الدستور-نايف النوايسة
أرى أن علم الاجتماع حقيقٌ بأن يحمل اسماً جديراً به هو (أبو العلوم الإنسانية..)، ذلك لأن هذا العلم لا يقف عند حدود المصطلح وإنما فيه نبض وافر من كل علم، وانعكاس لطبيعة حياة الأفراد والمجتمعات.
وأعود بالقارئ الكريم إلى التاريخ العربي في كافة حقول الثقافة ليقف عند ابن خلدون ومقدمته الشهيرة في علم الاجتماع أو علم العمران، ويرى إلى أي مدى شكّل فيه هذا العلم أهميته، ولا نستغرب أن يذهب الكثير من المفكرين وعلماء الاجتماع وأساتذة الجامعات إلى ولوج مناحي الحياة من بوابة علم الاجتماع لفهم حياة الناس وفكرهم واتجاهاتهم، ومنه يتمكنون من تفكيك المكوّن الثقافي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي وغير ذلك من مكونات، والإحاطة بكافة التفاصيل والأسباب والنتائج والغايات التي بمجموعها ينشط فيها الإنسان ويفتح صناديق القادم بدقة وثقة ليرى إلى أين تقوده هذه البوابة في ملاحقة الفعل الحضاري الإنساني بكل وجوهه.
فلا عجب أن يتجدد فينا ابن خلدون زمناً بعد زمن، وكلما مر بنا طور ثقافي ويذهب بنا الظن إلى أننا وصلنا إلى نهاية الطريق، فنكتشف بأن ما نفعله ما هو إلاّ جزءاً من تراكم حضاري لا ينقطع منذ آلاف السنين سواء المتعلق بخاصة الإنسان أو بعامة عمله، وعلاقة ذلك بالوطن والدولة والمجتمع والمحيط الكوني الذي يتعقد في كل حين مع موجات (العولمة) والتفنن المذهل في ثمرات التكنولوجيا، وليس بمقدور الإنسان العودة إلى الوراء بعد هذا الفضاء الرقمي الهائل، والمسيرة الحضارية بتسارعها لا ترحم الواقف والمتحير.
في كتاب الدكتور حسين المحادين (علم اجتماع الأحزاب) سواء أكانت أحزاباً أيديولوجية أو وظيفية وضعية في ظل العولمة، نجد فيه ربطاً علمياً محكماً بين فضاءات علم الاجتماع والأحزاب في أي دولة ببرامجها وأهدافها الحزبية والايديولوجية، أو إلى ما تسعى لتحقيقه أو يُراد لها تحقيقه لإدامة وجود الدولة وتجددها.
هذا ما كشف عنه المؤلف في توطئة الكتاب وقد فصّل فيها إلى أن وصل لنقطة الارتكاز الرئيسة التي تنتظر منها الدولة ما يمكن أن تعزز الأحزاب وجودها وهيمنتها وتجدد قوتها وتمكنها من بسط نفوذها على تراب الوطن.
في هذه التوطئة يبين المحادين ضرورة أن يكون هناك علم اجتماع جديد يختص بالأحزاب بعد ولادة الكثير منها، وأن يكشف هذا العلم ما ينتظره المنتسبون إليها من أهداف وغايات ووظائف.
وطرح المحادين أسئلة مهمة بين يدي هذه الدراسة التأسيسية قائلاً: (هل الأحزاب ضرورة وظيفية ولمصلحة من؟)، كما طرح سؤالاً له شأن مهم في إضاءة الدراية: (هل يتضح أمام المحلل والمهتم بالشأن الحزبي ضرورة أن يكون لدينا أحزاب أردنية جديدة في ظل الانقسامات العربية على أساس قطري)، بالتزامن مع تراجع دور الأحزاب الأيديولوجية، وبجوارها أحزاب وظيفية في جانبي المرجعية والتنظيم، ويصل المحادين إلى نتيجة لا مواربة فيها هي أن هذه الأحزاب من صنع الدولة الأردنية ونسجها لتكون ردفاً لها وذراعاً تمدها بالقوة والنشاط، ويُظهر المؤلف قناعاته بالدولة الأردنية التي استحدثت هذه الأحزاب، ويضيف بأن البنية الفكرية للدولة مرنة وذات حضور متطور ملموس.
