Thursday 28th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    05-Feb-2021

«عائدة إلى أثينا» رواية ينسجم فيها زمن السرد مع زمن الحكايا

 الدستور- جمال الشلبي

يبحر الراوي العميق عامر طهبوب بروايته «عائدة إلى أثينا» في غياهب القصة السياسية والرواية التاريخية، وربما أقول: قصة الإنسانية؛ قضية فلسطين وشعبها العربي الباحث عن وطنه، وقد امتلكني انحياز ليس لهدف أو فكرة الرواية فحسب، وإنما لشخوصها الذين أقنعوني بمواقفهم الإنسانية، وأفكارهم العميقة، وكلماتهم المؤثرة بصدقية قضيتهم، كل من زاويته الشخصية، وبالتالي صدقية قضية الراوي العامة، وهي القضية الفلسطينية.
وإذا كان هناك عناصر مثيرة للانتباه، فقد لفت انتباهي الروح النقدية المستندة إلى المكان والزمان والشخوص، فقد استطاع عامر طهبوب أن ينقل القضية المركزية عبر شخوصه من مكان إلى آخر دون أن يغير الإيقاع الفكري والفني والسردي، فهو يرسم حال فلسطين في الشتات بكل معاناتها وتحدياتها وشعاراتها وآمالها وآلامها، فمن برج االبراجنة وبيروت، إلى أبو ظبي وأثينا، إلى عمان والقدس وعكا، وكلها تحكي وترسم فلسطين بروح شخوصها الأبطال الباحثين عن الوطن، وقد أحسن الروائي العمل على التنقل بين الواقع والخيال، وفي هذا قال لقمان أحد شخوص الرواية الرئيسيين: «الرغبة ما زالت تحدوني لأجد مدينة من صنع الخيال أهرب إليها من هذا العالم الظالم، فقدت مدينتي الأم، وطني كله ضاع مني، وقست علي المدن الغريبة. لا سبيل لي إلا بالعودة إلى وطني، وأن أعيش في مدينة من صنع الخيال أهدم فيها كل معبد غريب يقام على أرض الآخرين». إنه يرفض الاحتلال حتى في مدن من صنع الخيال.
وأما شخوص الرواية، فهم يثيروا بنا رغبة الانحياز لهم، ولقضيتهم، ولفكرهم، ومواقفهم، وقد تعاطفت مع شخصية رلا وابنها سامي وهي التي عاشت 23 عاماً في اليونان، وعندما اقتربت من تحقيق حلمها بالحصول على الجنسية اليونانية، وقفت أمام اللجنة المختصة بمنحها الجنسية لتقول: «أنا فلسطينية، ولدت في مخيم برج البراجنة في بيروت من أبوين لاجئين هُجّرا قسراً من بلادهما عام 1948، أمي من قرية ترشيحا، وأبي من قرية مجاورة اسمها الكابري في قضاء عكا، وهي تعبر عن ملايين الفلسطينيين بقولها : «أنا إنسانة ممزقة، أحمل وثيقة سفر لبنانية تضع أمامي الكثير من العوائق، وأما بنها سامي الذي لم يعرف فلسطين، ولا مخيمات اللاجئين في الأردن وفلسطين ولبنان وسوريا، فقد ولد في اليونان، وانضم للجيش اليوناني، فهو يقول: «لأنني شاب مبتور في هذه الحياة، لا أخ لي ولا أخت، وحتى يزداد الطين بلة، فقد انفصل أبي عن أمي التي وجدتُّ فيها القوة واستندت إليها أكثر من أبي».
وتظهر إبداعية الروائي في إبراز معاناة الشعب الفلسطيني، ليس فقط الذي يعيش على الأرض تحت الاحتلال، ولكن أؤلئك الذين يعيشون في الشتات، وهو يبدع في إبراز قوة الفلسطيني على التكيف والانتماء إلى الأوطان المؤقتة، دون أن ينسى وطنه الأم الذي يحلم بالعودة إليه، فهو مخلص للأماكن التي يعيش فيها، والتي تأويه وتشكل محطة من محطات حياته، وهذا ما ظهر في حديث حسن والد رلا وهو يتحدث عن بيروت عندما وقف إلى جانب ابنته على شواطيء بحر إيجه: «الله الله يا رلا، ما أجمل هذا البحر، بشعر كإني في بيروت». تقول رلا: «لم يشبّه أبي بحر أثينا ببحر عكا، ولا ببحر يافا ولا حيفا، لقد عرف البحر في بيروت، وعاش العمر كله فيها. أبي يحنُّ إلى بيروت ويحبها. كنا دائماً نسأله عن تلك العلاقة الوجدانية التي تربطه بها. قال لنا مرّة: خلص، لا تضلّوا تسألوني. ما بتهون علي بيروت، بحبها وبخاف عليها، وعلى أهلها.
