Friday 29th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    11-Nov-2020

إشكالية الثقافة النخبوية والثقافة الشعبية

 القدس العربي-مصطفى عطية جمعة

القضية التي يناقشها هذا المقال تتمحور في إشكالية تقسيم الثقافة العربية إلى شطرين: الشطر الأول: ثقافة نخبوية عالمة تقام لها حلقات الدرس، وتصنف فيها كتب النقد والبحث عن أسرار الفصاحة والبلاغة والإعجاز، واستخراج النوادر والدرر، وجواهر الأدب لإمتاع الحكام ومؤانستهم واسترضائهم حينا، ولتعليم الناس أحيانا أخرى. أما الشطر الثاني فثقافة الطبقات الشعبية البسيطة، التي تكدح سعيا لرزقها فيسير شعرها ونثرها في البوادي والأرياف، ينسج باللغة الشفاهية المحكية، ينشأ ويزدهر ويذوي ويندثر في صمت، بدون أن يحظى بمن يرقى به إلى درجة التدوين إلا قليلا مما ذكرنا آنفا.
ومفهوم النخبوية تعني أن هناك علية القوم وسفلتهم، وتعني أيضا أن هناك ثقافة ترتبط بالعلية وتعبر عنهم، مثلما أن هناك ثقافة تخص العامة والبسطاء، وشتان ما بين ما تمتلكه النخبة من سلطة وقوة ومادة ومال ومكانة، يضمن لثقافتها التدوين والحفظ، وحظوظ العامة في الثقافة، وإجبارها على سماع ثقافة النخبة، ووسائلها البسيطة في حفظ مروياتها وسردها وتناقلها.
وفي الحقيقة هذا تقسيم فيه ظلم كبير للثقافة العربية، لأنه ناتج عن رؤية استعلائية تفصل بين النخبوي والشعبي، وهو فصل على غير أساس، فكل ما تنتجه الثقافة، شفاهية أو كتابية، معبر عن روح الثقافة وفئاتها، وبالتالي مرحب بكل ما هو منتوج ثقافي، ولا للفصل والإقصاء، فلا ندون ونحتفي بما يعجبنا ويحظى برضا النخبة أو الصفوة، المرتبطة غالبا بالسلطة وبذوي النفوذ والمال ؛ ونترك ما هو شعبي/ فقير/ هامشي، بدون تدوين أو اهتمام، أما لو تغيرت النظرة بأن كل ما ينتج ثقافيا مقبول، ويعبر عن شرائح المجتمع المختلفة، وبذلك تتغير النظرة المبنية على الفوقية والتحتية إلى الرؤية المتقبلة، ومن ثم تكون الدراسة شاملة لكل ما ينتجه الفرد والمجتمع ثقافيا، وتتحول من نخبة وعامة إلى ثقافة المجتمع كله، وإن ضعفت في فترات، وإن تميزت شريحة عن أخرى، فالثقافة هي الوجه المعبر عن المجتمع بكل ما له وما عليه، أما التمييز فيتم على أسس فكرية وفنية وموضوعية وليس على تمايزات طبقية أو إثنية أو فئوية أو دينية.
إن تراثنا الشفاهي على الرغم من تدوينه تراثيا، هو تراث شعبي، مثله مثل التراث الشعبي المكون للآداب العالمية الشعبية Art Tales، ومن العجيب أن الحكايات العجيبة والأخبار الغريبة في التراث العربي والتي تعالت عليهما الثقافة العربية النخبوية، هو وحده الذي عرف طريقه إلى الآداب العالمية، عن طريق الترجمة والعلاقات التجارية ورحلات الحجيج والحروب الصليبية، إلى الغرب الذين شهدوا ـ في أحكامهم الحيادية ـ بتفرد القصص العربية، عن غيرها من سرديات الهند وفارس، من حيث الكم والكيف، ومن حيث التأثير في الآداب والعالمية.
 
هناك شعوب سرعان ما انتقلت من الشفاهية إلى الكتابية، وهناك شعوب تأخرت، وهناك شعوب ظلت شفاهية واندثرت ثقافتها ولغتها، لأنها لم تجد من يدون لغتها أساسا.
 
