورة، ليس لأنه بلا فلسفة، أو لأنّ اندحاره ليس بعيدا عن لعبته الوجودية، بل لأنّ ضآلته، وخوفه، وتاريخ هزائمه الأنطولوجية، تجعله أكثر تماهيا مع الفكرة الجليلة والمقدّسة لـ»الضحية» حيث الإحساس المازوكــــي بالأنوية المهزومة، المطرودة، الواهمة، وحيث الشغف بمواجهة إيهامية للقوة، إذ يكون الهوس بتلك المواجــــهة، هو ذاته الهوس بالضدية، بوصفه لعبة في صناعة الخطاب الصاخب، الذي يجعله أكثر انحيازا وتمثلا للوهم، وللمرجعيات النفسية المُفارِقة التي ينطلق منها، حيث تتجوهر سايكوباثيا الإشباع والتهديد والخوف، وحيث تتحول الحياة إلى متاهة، وإلى بحثٍ هوسي عن لذة الإشباع الغائبة.. وهذا ما ينعكس على لغته، إذ يجعلها مشوشة، تختل فيها الرموز والعلامات، ويصبح وعيه الهوسي بالأشياء هو جوهر خطابه، واعترافه، مثلما هو القناع الذي يصنع له الملامح البديلة، أو الضدية للأشياء.
 
المثقف في المكان.. المثقف في المتاهة
 
من أكثر تداعيات رعب التحول عند « المثقف» هو فقدان الألفة، بما يجعل علاقته بالمكان مسكونة بالفقد، والاستلاب، فلا نظير لها سوى المتاهة، تلك التي تجعله مسكونا بالمطاردة واللاجدوى، حيث يفقد الدلالة، والأثر والمعنى. الغياب في المكان يستدعي البحث عن علامات وجودية، تمارس وظيفة التعويض، والوضوح، وفكّ شيفرات الطلاسم، فالمنفى مثلاً يصلح أن يكون مكانا للعمل والعيش، لكنه غير صالح للوجود الحميم بمعناه الباشلاري، إذ تتحول الصورة أمامه إلى قوة جذب لاشعورية، والعلامات تجرّه الى الذاكرة، حيث تكون- الموسيقى، المرأة، المقهى، العزلة، الطاولة – وحيث تتجمع أمامه الأشياء التي تحضر في وعيه، والتي قد يختار منها ما يغويه، أو ما ينسجم وذاته القلقة والمستلبة، والملعونة بالأوهام الثقافية، حيث تدفعه للتفكير إزاءها بطريقة استثنائية، فهي حافزه العميق على فعل الاستعادة، ولاقتراح عتبات، أو خطوط توهمه بالمسارات، وبالوقت، وبما يجعل من لعبة الكتابة لديه، وكأنها مراودة وانتهاك لعالم يستحق الملاحقة، والبحث عن الغائب في متاهته.
 
من أكثر تداعيات رعب التحول عند « المثقف» هو فقدان الألفة، بما يجعل علاقته بالمكان مسكونة بالفقد، والاستلاب، فلا نظير لها سوى المتاهة، تلك التي تجعله مسكونا بالمطاردة واللاجدوى، حيث يفقد الدلالة، والأثر والمعنى.
 