وعندما تزور رلا عكا مروراً بعمان التي تسكن فيها يومين، تنزل إلى الأحياء والشوارع، وتتساءل قبل ذلك مع شقيقتها وهما تسيران على شاطيء بحر إيجه مبرزة وفاء الفلسطيني لعمان الأردن، تقول لأختها: «أنا بحب الأردن رغم إني ما شفتها»، فترد عليها الشقيقة: «وأنا كمان، طول عمري نفسي أزورها، الكل بيحكي من الفلسطينيين إنهم ما بحسوا بالغربة فيها، والشعور اللي بيحكوا عنه إنه في «حنيّة» عليهم ما شافها الفلسطيني في بلد تاني».
وتشتمل الرواية على مواقف سياسية متباينة من القضية من قبل أبناء شعبها، ففي المشهد الخامس الذي يحمل عنوان «صدى الصوت»، تقوم حوارات في مكان سياحي بين مجموعة إيطالية، أحدها فابيو سباستيان، الشاب الإيطالي اليهودي، مع شاب أردني تعود جذوره إلى الناصرة، ويبرز طهبوب بذكاء انقسام الشعب الفلسطيني بين تيارين أو رؤيتين للصراع، الأول يقبل بوجود دولتان كما جاء في قرار التقسيم عام 1947 وهذا التيار مثله الشاب الناصري جورج حنا المولود في عمان، وهو يدرس الطب في جامعة أثينا، ويعمل بدوام جزئي دليلاً سياحياً، وتيار آخر تمثله بطلة الرواية رلا، وهو تيار يرفض الحديث مع الإسرائيليين، ولا تعترف بدولة إسرائيل على أي شبر من الأرض وبخاصة أنها تعود بجذورها إلى فلسطين عام 1948، وفي حوار مهم بين سامي مع حبيبته وزوجته فيما بعد اليونانية إيليني ابنة كوستاس كاراكيدس، يتعرض سامي إلى القدس والحديث عن صفقة القرن، فيقول: «إسمعي يا إيليني، أنت تعرفي بأني لم أشاهد القدس بأم عيني لحظة واحدة، القدس تسكن روحي ووجداني كله، عندما تذكر القدس في عقل الفلسطيني، فهي تعني بالنسبة إليه التاريخ والجغرافيا»، وتغوص الرواية في مناقشة مصطلح «فقر الحال» ويتساءل الروائي عن تعريف هذا المصطلح، فيقول: من هو فقير الحال؟ هل هو الفلسطيني الذي هُجّر من أرضه وبيته تحت الإرهاب والقتل ودوي المدافع والبراميل المتفجرة، أن تراه العالم العربي الذي يزداد ضعفاً وهشاشة يوماً بعد آخر؟ ويتساءل: ألا تستحق الجامعة العربية مثلاً بطاقة فقر حال؟ ألا تستحق الدول العربية التي لم تستطع بعد عقود من التحرر من نير الاحتلالات أن تقيم دولة مواطنة حقيقية تسود فيها قيم العدل والمساواة، من أن يتم منحها بطلق فقر حال، أم ترانا كلنا فقراء حال؟».
المرأة في رواية طهبوب وطن، والوطن امرأة، وعند القول بأن الفلسطيني اتخذ من المرأة وطناً بديلاً يتعرض طهبوب بذكاء وجرأة إلى مسألة الوطن البديل، فتتساءل الأخت مع أختها: «يعني ما خوف على الأردن هيك؟، فترد رلا ضاحكة وقد لفت نظرها ربط أختها عبارة الوطن البديل بالأردن: ما في خوف، طول ما شعبك بطالب بفلسطين، وطول ما الألم ساكن قلبه، وذاكرته ما تنسى، وبيرفض أي وطن غير وطنه، ما في خوف على الأردن ولا على غيره»، وقد نجح طهبوب في بث سلاح الأمل في النفوس، والإصرار على العودة عندما وقف لقمان بصحبة زوجته مايا ورلا البطلة على شاطيء «فولغميني» في ضواحي أثينا يوجهون نظرهم إلى البحر الذي يصلهم بشواطيء عكا، فيقول لقمان: «سيأتي يوم والله نفعل بهم ما فعلوا بنا، سنركب هذا البحر، سنأتيهم بكل جنسيات الأرض، سنعود من جميع أنحاء العالم، فلسطينيين بجنسيات الدنيا»، وتؤكد الرواية على ضرورة تعليم الأبناء حمل الراية والمسؤولية تجاه القضية، ولهذا تصطحب رلا ابنها سامي وهو صبي إلى مخيم برج البراجنة في بيروت خلال إحدى العطل الصيفية قائلة له: يجب عليك أن تعرف من أين أتيت، فيقول سامي فيما بعد: عكا تسكنني، لم أصفها يوماً بالمدينة المحتلة، أعجبت أمي بخاطرة كتبتها وأنا في الرابعة عشرة من عمري عندما قرأت عبارة «مدينتي المختطفة».
«عائدة إلى أثينا» رواية جذابة، عميقة في سردها، لغتها رصينة راقصة ممتعة، صورها الإنسانية مؤثرة. غنية بالأسماء والأحداث والأمكنة، ينسجم فيها زمن السرد مع زمن الحكايا، وعامر طهبوب روائي حكّاء خطير، أتمنى عليه أن يترجم رواياته للغات أخرى، وسيكون لهذا الروائي شأن في الرواية العربية الحديثة، وعلامة مميزة في الرواية الفلسطينية.