يطرح المحادين أسئلة دقيقة ومهمة أمام الأحزاب المستحدثة منها (هل تدرك الأحزاب الأردنية الناشئة والمسرعة نحو أخذ حصتها في التمثيل النيابي القادم استناداً إلى قانون الأحزاب الجديد، أي هل تدرك المعاني الفكرية والسياسية المتقدمة دستورياً، وأهمية نشرها على منصات متنوعة لإعلام حزبي متخصص بين الأردنيين، وهم أبناء ثقافتهم الفرعية الأربعة (البادية والريف والمدينة والمخيم). وبين المحادين مزايا تفرده في هذا الإصدار والحديث عن علم جديد يراه بثقةٍ عملاً يحمل معاني الجرأة الأكاديمية والبحثية التي لا تجنح إلى القفزات المتسرعة نحو الشهرة والأضواء وإنما هي سعي علمي وفكري منظّم جاء وليد تجربة حزبية أيديولوجية وتفكير عميق واعٍ ومراجعات متواصلة لأهمية أن يكون هنا علم يحمل هذه الصفة بقصد تحريك الراكد المعرفي والخروج من قبضة النمطية والاتباع، أي أن ما قام به المحادين هو عمل إبداعي في أساسه وتفصيلاته في هذه المرحلة التي لا مفر فيها من العولمة في مسارها التاريخي في زمن محكوم لسيادة القطب الواحد التي تحكم قبضتها على العالم. وكما فعل المحادين في دراسته عن علم الاجتماع والعولمة، جعل علم اجتماع الأحزاب مفتوحاً ومنفتحاً أمام المهتمين لخلق بيئة حوار ونقد علمي تغذي هذا العلم وتدعمه وتعضده بأفكار جديدة، فضلاً عن انتفاع الأكاديميين وطلاب العلم والمعرفة مما طُرح فيه.
وزع المحادين كتابه على ثلاثة أقسام هي:
أولاًـــ التأصيل العلمي والفكري للأحزاب (في بنيتها وأدوارها المستجدة)، ودرس في هذا القسم أهم المفاهيم في علم اجتماع الأحزاب، مثل (علم الاجتماع، الأحزاب، التنشئة السياسية، الحزبي كشخص عام، الأيديولوجي، العولمة، الأحزاب البرامجية، أساسيات علم اجتماع الأحزاب الجديد، الخصائص النوعية لعلم اجتماع الأحزاب، واختصاصاته وأبعاده).
ثانياًـــ وفي القسم الثاني طرح المحادين بين يدي القارئ ستة نماذج تطبيقية وتشكل إضاءات مهمة تُنير طريق هذا العلم من أجل الوصول إلى مبرراته في هذه المرحلة من عمر الوطن.
ثالثاًـــ في القسم الثالث من الكتاب أبان المحادين عن رؤيته الاستشرافية بصيغة التساؤل التالي: (الأحزاب الأردنية عشائرية الدور أم عشائرية النسب) وفي الحين ذاته يبين المرجعيات القيمية والحزبية في المجتمع الأردني.
حمل هذا الكتاب القيم فكرة تأسيس علم جديد في بابه وحثّ المعنيين بالشأن الحزبي والانتخابي والأكاديمي على قراءته قراءة متبصرة للوقوف على أفكاره وكيفية معالجتها وإلى ماذا رمى المؤلف في هذا الجهد الكبير.
إن ما سبق من قراءتي لهذا الكتاب لا يوفيه حقه، وهو قمين بالاهتمام ورؤيته من زوايا أخرى.. كل التوفيق للكاتب المحادين.