ضياع « المثقف» إزاء الوقت، يجعله أكثر هوسا بشهوة الكتابة الخادعة، حيث التحول إلى شغف وشبق، وإلى محاولة لـ»تسكين» الوقت، و»لسننة» الأشياء التي تخصّه في الجسد، عبر اللغة، أو عبر استحضار الغائب، بوصفه استيهاما دافعا لمواجهة أشباح الزمن، وعلل العطب، والخوف من الموت الجماعي، كما يحدث اليوم مع كورونا، إذ تبدو الحياة وكأنها لعبة، أو وهم، أو متاهة، وما الكتابة إلّا خديعة، وما المرض إلّا سلطة، وما المشفى إلّا سجن، وما الدواء إلّا سحر. إنها ذاتها لعبة التحوّل العلاماتي للأشياء، التي تتقاطع مع أوهامه المارقة، التي جعلتها كورونا أكثر ضعفا، وأكثر رثاثة، إزاء الوقت الذي يسيل دونما وعي «شقي»، أو وعي متعال، يسعى لإيقافه، أو للسيطرة عليه، أو حتى للكشف عن حمولات سردياته التي تُزيده تضليلا وتعطيبا، وبالتالي تُفقده الإحساس بكتابة الرسالة إلى الآخر، أو حتى الوصية بالمعنى الشرعي، والداعية لاقتسام إرثه وأثره.
الرواية تشبه الرسالة، وقد تشبه الوصية أيضا، حيث تستدعيان حكاية ما، أو فكرة ما، إذ لا يمكن للرسالة أن تكون فارغة، رغم أنها مُصمَمة للآخر، مثلما أن الوصية تُترك للأحياء، والحكاية تفترض قارئا لها، وما بين الآخر الذي يبحث عن المعلومة، والآخر الذي يبحث عن المتعة تتحول لعبة كتابة – الرسالة والوصية والحكاية- إلى خطاب، وإلى شغف بالتخيّل، أو ربما إلى محاولة في استحضار الآخر الغائب عبر اللغة.
كتابة الرواية في سياق التعاطي مع سردية الاستدعاء، تبدو وكأنها رغبة لاواعية، للسيطرة على فكرة المتاهة، أو حتى الموت، إذ تعني المتاهة هنا، العدم، وإلى الإفراط في البحث عن الأوهام، واستدعاء الأشباح بدل الآخرين، وأحسب أن استدعاء كهذا سيكون نظيرا لاستدعاء الموت، بوصف الموت تغييبا، أو عجزا، أو تعويما للمكان، إذ تكون الحياة توصيفا للعلاقة الاستعمالية مع المكان، والذي يعني الوجود والتفاصيل، والآخر، والشغف والحميمية، والرغبة في استخدام اللغة، حيث تلذيذ فكرة النداء، والاستدعاء، والبوح، والخلوة، والاعتراف، والهذيان الشبقي..
 
المثقف الهذياني
 
الفشل السياسي، والعجز الاجتماعي، والاندحار الأيديولوجي، وصولا إلى «الهزيمة الوبائية» قد تكون علامات فارقة لإنتاج صورة لـ»المثقف الهذياني»، التي تمثّل تحوّل الذات المندحرة، إلى ذات مهووسة باللغة والسحر، عبر استدعاء فعل الخطاب، والخبر، والدعاء، استيهاما باستدعاء فعل التطهير التعويضية، والخلاص والبطولة، والمعنى والقوة، والبقاء، مثلما تتحوّل اللغة ذاتها إلى قاموس مشبوك بالاستعارات، وشيفرات البحث عن الآخر المُنقِذ، أو المُخلّص دينيا، أيديولوجيا، أو حتى دوائيا.
سايكولوجيا الهذيان هي قرين بسايكولوجيا البحث في المتاهة، التي يعيشها الإنسان المعاصر، بوصفه الثقافي، أو السريري، حيث تكتسب بعدها التعبيري، من خلال تبرير سردية الفشل والعجز والاندحار، حيث تكون اللغة في سياقها الاستعاري مجالا لتسويغ تلك السايكولوجيا، ومنصةً بلاغية لصيانة الذات المدحورة، عبر إلباسها «ثياب الامبراطور» القديم، الثياب التي لا تستر عريه الواقعي، بل تجعله أكثر تمثيلا لفضيحة الوعي القاصر، أو الوعي المدحور، فصورة البطل القديم، الشهواني، والمتمرد والعبثي، والصاخب في مجونه ونزقه وتعاليه، فقد وجوده، ولم يبق منه سوى الانخراط في الهذيان، بوصفها ممارسة تعويضية، لها أبعادها النفسية، أكثر من الثقافية، مثلما لها نزقها الإيهامي أكثر من الواقعي، حيث تبدو الشخصية الهذيانية أكثر هوسا بوهم القوة، وبنزق الذاكرة الرث، التي لا تُبرر وجودها سوى اللغة، بوصفها وجها آخر لوهم السلطة الضائعة، بما فيها سلطة الأنموذج الأيديولوجي المندحر، أو المثقف المطرود من الجماعة، أو البطل الذي لا نرجسية حقيقية له، سوى نرجسية الكلام، والضجيج والصخب، والتورط في مزيد من المتاهات، وربما سيكون هذا المثقف أكثر انشغالا بصناعة الهتافات، وبشتائم الآخرين والتاريخ والعقائد.
 
٭ كاتب من العراق