فالموروث الحكائي العربي ضخم للغاية، ولو نظرنا إليه نظرة نوعية، من جهة الشفاهية والكتابية، سنجده على قسمين: موروث شفاهي (القصص الشعبي وقصص العامة)، وموروث كتابي (المدون في الكتب) مثل فن المقامة وقصة حي بن يقظان، وفن الرسالة القصصية، والكثرة الكاثرة منه تراث شفاهي شعبي، يخضع لنمط الإرسال السردي الشفاهي، وجاء التدوين للشفاهي كنوع من تقييد النص الشفاهي في إحدى مروياته الشفاهية، وتكرار تقييد مصادر أخرى لم يكن إلا رصدا أو تسجيلا لرواياته المتعددة.
قطعا، فإن الموروث الشفاهي أكثر كمًّا من المكتوب، وفق منطق التطور، لأسباب عديدة ترتبط بالسرد نفسه، ومنتجيه، ومتلقيه. ذلك، أن المنطق الإنساني يقتضي أن يكون الحكي الشفاهي أكثر من المكتوب، فمن السهل الكلام، والكل يمتلك القدرة، مع تفاوت في التعبير والتأثير، وقلما من نجد من يمتلك القلم وموهبة التعبير السردي الكتابي، فعندما نصدر حكما بأن الشفاهي أكثر من الكتابي، لا نضاد الحقيقة ولا التاريخ، وحتى الآن سردياتنا اليومية الكل يشترك فيها بالسماع والرواية والنقل، وكأن الحكي خبز يومي لكل البشر بلا استثناء، وهناك الكثير في الحياة يمكن أن يحكى ويشكل حكايات قائمة، تروى وتتناقل.
كما أن العرب أمة في الأساس شفاهية، اتخذت من السماع والنقل والحديث والحكي سبيلا للتواصل والتسلية والإخبار والمعرفة، تستوي في هذا مع كثير من الأمم والشعوب، مع وجود فروقات بين الشعوب، فهناك شعوب سرعان ما انتقلت من الشفاهية إلى الكتابية، وهناك شعوب تأخرت، وهناك شعوب ظلت شفاهية واندثرت ثقافتها ولغتها، لأنها لم تجد من يدون لغتها أساسا. كذلك نجد الكثير من القصص المكتوبة في التراث العربي في أساسه حكايات منطوقة، بل متداولة على الألسنة، ولا عجب أن نجد كتبا سردية اعتمدت على قصص شفاهية، وحرص مؤلفوها على بنائها بشكل قصصي فريد، منها على سبيل المثال كتاب «البخلاء» للجاحظ، فما هو إلا تسجيل واضح لوقائع حقيقية، سمعها المؤلف، فهي شفاهيات مكتوبة في نص أدبي، جعل مذمة البخل والبخيل أساسه، فلا عجب أن نجد فيه قصصا بأسماء أصحابها أنفسهم، من أجل المزيد من التوثيق، فلم يكتف بذكر الواقعة أو الإشارة إلى أصحابها مع تجاهل الأسماء والأمكنة، وإنما حدد وأشار وعيّن ونبه.
فيمكن أن تتعدد الروايات للقصة الواحدة، فنجد الرواية نفسها بألفاظ مختلفة، ورواة متعددين، كما هو في الحديث الشريف، وفي كثير من النصوص الشعرية والسردية، والأخبار، وهذا يصدق أن تلك القصص حقيقية، وأن كل راو ـ إذا كان صادقا ـ اجتهد في نقلها بشكل أمين، ولكن كلٌ ينقل من وجهة نظره، ووفق حظه من المعرفة، وموقعه السماعي. وهذا أمر يصف السرديات العربية ذات الأصل الشفاهي، وهو الغالب، لإيضاح أن النفس العربية قديما كانت تفضل الحقيقي الواقعي على المتخيل. وبالنظر إلى النخبة العربية القديمة، فإن النقاد العرب القدامى، وكذلك النقد العربي القديم لم ينشغلوا كثيرا بتصنيف مثل هذه الكتابات تحت أجناس أدبية بعينها، فإنّ إطلاق القول في جزئيّات الأجناس الأدبيّة في القرون الهجريّة الأولى كان أمراً غير ميسور على الناقد العربي، بسبب من تعقد تلك الكتب التي اشتملت نصوصا أدبية عديدة، واعتماد بنيتها النقديّة على نظر يوازن بين الأجناس نفسها، فضلاً عن أنها كانت بعيدة عن طبيعة الخطاب البلاغي النقدي، الذي عُرف به العرب، وقد شُغل بمعايير لسانيّة تختلف عن تلك التي بحوزة الحضارات المجاورة للعرب؛ ولهذا لم تظهر جزئيّات الأجناس إلا عند نقاد قلة، في إطار محدّد أيضاً، فالنقد العربي عند القدماء شأنه شأن كلّ خطاب مرهون بزمانه، ومكانه، من الطبيعي أن يخلو من بعض الموضوعات الدقيقة المعروفة في زماننا، على الرغم من أنّ الناقد يوم ذاك كان يتمتع بموسوعيّة واضحة، يأخذ من كلّ فن بطرف.
فكون النقد العربي القديم لم ينتبه كثيرا لتجنيس السرديات، فهذا عائد إلى انشغاله بقضايا أخرى مثل اللفظ والمعنى والنظرات البلاغية ومعالمها، وتحليل وشرح النصوص الشعرية، ولكن لم يسجل وجود إشارات بالرفض للسرديات الشفاهية، أو المكتوبة، بل كانت مكتوبة ومدونة ومنتشرة بين الناس العامة والخاصة، بدون وجود تصنيف نقدي لها، أو لقصور الرؤية نفسها، لأن قضية التجنيس لم تكن حاضرة بقوة في وعي النقاد العرب القدامى.
 
٭ كاتب مصري